خلافات ولي العهد ووزير الداخلية
من يربح ورقة المشايخ؟
المقالة التي نشرتها صحيفة انترناشيونال هيرالد تربيون في الثالث
والعشرين من ديسمبر الماضي للبروفسور المساعد مايكل سكوت دوران حول خلافات
ولي العهد الامير عبد الله ووزير الداخلية الأمير نايف في موضوع الاصلاح
السياسي فتح باب الجدل على القضية المسكوت عنها، أي الصراع داخل العائلة
المالكة ودوره التعويقي لعجلة الاصلاح. ثم جاءت التصريحات التي أطلقها
الأمير نايف بعد نشر المقالة والتي نفي فيها وجود اي خلافات بينه وبين
ولي العهد لتعطي لموضوع الخلاف أهمية اضافية. نشير هنا الى ما قاله الامير
نايف في مجلس خاص بجدة حين سأله أحدهم عن حقيقة الخلاف بينه وبين ولي
العهد ونفى بالقطع وجود اي خلاف داخل العائلة المالكة. إن التصنيف الذي
اعتمده دوران في تجبيه الشخصيتين القوتين في المملكة اي عبد الله ونايف
واعتبار الأول رمزاً للتيار الليبرالي والثاني محرّكاً للتيار التقليدي
الديني يلمس سطح الخلاف الظاهر، فيما لم يبذل جهداً كافياً للوصول الى
الجزء المغمور من طبيعة الخلاف والادوات المستعملة فيه.
إن الخلاف بين ولي العهد ووزير الداخلية ليس جديداً بل يعود في حده
الاكبر الى الاستقطاب الحاد داخل العائلة المالكة على أساس عصبوي، منذ
تبلّور قوة ما يعرف بالسديريين السبعة منذ اعتلاء فهد العرش عام 1982،
حيث يمثل فهد واشقاؤه الستة العصبة الأكثر إستئثاراً بالثروة والسلطة
في مقابل أكثر من ثلاثين أميراً من أبناء الملك عبد العزيز الذين لم
يحظوا بنصيب متكافىء في كعكة السلطة. نشير هنا الى أن العصبة السديرية
أفادت كثيراً من الخلاف الذي نشب بين الملك سعود وولي عهده فيصل عام
1963، حيث حظي الاخير بدعم الملك فهد وأخوته، وبعد اعتلاء فيصل العرش
كافأ الداعمين له في معركته مع الملك سعود بأن مكّنهم من السلطة، فأعطى
الداخلية للملك الحالي فهد واعطى الدفاع لأخيه سلطان، ومنذاك اصبحت الداخلية
والدفاع احتكاراً سديرياً.
أما ولي العهد الحالي الامير عبد الله الذي رأس الحرس الوطني كقوة
عسكرية مؤهلة للعب دور منافس للجيش فبقي منافساً عنيداً للعصبة السديرية،
وقد جذب اليه في السنوات الأخيرة عدداً من الامراء المتضررين..وكان التوازن
الحساس داخل السلطة يملي على الجناحين المتنافسين قدراً من التراضي بما
تحت اليد، من أجل الاحتفاظ بالسلطة سيما حين تبلغ التحديات ذروتها في
الداخل
ومنذ إصابة الملك فهد بجلطة دماغية عام 1996 أدت الى أفول القوة الحاسمة
داخل السلطة، بدأ الخلاف يأخذ شكلاً آخر، حيث انتقلت السلطة بصورة إتوماتيكية
الى الأمير عبد الله، وبات الملك الفعلي للبلاد، ولكن هذا التتويج غير
الرسمي لم يكن مقبولاً لدى العصبة السديرية التي مكّنت نفسها بصورة طاغية
في الجهاز الاداري للدولة، بحيث لم تمنح الأمير عبد الله شيكاً مفتوحاً
كيما يسيّر سياسة البلاد بالطريقة التي يراها كملك، دون الرجوع الى الامراء
الثلاثة الكبار في العصبة السديرية (سلطان وسلمان ونايف)، فقد عكس الصراع
على السلطة نفسه في غياب قرارات حاسمة في موضوعات شديدة الالحاح وذات
علاقة بمصير المواطن والوطن
لقد شكّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر انعطافة حادة ليس في مسيرة
الدولة فحسب بل وفي إتجاه الصراع على السلطة وطبيعته. فقد أملت الظروف
المحلية والدولية أن يمارس ولي العهد دوراً أكثر فعالية وحسماً، فالأزمات
التي شهدتها البلاد على المستويات الاقتصادية والاجتماعية واخيراً الأمنية
والتي يتحمل فيها الامراء السديريون النصيب الأوفر من المسؤولية في وقوعها
فرضت على المسؤول المباشر والأول في الدولة تقديم حلول لمشكلات المواطنين
اليومية، كما أن الضغط الداخلي من أجل الاصلاح السياسي وتعويل دعاة الاصلاح
على دور ولي العهد في قيادة مشروع التغيير الديمقراطي في الدولة وضعه
أمام تحدي إثبات الجدارة بكونه الأقدر على إتخاذ القرار المناسب والتاريخي
في هذا الشأن. وينبع هذا التحدي من حقيقة كونه يواجه ضغوطات شديدة من
العصبة السديرية التي ترى بأن قطار الاصلاح لن يتحرك بدون تسوية داخلية
واتفاق جماعي يكفل قسمة متعادلة للحصص.
ولاشك أن الظروف المعقّدة التي شهدتها البلاد منذ الحادي عشر من سبتمبر
والتطورات المتلاحقة تفرض حلولاً من نوع آخر، إذ لم تعد فيها الحلول
الجزئية أو الهروبية قابلة لأن تضع حداً للأزمة الشاملة التي عاشتها
البلاد والتي وضعت ولي العهد في واجهة الاحداث، وأصبح هدفاً لدعاة الاصلاح
في الداخل ولدعاة محاربة الارهاب في الخارج. أما بالنسبة للعصبة السديرية،
وبخاصة الامراء الثلاثة سلطان ونايف وسلمان فبقوا الى حد ما خارج دائرة
التحدي الى أن بدأ الأمير عبد الله في تنفيذ تعهداته ووعوده للخارج في
اجتثاث جذور الارهاب في الداخل وهكذا البدء بتشييد البنية التحتية للاصلاح
السياسي والذي بدأ في أولى مراحله التمهيدية باللقاء الوطني للحوار الفكري.
لقد ظهر الخلاف بين الامير عبد الله والامير نايف في موضوع مكافحة الارهاب
منذ قرر ولي العهد عملياً تنفيذ خطته، فبعد عودته من زيارته التاريخية
لموسكو وتشاوره مع القيادة الروسية حول موضوع نشاط جماعات جهادية سعودية
في الشيشان، سأل ولي العهد الأمير نايف خلال جلسة مجلس الوزراء حول الاجراءات
التي اتخذها لمكافحة الارهاب فرد عليه قائلاً: إذا توقف الحرس الوطني
عن دعم هذه الجماعات فحينئذ سنقضي على الارهاب، وقد أثار بذلك غضب الامير
عبد الله، الامر الذي أدى الى اخراج جميع الوزراء من المجلس من اجل احتواء
المشكلة.
أما في موضوع الاصلاح السياسي، فقد بدا واضحاً أن الأمير نايف يميل
الى إستعمال الخيار الأمني في معالجة الازمات الطاحنة التي تمر بها الدولة
بما في ذلك الأزمة الدستورية والسياسية الداخلية. وفيما كان تعامل ولي
العهد مع دعاة الاصلاح في تجربتي العريضيتين الاوليين (وثيقة الرؤيا)
و(دفاعاً عن الوطن) لبقاً الى حد كبير وإن لم يفض الى خطوات عملية، فقد
تبدّل التعامل مع عريضة (الاصلاح الدستوري أولاً) حين قرر أمراء العصبة
السديرية وبخاصة الامير نايف والامير عبد العزيز بن فهد والى حد ما الامير
سلطان الدخول على الخط بذريعة أن الامير عبد الله (سيضيّع ملك آل سعود)
بطريقة تعامله مع هؤلاء!. فكان اللقاء الذي دعا اليه الامير نايف وضم
نخبة من موقعي العريضة الاخيرة يتسم بالغلظة والشدة والتهديد، وقد سبق
اللقاء محاولات قام بها الامير عبد العزيز بن فهد والامير نايف مع بعض
الموقعين لثنيهم عن التوقيع على العريضة أو نشرها.
ورقة العلماء في الخلاف
قبل الحادي عشر من سبتمبر كان الامير عبد الله الأقرب الى العلماء
والرابح الأكبر لورقة المؤسسة الدينية بعد أن ظهرت مخالفات العصبة السديرية،
وبالأخص وزارة الداخلية التي تعاملت خلال عقد التسعينيات بقسوة شديدة
مع التيار الديني المطالب بإعادة بناء الدولة على أسس شرعية كما ورد
في (مذكرة النصيحة) والتي نالت تأييداً واسعاً وسط التيار الديني السلفي،
وتعرض بسببها معدّو المذكرة الى تنكيل وزارة الداخلية. وليس ثمة حاجة
للقول بأن هذا الدور يندرج في سياق التوافق العصبوي حيث كان الملك فهد
يمسك بزمام الأمر، وأن ما قام به الامير نايف هو رد الفعل الطبيعي للدفاع
عن امتياز العصبة وحريمها الخاص.
غير أن صورة التحالف مع العلماء قد تبدّلت بعد الحادي عشر من سبتمبر،
حيث تم فتح الملفات القديمة المتعلقة بدعم مشروع الجهاد الافغاني والجماعات
السلفية المتشددة المنبعثة على التراب الافغاني والتي انطلقت منها الى
أصقاع عديدة من العالم، ونفّذت فيها مشاريعها الجهاديه. فقد ورث ولي
العهد أخطاء سياسات الماضي، التي أدارتها العصبة السديرية، وبات عليه
تصحيح تلك الاخطاء وإن أفضت طرق المعالجة الى إثارة حفيظة أو غضب التيار
الديني، فتبعات الماضي لا تحتمل تغييرات سطحية، كما أن الاخطاء الكارثية
التي ارتكبتها جماعات محسوبة على السعودية في بلدان عديدة بما فيها حوادث
نيويورك وواشنطن فضلاً عن الصومال وكينيا وغيرها لا تقبل الحلول الترقيعية،
فهناك ثمة مسؤوليات كبرى تملي على المسؤول الأول والمباشر في الدولة
الاضطلاع بها للحيلولة دون تكرار مثل تلك الحوادث والتي شهدت البلاد
بعض صورها الدامية.
ومن الطبيعي أن يبدأ ولي العهد بمصادر التغذية الايديولوجية لماكينة
الارهاب، فقد ظهر بوضوح شديد أن المنهج التعليمي الرسمي يشتمل على مواد
دينية تحرّض على الكراهية ضد أتباع الديانات الأخرى، ولابد من إعادة
تنشئة الأجيال الجديدة على أسس مختلفة، ولابد أيضاً من القبول بالرأي
والرأي الآخر واعتماد مبدأ الحوار كوسيلة للتعايش وحتى التغيير وليس
الاستئصال والنفي المطلق لكل ما هو مختلف، وهذا يصطدم مع النزعة العامة
لدى التيار الديني السلفي المتحصن خلف عقيدة طهرانية تنزيهية تلزم كل
المنتمين الى غير طريقتها أن يجحدوا بما هم عليه وان يعتنقوا العقيدة
الصحيحة الممثلة في السلفية الوهابية.
ولعل من سوء حظ ولي العهد أن يدشّن مشروعه الاصلاحي بالجانب العقدي،
لأنه الجانب الذي ترجم نفسه عملياً في مناطق عديدة من العالم، وهذا ما
سمح للعصبة السديرية تأليب التيار الديني عليه، حيث بدأ ينظر اليه بعض
المتشددين باعتباره ممالئاً للنصارى على حساب الاسلام. إن الستار العلمائي
الذي تخفى خلفه الامير نايف لادارة صراعه مع ولي العهد قد مكّنه من الظهور
بأوجه متعددة، ومن لعب دور مزدوج يمنحه القدرة على الانتقال السريع من
جبهة الى أخرى دون أن يخلّف وراءه مستمسكاً يدينه. فهو من جهة قد أبدى
تعاوناً منقطع النظير مع فرق التحقيق الاميركية في موضوع ملاحقة الجماعات
الارهابية في الداخل، وشارك في تشكيل فرق أمنية مشتركة سعودية ـ اميركية
لمراقبة وملاحقة المتسللين عبر الحدود اليمنية السعودية، كما أبدى استعداده
لخوض المعركة الدامية حتى النهاية ضد الجماعات المتطرفة في الداخل، ولكنه
في المقابل كان على استعداد لتوفير غطاء أمني ومالي لتيار التشدد أن
يعبّر عن مواقفه وأن يتحرك خارج الحدود وداخلها. وهناك موضوعان رئيسيان
يتعاطى الأمير معهما بطريقة مختلفة: الاصلاح السياسي والاجتماعي في الداخل
والنشاط الارهابي في الخارج، وهما يمثلان خط اللقاء بين الامير نايف
والعلماء والتيار الديني بصورة عامة.
لاشك أن الاصلاح السياسي يمثل تهديداً مباشراً للعصبة السديرية التي
ستخسر جزءا جوهرياً من ثروتها وسلطتها فيما لو بدأ الاصلاح بوتيرة صحيحة
وعملية، ومن الطبيعي أن تلتزم العصبة بموقف متشدد حيال الاصلاح حتى في
حدوده الضيقه، ولكن اذا ما اضطرت للتعبير عن موقفها بطريقة دبلوماسية
فإنها تكون أميل الى الاصلاح البطيء والمتدرج ما يجعلها قادرة على ادارة
التحوّل وتقليل الخسارة في الامتيازات السياسية والاقتصادية. وهنا تلتقي
نزعتان: نزعة العصبة السديرية ونزعة العلماء، الذين باتوا ينظرون الى
الاصلاح وكأنه مشروع علمنة للدولة. إن التقاء هاتين النزعتين ساعدت العصبة
السديرية على تحقيق إستثمار أفضل لورقة العلماء وللتيار الديني المحافظ
في مواجهة المشروع الاصلاحي.
وليس من قبيل الصدقة أن يحتجب أعضاء هيئة كبار العلماء عن حضور اللقاء
الوطني للحوار الفكري في دورتيه الاولى والثانية، وأن يمتنعوا عن ابداء
وجهة نظر ايجابية حيال اللقاء الذي حظي بترحيب شعبي واسع. على العكس
من ذلك هناك إشارات عديدة صدرت من المؤسسة الدينية برفض مبدأ الحوار
ما لم يؤد الى تنازل المشاركين من المذاهب الاخرى عن شركياتهم وضلالاتهم.
كما أن هناك من الشخصيات الدينية مثل الشيخ سلمان العودة من قرر الانسحاب
من الدورة الثانية والانضمام الى فريق العلماء الممانعين لأي نوع من
اللقاء الفكري.
ثمة اشارة خفية ولكن ذات أهمية ظهرت في بيان هيئة كبار العلماء حول
ضحايا الحج لهذا العام حيث بلغ عدد من قضوا نحبهم في حادث الاختناق والدهس
ما يربوا على الـ250 حاجاً. فقد كانت لهجة البيان تبريرية الى حد كبير،
حين طالب أعضاء الهيئة في بيانهم ذوي الضحايا والمسلمين عموماً بتثبت
الحادث في إضبارة (القضاء والقدر)، وأن عليهم التسليم بما قدّره الله
عليهم وقضاه، بما يخلي مسؤولية وزارة الداخلية صاحبة الدور الأكبر في
تنظيم شؤون الحج، وحين يوضع البيان مع بيان المفتي العام للمملكة ضد
النساء المشاركات في منتدى جدة، تصبح القضية ذات معنى آخر، وهو ما سنحاول
في السطور تسليط ضوء كثيف عليه كونه يمثل حالة فريدة في تاريخ السعودية.
فقد أصدر المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بياناً
استنكارياً في العشرين من يناير الماضي ضد النساء السعوديات اللاتي شاركن
في المنتدي الاقتصادي العالمي في جدة في الفترة ما بين 17 ـ 18 يناير
الماضي، على اساس اختلاطهن بالرجال وظهور بعضهن في هيئة غير محتشمة كما
توحي عبارات البيان. وقال بأن النساء خالفن قوانين الفصل واللباس التي
تقرّه الشريعة الاسلامية بحسب التفسير الوهابي. وقال المفتى بأن تصرف
النساء يدعو للانكار. كما شجب تصرفات النساء ونشر صورهم في إعلام الدولة
وعدّ ذلك مخالفاً للشريعة الاسلامية. كما حذر المفتي من النتائج السيئة
التي تنشأ عن مثل هذا التصرف المثير للغضب. وأضاف بأن هذا الحدث حصل
في بلاد الحرمين الشريفين، وأن قيادات هذه البلاد كانوا في الماضي يتمسكون
بالشريعة الاسلامية دون خوف من النقد.
إن هذا البيان الغاضب للمفتي الذي أصدره بصورة علنية ودون التشاور
مع العائلة المالكة أو إيصال إحتجاجه اليها بصورة خاصة يشي بمأزق قادم
في العلاقة بين المؤسسة الدينية والحكومة.
حين يدرج البيان الى ما قاله الأمير عبد الله في الحادي والعشرين
من يناير الماضي بأن مشروع الاصلاح قادم وأن المملكة ستعتمده بصورة تدريجية،
فإن ثمة انفلاقاً في الموقف الرسمي على المستويين السياسي والديني. فالمملكة
الواقعة تحت ضغط من الولايات المتحدة ومن التيار الاصلاحي الوطني العام
في المجتمع منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 تجد نفسها أمام تيار مضاد
لعملية الاصلاح من جانب العلماء والجماعات المحافظة، ما يجعلها تسير
بخطوات حذرة باتجاه الاصلاح.
يلمح بيان المفتى الى أن خطط ولي العهد من اجل ادخال اصلاحات الى
البلاد ستواجه معارضة عنيدة من قبل علماء البلاد الذي كانوا على ولاء
للحكومة منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. ومن المرجح والحال هذه
ان تستثني الحكومة العلماء في مشروع الاصلاح فيما يرى هؤلاء العلماء
بأن هذا المشروع يسير في اتجاه معاكس مع النموذج الطهراني للاسلام الممثل
في الوهابية. وفي نفس الوقت، فإن العائلة المالكة لا تستطيع الوقوف ضد
مشروع الاصلاح ما لم تدخل في نزاع مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
وهذا سيقود الى صراع أهلي في المملكة.
ويعتقد كثير من المراقبين بأن بيان المفتي يشير الى أن محاولات ولي
العهد في الحداثة ليست مقعّدة بدرجة متينة مع حلفائه داخل المؤسسة الدينية
وتمثل مصدراً كامناً للنزاع الأهلي في المملكة. وهذا بدوره سيؤدي في
نهاية المطاف الى تقوية موقف التيار المتشدد في البلاد، الذي يؤكد على
أن النظام السعودي بات يقدّم تنازلات حداثوية على حساب الاسلام.
وقد تحدث العلماء بصراحة ضد النظام في مناسبات عديدة الا أنها المرة
الأولى في تاريخ السعودية أن يقوم المفتي العام (والذي يتحدر تقليدياً
من عائلة آل الشيخ) بإعلان موقف صريح ومتعارض بصورة واضحة مع سياسة الحكومة
الرسمية.
وحتى الآن، فإن العائلة المالكة تعتمد على العلماء وخصوصاً أولئك
المتحدرين من آل الشيخ من أجل توفير الغطاء الديني لسياساتها ومواقفها.
وهذا الدعم الذي يوفره العلماء شمل السماح للقوات الأميركية بالاقامة
في المملكة خلال الغزو العراقي للكويت في عام 1990، على أساس أن العائلة
المالكة تحكم وفقاً للشريعة الاسلامية ولذلك فإن لديها حقاً الهياً في
الحكم. وعلى أية حال فإن التغييرات التي إعتمدها النظام في سياسة ما
بعد الحادي عشر من سبتمبر ـ والتي كان ينظر اليها من قبل السعوديين وكأنها
استسلام الاسلام للغرب ـ بأنها أضرّت الحلفاء القريبين للعائلة المالكة
بما في ذلك العلماء من آل الشيخ الذين وفّروا المبرر الشرعي القانوني
والديني لكثير من تصرفات النظام لأكثر من قرنين من الزمن. ان المفتي
بوصفه الشخصية القيادية في المجموعة قد اضطلع بدور فاعل في معارضة قوية
لتجمع تم تحت رعاية واشراف الحكومة والذي يندرج في سياق سياسة الاصلاح
الاجتماعي الجديدة.
في رد فعل على انتقادات المفتي العام، قالت ريم عبد العزيز الجربوع
المستشارة في العلاقات الدولية في الغرفة التجارية والصناعية بجدة بأن
النساء لم يقمن بعمل منافٍ للاسلام. ولو لم تكن السلطات ـ السعودية ـ
تريد هذا المنتدى أن يستمر لتمكنت من إيقافه.
وهناك من يعتقد بأن ثمة كثيرين غاضبين بشأن التغييرات الحاصلة في
منهج التعليم وحملات النقد المتواصلة في الغرب ضد الوهابية. وهذا الموضوع
قد أشعل فتيل الغضب لدى علماء الدين المحافظين الذين كانوا فيما مضى
موالين للسلطة. فالبيان الصادر عن 156 عالم دين حول التغييرات الجديدة
في مناهج التعليم والغاء بعض المواد الدينية التي تحرض على العنف والكراهية
ضد الاديان والمعتقدات الاخرى، قد يلبي جزءاً من التطلع للتيار الديني
ولكنه يمثل إحدى الاستثمارات السياسية لدى العصبة السديرية في صراعها
ضد الاصلاح بمعناه الواسع.
ن الرسالة التي يحاول المفتي ايصالها الى العائلة المالكة ترمي الى
تنبيه الحكومة الى ضرورة التراجع عن المشروع الاصلاحي أو مواجهة خطر
الفوضى العارمة في البلاد. ولاشك أن هناك علماء آخرين من أوصل للشيخ
عبد العزيز آل الشيخ معلومات حول ما جرى في منتدى جدة والهيئة التي ظهرت
بها النساء ولابد أنهم اقترحوا عليه بأن يتخذ موقفاً صارماً ازاء ما
اعتبروه خروجاً على الشريعة الاسلامية في السعودية. ولذلك فإن الضغط
المتزايد من داخل الدائرة التي ينتمي اليها المفتي قد أجبرته على اصدار
هذا البيان. يضاف الى ذلك، أن البيان نشرته وكالة الانباء السعودية الرسمية
والتي أوصلته الى وسائل الاعلام والصحافة المحلية. نشير هنا الى أن ما
ينشر من قبل وكالة الانباء السعودية يتطلب موافقة مسبقة من المراتب العليا
في السلطة، وهذا يعني بأن البيان لم يحصل فقط على موافقة المفتي العام،
الحائز على رتبة موازية لعضو مجلس الوزراء، بل هناك من كبار الأمراء
من أمضى على نشره وربما أصدر أمراً بذلك.
إن السماح بنشر بيان المفتي العام في وسائل الاعلام الرسمية يلمح
الى الدور الخفي الذي تلعبه اطراف داخل العائلة المالكة في تحقيق بعض
اهداف الصراع على السلطة، وفي ذلك ارضاء لحليف ديني قابل للاستعمال ككابح
لعجلة الاصلاح، بما يجعل الامير عبد الله تحت ضغط شديد من قبل المؤسسة
الدينية، الذي بات يدرك بأنه غير قادر على اقناع العلماء بالقبول بالاصلاحات
الجارية، ولكن لابد له من تقديم تنازلات للنخبة الليبرالية والوطنية
من أجل دعم مشروع الاصلاح. ولكن السؤال الى متى؟ من خلال تحليل تصريحات
الامير عبد الله الأخيرة ندرك بانه غير قادر على مقاومة الضغوط المفروضة
عليها من خارج الحدود وهذا بدوره قد يؤدي الى صدام مباشر مع العلماء.
ابتداءً يمكن القول بأن وقف الحرب سيتم حيث يدفع الحكام السعوديون البلاد
في اتجاه واحد وأن العلماء يجرونها الى الاتجاه المعاكس. فالبنية السياسية
السعودية تفتقر الى إعدادات مؤسساتية معقدة كالتي موجودة في ايران، والتي
تسمح باحتواء او تخفيف حدة الخلافات بين القوى الليبرالية والمحافظة.
وعليه فمن غير المحتمل أن يقدر الأمير عبد الله على التصرف باعتباره
القيادة الايرانية العليا كآية الله علي الخامنئي والتحكيم بين جانبين
من أجل التوصل الى تسوية تفاوضية. وأكثر من ذلك، فإن الفهم الجامد للاسلام
من قبل علماء المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة لا يسمح بأي نوع من
المصالحة فيما يتصل بالقيم الكبرى الاصلية.
وهذا يضع العائلة المالكة في وضع مربك، بما يحمل من مؤشرات فوضى في
المملكة في المرحلة القادمة. وقد يحث هذا الوضع العناصر الجهادية المتشددة
للقيام بأعمال احتجاجية مستفيدة من هذا الوضع، وقد تدعو الى مظاهرات
وربما تجد في هذا الوضع المضطرب فرصة لتنفيذ هجمات ضد مؤسسات الدولة.
وقد تساهم بعض الاجهزة الأمنية في دعم المعارضة في هذا المشروع. فهناك
تيار داخل الدولة السعودية غير مسرور بسياسات العائلة المالكة وقد اختار
أن يعبّر عن مواقفه بصورة علنية. فمساحة المعارضة كما يظهر قد توسّعت
لتشمل الى جانب قطاعات محددة داخل المجتمع أجزاء من الدولة نفسها. وهذا
من شأنه أن يتسبب في إحداث خلخلة للبيت السعودي الحاكم.
ومن أجل دفع المشكلة خارج الحدود فإن ثمة تعاوناً من نوع ما بين التيار
الديني بكافة أطيافه والاجهزة الأمنية، وهذا التعاون بدأ يتعزز منذ التغييرات
الحاصلة في العراق، حيث بدأ تركيز غير مسبوق على الاهتمام بالقضية العراقية
التي لم تكن في يوما ما مدرجة على قائمة المناطق المرشحة لعمل الجماعات
المتشددة، بل وللتيار الديني السلفي.
وهذا يستعيد بعض ما ظهر منذاك حيث تشكلت لجنة للدفاع عن المسلمين
في العالم والتي قدّر لها أن تموت بعد نشر بيانها الاول كإحدى التجهيزات
العاجلة والاحيتاطية للتطورات السريعة في منطقة الخليج. ثم صدور بيان
(مجموعة من العلماء وطلبة العلم) في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 2002
حول المخططات الأميركية في المنطقة، وبخاصة مخطط الاطاحة بالنظام العراقي
والذي أعرب فيه موقّعو البيان عن قلق شديد من أن يؤدي ذلك الى استهداف
السعودية وتصفية (العقيدة الوهابية).
هذه التنبيهات المبكّرة تشكل الدفعات المعنوية الاولى التي حفّزت
دعم نشاط عناصر سلفية متشددة للعمل في صفوف حركة المقاومة في العراق،
فإذا تذكرنا بأن فشلاً ذريعاً قد أصاب أجهزة الأمن السعودية في منع أو
القبض على المتسللين من الحدود الشمالية، فإن هناك ثمة تقارير تحدثت
عن جماعات تتلقى دعماً مادياً وأمنياً من قبل أجهزة الامن السعودية ومن
بعض الامراء (ويشار هنا الى الأمير نايف شخصياً) فإن الغرض من ذلك كله
هو تصدير مشكلة الداخل الى خارج الحدود واشغال الخصم المحتمل بأزمة تمنعه
من التفكير في نقل تجربته الى الجوار.
|