مجرد شعارات غير محددة وتستخدم في غير محلّها
الثوابت الوطنية
هل هناك ثوابت وطنية؟
ولكن هل هي محددة معرّفة ويلتزم بها؟
في هذه القضايا يقع الخلاف والإختلاف!
فلقد ترددت كلمة (الثوابت الوطنية) خلال العامين مراراً وتكراراً
من قبل الكتاب والصحافيين والناشطين السياسيين بل وبين المسؤولين الحكوميين
الكبار. بيد أن لفظة (الوطنية) جديدة في القاموس السعودي، وكل الكلمات
الملتصقة بمفهوم الوطنية (كالهوية الوطنية، والمصلحة الوطنية، والوحدة
الوطنية) جديدة أيضاً، يصعب تعريفها وتحديدها. لزمن طويل كانت كلمة الوطنية
تعني مضادتها للإسلام أياً كان التعريف لها. وبالطبع لازالت شريحة واسعة
من بين المواطنين ـ السلفيين خصوصاً ـ يرون في مفهوم الوطن والوطنية
تضارباً مع مفاهيم إسلامية كبرى مثل مفهوم الأمّة، وعالمية الإسلام،
ودار الإسلام والكفر، وما أشبه. ربما كان غياب المفهوم الوطني، مصلحة
ورؤية، ولمدة طويلة سبباً رئيسياً في غموضه، وتعدد معانيه بتعدد مستخدميه.
فما هي الثوابت الوطنية التي يتحدث عنها كثير من السعوديين؟
لا شك أن من بين تلك الثوابت: وحدة الدولة، أو هكذا يفترض، مع علمنا
أن هناك جماعات سياسية ودينية ومناطقية لا ترى قيمة كبيرة لوحدة الدولة
نفسها، بل أن بعضها لا يعترف بشيء إسمه (الدولة السعودية) وأكثر من ذلك
هناك السلفيون مثلاً الذين لا يؤمنون بوحدة المواطنين، ولا بمساواتهم،
فالنسخة التي يؤمنون بها من الدين ترى التفريق بين المواطنين على أساس
مذهبي (من جانبهم على أساس ديني) أي أن غيرهم ليس بمسلم في الأصل، وعلى
هذا الأساس لا يقبلون بمفهوم الدولة القطرية الحديثة القائم على مساواة
المواطنين في الحقوق والواجبات. فالكافر الشيعي والصوفي وغيرهما، حسب
رأيهم، لا يحق توليتهما أي من المناصب العامة، بل لا يحق لهما أن يتوليا
مناصب تعليمية، ولا أن ينالا حقوق المواطنة المادية والمعنوية، ولا يحق
لهما أيضاً أن يمارسا معتقداتهما وفق رؤيتهما الدينية المذهبية المختلفة.
إن وحدة الدولة يفترض ان تكون قائمة على وحدة المجتمع. وبقدر ما هنالك
فرقة إجتماعية وتضارب في الولاءات الدينية والقبلية والمناطقية، تتفتت
مقولة وحدة الدولة نفسها. فالتمييز الذي أخذت به الدولة كسياسة عامة،
بناء على الرؤية السلفية التي أشرنا إليها آنفاً، هي التي تقود فعلاً
الى مسألة تمزيق الدولة، وعدم الإعتراف بوحدتها، والمطالبة بالتقسيم
وإقامة الدولة الخاصة بالفئات المختلفة التي كانت سائدة قبل قيام الدولة
السعودية الحديثة.
والقيادة السياسية، حينما تشرعن التمييز بين مواطنيها، فإنها في حقيقة
الأمر (أي من الناحية الفعلية) لا تبالي بوحدة الدولة. وهذا ما كان ولايزال
سائداً، رغم وجود بعض المحاولات لتخفيف النزعة التمييزية التي قامت واستمرت
عليها الدولة منذ نشأتها الأولى قبل سبعين عاماً. ولهذا، حين يستخدم
مفهوم وحدة الدولة وتماميتها وسيادتها على مواطنيها، فإنه يجب الإلتفات
الى حقيقة أن تلك الوحدة لا تقوم إلا على أساس وجود مواطنين متساوين.
وأن من يقوم بتمزيق المجتمع (في هذه الفترة تشير كل الأصابع الى السلفيين
رغم أن القيادة السياسية هي المسؤولة قبلهم) فإنما ينتقص مما يدعيه ثوابت
وطنية.
قد يتكرر الجدل مرة ثانية حول ما يعتقد أنه ثابت (وطني؟) ألا وهو
النظام السياسي الملكي: أي وجود العائلة المالكة ومركزيتها القيادية
في الدولة. فهذه القيادة صنعت الدولة، وهي التي تقودها. لكن، هذه القناعة
قد تبدو مهزوزة لدى الكثيرين لأسباب مختلفة. فالنظام السياسي هو بالقطع
موحد للمجتمع في غير الحالة السعودية. فالخضوع السياسي للدولة من قبل
كل الفئات، يولد إحساساً بالإتحاد ضمن منظومة الحدود والقوانين. ولكن
في غياب حقوق المواطنة، لم يزل الشعب السعودي مفككاً، ولم تزل النزعات
الإنفصالية فيه قوية ـ الى حد ما ـ وبالتالي فإذا كان أصل الدولة يتعرض
للخدش، فإن النظام السياسي نفسه أكثر قابلية للطعن من الدولة نفسها.
العائلة المالكة التي حرمت المواطن من حقوقه الأساسية، أصبحت اليوم في
تضاد معه، ومن هنا فإن احترام النظام السياسي والقبول به على علاته أمرٌ
غير ممكن، ولذا جاءت المطالب الإصلاحية بتعديل ذلك النظام، وإقحام المجتمع
في المشاركة السياسية. وعليه يمكن القول أنه في حال الفشل في اتخاذ هذه
الخطوة السياسية الإصلاحية، فإن العائلة المالكة نفسها ونظامها السياسي
لا يمكن أن يكونا ثابتاً وطنياً مقبولاً، بل أن إزاحتهما لا مناص منه.
هناك اليوم كثرة ترى وحدة الدولة دون النظام السياسي الذي يجب أن
يتغير إما بالكلية أو بالتعديل المستمر عبر الإصلاحات. عدم إمكانية إلغاء
النظام السياسي دفعة واحدة هي ما يجعل المواطنين يطالبون بالإصلاح، وفي
حال تعذر الأمر، فإن الإنشقاق العنفي أمرٌ واردٌ تماماً.
لا مجال لاحترام النظام السياسي ولا لبقائه إلا بإصلاحات سياسية حقيقية،
تجعل المواطن راضياً عنه. ولا يمكن ان تكون العائلة المالكة ثابتاً وطنياً
إلا بقدر ما تلتزم بمفردة الوطنية من حقوق متقابلة بين المواطن والدولة.
في غير هذه الصورة يبدو ثابت العائلة المالكة كأمر وطني مشكوك فيه وقابل
للطعن والتجاوز بصورة متسارعة.
نأتي أخيراً لأحد الثوابت الوطنية، وهو دور الدين، أي إسلامية الدولة
ـ إذا جاز التعبير ـ وهذا يقوله الكثيرون، إما لعجز فيهم عن قلب هذه
الحقيقة، أو لإيمان بأن الدين يشكل عنصراً أساسياً في كينونة المجتمع
والدولة. لكن أي تفسير ديني يمكن أن يتبنّى؟ هذا هو السؤال الذي يقلق
الكثيرين. فالدين اليوم في السعودية بتفسيره الوهابي عامل تمزيق للمجتمع،
وعامل خنق للحريات، وعامل مساعد للإستبداد السياسي، وعامل خلخلة للوحدة
الإجتماعية والوطنية. فهل هذا هو التفسير الذي نريده للإسلام في مجتمع
متعدد كالمملكة؟
إن رفض دور الدين أو المطالبة بتقليصه في المملكة، إنما جاء كردة
فعل على ممارسات المؤسسة الدينية الرسمية. تلك المؤسسة الغارقة في الجهل
والتعصب المذهبي والمناطقي المقيت، المرادف لشرعنة ما تقوم به السلطات
السياسية من تعديات على حقوق المواطنين المادية والمعنوية. لهذا لا يبحث
موضوع الدين بعيداً عن موضوع المؤسسة الوهابية الرسمية، وتفسيرها له،
وهو التفسير الذي ترفضه أكثرية المجتمع السعودي.
ماذا بقي من ثوابت وطنية إذن؟
سؤال مهم بحاجة الى إجابة. فالثوابت التي لا يحميها دستور، ولا يلتزم
بها مسؤول، تبقى ثوابت نظرية الى أن تصبح تلك الثوابت حقيقة مترادفة
مع ثابت حقوق المواطن الذي بدونه لا تبقى أهمية كثيرة للوطن نفسه.
|