الصحوة السياسية للتيار السلفي السعودي
عبدالعزيز الخضر
حين تخلت النخب والقيادات الاجتماعية المتنوعة من الوجوه الجديدة
التي برزت مع الطفرة الاقتصادية عن أداء دورها، والمساهمة في تشكيل الوعي
الاجتماعي والثقافي وبلورة فكر سياسي يتعايش مع تحديات تلك المرحلة ويناسب
طبيعة الجيل الذي يتشكل فكره مع أفول الحقبة الاقتصادية وانشغالها بهمومها
الشخصية ومكتسباتها السريعة في سن مبكرة. مما أدى إلى حالة من الزهد
في الشأن العام والنقد، ونزوع نحو التقليدية في الخطاب ومجاملة الوضع
السائد والسكوت عن أخطائه وأصبح ظهورها الإعلامي سلبيا في خدمة الحياة
الفكرية والثقافية للمجتمع.
ورافق ذلك وجود ثغرات كبيرة في الخطاب الإعلامي الرسمي وأداء لا يشبع
هموم ووعي الجيل الذي يعيش لحظة موجة الصحوة الدينية. كان خطاب الصحوة
وسيطرته على الجو الاجتماعي يتعملق مع مرور الوقت في أجواء هذا الفراغ
قبيل غزو الكويت وبعده، مما ينبئ عن نمو غير طبيعي سيضر بالمجتمع والدولة
والصحوة التي تتحرك في فراغات هائلة دون مقاومة من الاتجاهات الأخرى
ودون أن تتعرض لنقد داخلي من ذاتها لتقويم وتعديل شيء من لغتها الحادة
التي تزداد مع مرور الوقت.
وكانت الضربة التي وجهت للتيارات الأخرى وخاصة فكر وأدب الحداثة من أقوى الضربات التي شلت قدرة التيارات الأخرى على الحركة، وكان أهمها الكتاب الذي قدم له الشيخ ابن باز رحمه الله (الحداثة في ميزان الإسلام) إذ استعملت الصحوة أهم رمز رسمي في المؤسسة الدينية في الصراع مع التيار الآخر، ثم جاءت الضربة الأخرى بعدها بسنوات قليلة التي قتلت البقية الباقية من بعض الناشطين في الثقافة والصحفيين من الجنسين مع أجواء قضية قيادة المرأة للسيارة والتي اتحد فيها رأي فكر الصحوة مع المؤسسة الدينية الرسمية أيضا. وجميع الضربات الموجعة لم تكن بهذه القوة لولا استعمال رموز دينية كبيرة في المعركة، ولم تكن أي ضربة ناجحة لخصوم الصحوة إلا باستعمال العصا الغليظة من الدين الرسمي، ووظفت من قبل الرموز الدينية المحسوبة على الصحوة توظيفا فاق المعقول في أي معركة فكرية وأقحم الجمهور والبسطاء بأشياء فوق قدرتهم على الوعي بتفاصيلها الفكرية والثقافية والدينية.
ويبدو أن الشعور بالقوة كصوت وحيد ومسيطر في الساحة بدأ يخلق طرحا أكثر وثوقية في تقييم الآخرين ومحاكمتهم وبدأ الجمهور يدفع الرموز إلى اتجاهات خارج المنطق الديني والسياسي، فامتزجت روح الغوغاء بعقلية القيادات ولم تستطع التحكم بذاتها، فارتبكت رؤيتها للأمور، وازدادت روح القمع للآخرين، وكانت بعض المحاضرات والدروس تختم أحيانا بأسئلة أشبه بالمحاكمات عبر إصدار الرأي بهذا الكاتب أو ذاك المفكر في الداخل والخارج بكلمات معدودة، وربما مقالة واحدة لا يرضى عنها كافية لانضمامه للقائمة السوداء، الصحوة السياسية بدأت فعليا مع مجموعة محاضرات وخطب لعدد من الرموز مع مضاعفات تحرير الكويت ولم يكن في تلك الفترة تلفزيون يغري بخطابه السياسي والإعلامي ويشبع التساؤلات أو صحف تقوم بمهمة التنوير بقدر من الشفافية التي تحترم عقل القارئ مع وجود أحداث كبرى في المنطقة.
لهذا عندما بدأ الكاسيت السياسي بالوجود والمتحرر من بعض القيود الإعلامية وبروتوكولاتها فقد فرض نفسه ويستمع له الكثيرون حتى لو لم يفسح رسميا، هذه الحرية الخطابية الجريئة أحدثت موجة جذب وإغراء هائلة لجمهور لا يعرف الصحوة الدينية من قبل، حتى إن هناك من التحق بموجة التدين عن طريق السياسة بعد هذا الكاسيت أو ذاك. والمعتاد أن يدخل الفرد موجة التدين بعد موعظة بليغة عن عذاب الآخرة أو القبر، لكن هؤلاء جذبهم (عذاب السياسة) حيث اكتشف الكثيرون منهم فيما بعد أنهم دخلوا لعبة سياسية فوق إدراكهم. كانت بدايات الطرح السياسي مقبولة بحكم أزمة الكويت فيمكن تفهمها لكن إغراء الحكي السياسي وإثارته للجمهور فتح شهية الشيوخ بأن يمزجوا بين الوعظ الديني والوعظ السياسي، ورؤية العالم من خلال قصاصة هنا وفاكس هناك.
لقد كان التنظير ينقصه قدر من منطق الفكر السياسي المعاصر والوعي بقوانين العلاقات الدولية وضرورة عدم إغفال ميزان القوى والمصالح، وخطورة شحن الجمهور بأشياء ومثاليات غير ممكنة، وليست المشكلة هي في الحديث والتطرق للسياسة بقدر ما أن هناك أخطاء جوهرية رافقت هذا التنظير، وعدم التنبه إلى أن الجمهور سيختلط في ذهنه الدين والسياسة، فيتعامل مع التحليل والتنظير السياسي الذي يغلب عليه الظنيات والتخمينات كما يتعامل مع الدين الذي هو آراء قطعية. أوقع الجمهور بفخ الوثوقية لمجرد سماعه هذا الشريط أو ذاك، والكثير منهم ليس لديه متابعات جادة لما يطرح في السوق ووسائل الإعلام المختلفة. والخطورة كانت تكمن أيضاً في أن الصحوة تحث جمهورها المتزايد على مقاطعة وسائل الإعلام الأخرى والزهد بها، سواء بالفتاوى الصريحة أو المبطنة، هذا العزل الذهني ولد تعصبا مذهبياً في السياسة فالحق ما يقوله أشياخهم في قضايا لا يمكن لأحد أن يحسمها لكثرة متغيراتها. لكن هؤلاء الصغار حسمت في أذهانهم وخلقوا عالمهم الخاص عن الوضع الدولي يحللون وينظرون من خلاله كل شيء لتحديد الصواب والخطأ وما يجب وما لا يجب.
في تلك الأجواء بدأت تظهر المعارضة الإسلامية التي ولدت من رحم الصحوة، ولن نتوسع هنا في الحديث عنها، لكن جمهور الصحوة الكبير تعاطف معها أو سكت عنها أو أيدها مباشرة بحكم أنها معبرة عن أيديولوجيا الصحوة نفسها. وكان هذا يعني ضمنا أن الصحوة ربيبة هذا المجتمع وحبيبته في مرحلتها الأولى في عقد سبق أصبحت في معسكر مقابل للدولة والمجتمع بمعنى أنها نقلت جمهورا عريضا في معسكر المعارضة دون أن يشعر ماذا يعني ذلك على أرض الواقع. ومن ذلك الوقت بدأت المشكلات الدينية والسياسية والاجتماعية التي لم تنتهِ بعد. ومع سرعة التطورات وتزايد الجمهور واقتراب زمن التصادم الحتمي، بدأ خطاب الصحوة السياسي يتحدث عن هموم الفرد الدنيوية وحقوقه المعيشية، وهو في الواقع اهتمام متأخر جداً، فرضته ظروف المعركة أكثر من أن تكون في صلب اهتمام الفكر الديني، فلم تكن الصحوة تعنى بهموم البطالة ومشكلات المواطن اليومية بل كانت هذه القضايا من خصوصيات الصحافة، ويترفع عن الحديث عنها الشيوخ الرسميون وغيرهم. الفكر الديني الرسمي والصحوة كانا مشغولين في تأمين حياة الفرد الأخروية أكثر من الدنيوية، وتهذيب أخلاقه وتقويم عبادته.
هذه الحقيقة، والحقيقة الأخرى أن جزءا كبيرا من جمهور الصحوة في مرحلتها الأولى يعرف تفاصيل وهموم الإنسان الأفغاني - مثلاً - أكثر من هموم الإنسان السعودي اليومية، بحكم الإعلام الإغاثي لسنوات طويلة أثناء الأزمة الأفغانية. والاهتمام بتأمين الحياة الأخروية ليس عيباً بل هو هدف نبيل وجزء أصيل من رسالة الإسلام بل هو الأهم في أدبيات الإسلام فليست الدنيا دار مقر، وصلب الرسالة الوعظية تزهد بالدنيا وعدم الاشتغال بها، لكن العيب هو أن يتظاهر البعض في الوقت الضائع باهتمامه في قضايا ليست من مكونات خطابه في مرحلة سبقت ثم يأتي ليزايد الآخرين بقضايا هامشية في رسالته ومشروعه الذي انطلق منه. إنه وعي متأخر فرضته أجواء وضرورات الحشد الجماهيري، فلم تكن الجنة الأخروية كافية لإغرائهم، فكان لا بد من مزجها مع جنة دنيوية كما تعمل أي معارضة سياسية في التاريخ!.
إذ بعد تمزق الفكر الثقافي جاء تمزق الفكر الديني الذي له تفصيل آخر، وانتهى بانشقاقات سياسية انتقل من النخب إلى شريحة واسعة من الجمهور لمجتمع عاش فراغا فكريا سياسيا زمنا طويلا. اللافت في تلك الأجواء الصدامية الغياب الكبير لمثقفي التيارات الأخرى، منهم من ظل يتفرج، ومنهم من دخل المعركة بصورة هزت من احترامه لدى القارئ الواعي.. غيبة طويلة لأصحاب التيارات الأخرى، لم تظهر ملامح الحياة فيها وعودتها للتفاعل مع الأحداث والإصلاح، إلا بعد سنوات طويلة ومع ظهور طلائع الليبرالية الإسلامية في أفق الساحة الفكرية، وبروز أسماء جديدة، ومع موجة اعتدال لبعض الرموز الدينية الذين شعروا بخطأ خطاب تلك المرحلة وتطرفه. ما زلت في سلسلة الحديث عن بعض ملامح التاريخ الذي له صلة بالواقع الذي نعيشه، وستستمر لمحاولة وضع بعض الحقائق التي يبدو أنها بدأت تغيب عند كثير من منظري اللحظة الراهنة، وبدأت تزيف عند أكثر من اتجاه. سأحاول قدر الاستطاعة أن أكون موضوعيا، ولن أجامل أحداً فيها، وقد يكون من حسن الحظ أني لم أتعرض لزمن انغلاق ثقافي في الاطلاع في أي فترة من تكويني الفكري المبكر فتابعت في حينها كل الأطروحات والاتجاهات وهو ما يساعدنا على تصور روح اللحظة التي هي ضرورة لتحقيق قدر من الموضوعية، أما من يريد محاكمة خطاب الماضي في معايير الوقت الحاضر دون اعتبار فارق الزمن فهو تجنٍّ كبير وقراءة مبتورة. ميراث الفترة الماضية احتفظ بكثير من المواد المسموعة والمكتوبة، وظروف المقالة الصحفية أفضل فيها هذا الأسلوب الذي نحاول فيه مزج تطورات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية الرسمية.. والأوضاع الدولية في تلك المرحلة، مع الأخذ في الاعتبار مكونات الفكر الديني بعمومه وسردها بطريقة مجملة ومتداخلة نقرب بها طبيعة الأزمة التي لا نزال نعيش بعض فصولها.
(الوطن، 24/12/2003)
|