أزمة «البرادايم»
التجابه بين السلطة السياسية وقاعدتها الوهابية
محمد شمس
حين يصبح الخارج شأناً محلياً، لا يعني فقط أن ثمة
في الدولة من يدفع الناس لإفراغ فائض سخطهم خارج الحدود،
أو حتى صرف الأنظار عن مشكلات داخلية. وفي بلد يعارض فيه
أهل الحكم تعاطي الناس النقاش السياسي في أي مستوى، وتكاد
تصبح السياسة محتكرة بصورة كاملة من قبل الطبقة الحاكمة،
يصعب تقديم إجابة حاسمة، ومن وجه واحد، بأن الإنشغال بقضايا
خارجية تمثّل أحد مصارف الاحتقانات الداخلية، وفي مفاعليها
النهائية هي مصدر لتماسك السلطة واستقرارها.
في عالم شديد التداخل، وفي ظل الثورة الإتصالية الكونية،
بات في حكم المستحيل الفصل بين ما هو محلي وخارجي على
المستويات كافة. بكلمة أخرى، لم تعد السياسة شأناً محصوراً
في فئة أو مكان.
|
|
فشل النموذج الجهيماني المهدوي |
في المملكة السعودية، فإن التعارض بين السلطة السياسية
وجمهورها الديني إزاء قضايا خارجية كان نادراً، إذ كان
التطابق المعطوف على استقالة المؤسسة الدينية، مصدر التوجيه
للجمهور، وتماهيها المطلق مع الطبقة الحاكمة، وعزوفها
عن الانشغالات السياسية، ولاسيما الخارجية منها، يحول
دون وقوع التناقض بين الطرفين.
منذ إعلان المملكة السعودية في سبتمبر 1932، نجح الملك
عبد العزيز، عقب إخماده حركة الإخوان في معركة السبله
في 30 مارس 1929، في تقليل فرص التمرّد وسط التيار السلفي
الوهابي. وإن بوادر الاعتراض التي تسرّبت الى العلن من
داخل المؤسسة الدينية، كانت تأخذ في الغالب طابعاً فردياً،
مثل الموقف من تعليم الإناث، أو إدماج قوانين من تشريعات
غير إسلامية في بنية النظام التشريعي المحلي. وحتى اغتيال
الملك فيصل في 25 مارس سنة 1975 على يد إبن أخيه الأمير
فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، فإن الفرضيات المطروحة:
مؤامرة أميركية، ثأر عائلي، تحالف قبلي، لم تغيّر في حقيقة
الطابع الفردي للواقعة.
كانت تجربة «الجماعة السلفية المحتسبة» التي برزت إلى
السطح في الستينيات والسبعينيات الميلادية أول جماعة اعتراضية
غير حكومية من داخل التيار السلفي الوهابي. لم تنل التجربة
حظّها الكافي من الدراسة، يتجاوز القراءة المايكروسوسيولوجية
التي تقتصر على فحص الجماعة من داخلها، تركيبتها، وخطابها،
الأمر الذي يؤول الى التعامل معها بكونها حالة معزولة،
ومقطوعة الصلة بما قبلها والمترافق معها. لم تكن الجماعة
بقيادة جهيمان العتيبي نبتة طارئة، بل مثّلت تطوّراً طبيعياً،
وفي لحظة ما ذروة لتفاعل عميق سوسيوـ ديني. فالجماعة لم
تعمل خارج البيئة التي نشأت فيها، بل كانت متعايشة مع
حاضنتها المجتمعية، ومتصالحة مع أفكارها، وحتى أهدافها،
قبل أن تعتنق خيار الصدام المسلح.
برغم من فشل الجماعة في تحقيق أهدافها، وانطفاء فورتها
على نحو دراماتيكي بقتل قادتها وغالبية كوادرها، فإن التطوّرات
اللاحقة كشفت عن الزخم الشعبي الذي حافظت عليه جماعة جهيمان،
وأحال منها «جماعة كاريزمية» على حد ماكس فيبر. يظهر ذلك
جليّاً في تبني مشايخ الصحوة ومن خلفهم، لاسيما القاعدة
وبقية تنظيمات السلفية الجهادية، أفكار جهيمان في تقويم
أداء السلطة، وكشف عيوبها، وحتى عن «مداهنة» العلماء لأهل
الحكم.
يمكن الجزم بأن تجربة «الجماعة السلفية المحتسبة» بعثت
آمالاً مكتومة لدى كثير من أنصار المدرسة الوهابية، وكادت
أن تؤسس لاشتباك مفتوح مع النظام السياسي، وقد فعلت ذلك
جزئياً، ولكن الجماعات السلفية التي نشأت لاحقاً (الصحوية/
الجهادية) تقاطعت مع «السلفية المحتسبة» في رؤيتها الكونية،
ولكن تباينت في المنطلقات، والتصوّرات الأيديولوجية، وفي
البعد الكوني لمشروعها.
لابد من الإشارة الى أن الجماعة السلفية المحتسبة بقيادة
جهيمان العتيبي وباعتناقها العقيدة المهدوية، يضعها في
خانة الجماعات فوق القاريّة. أكثر من ذلك، يمكن المجادلة
بأن الجماعة لو قدّر لها العمل في مكان آخر لحقّقت انتشاراً
أوسع، ولربما جعل منها نموذجاً يحتذى في المجال السلفي،
على غرار «القاعدة» ولاحقاً «داعش».
كان تيار الصحوة في ظهوره بداية التسعينيات أمام فرصة
استثنائية لتطوير تجربة في الإسلام السياسي بمواصفات محليّة.
كانت الأوضاع مؤاتية للتيار بأن يحقق ما عجزت عنه «الجماعة
السلفية المحتسبة»، إذ كانت البلاد تشهد ظروفاً استثنائية
نتيجة الإحتلال العراقي للكويت والتهديدات الأمنية التي
تواجه المملكة السعودية، وضعف الإجماع الداخلي كرد فعل
على ملابسات العلاقة مع نظام صدام حسين الذي انقلب على
داعميه، والاستعانة بالقوات الاميركية برغم التسليح الكثيف
للمؤسسة العسكرية بأذرعها كافة، وجمود النظام السياسي.
|
|
العودة: الصحوة فشلت في صناعة نموذج وهّابي
|
حظي شيوخ الصحوة بشعبية واسعة، وشكّلوا مصدر تهديد
جدّي لنظام الحكم في السعودية، الأمر الذي استعجل سفر
لجنة مشتركة من الشؤون الخارجية في الكونغرس ووزارة الخارجية
الأميركية الى السعودية لاستطلاع الوضع وتقدير الموقف
الداخلي. بدا مشايخ الصحوة على استعداد للذهاب الى أقصى
مدى في المواجهة مع الأجهزة الأمنية، برغم من تدابيرها
الصارمة: فصل من الجامعة، والمنع من الخطابة في المساجد
العامة، وأخيراً المنع من السفر.
ولكن كشف التيار الصحوي عن بساطة سياسية شديدة، إذ
خسر منذ الأيام الأولى لظهوره العلني جمهوراً عريضاً ينتمي
الى قوى سياسية واجتماعية وازنة بهجومه على من وصفهم «العلمانيين،
الليبراليين، الرافضة، الصوفية..».
في النتائج، حدّد التيار الصحوي مجال حركته، وجمهوره،
وأيضاً أهدافه. في حقيقة الأمر، سهّل التيار بموقفه الانعزالي
مهمة ضربه، فلم يكن يحظى بتعاطف شعبي من خارج بيئته السلفية
الوهابية، بل حتى هذه البيئة لم تحافظ على تماسكها، فقد
تعرّضت لانشقاق واسع، كرد فعل على توقيع شيوخ الصحوة (سلمان
العودة، سفر الحوالي، ناصر العمر، عايض القرني، وغيرهم)
على تعهدّات بعدم مزاولة نشاطات سياسية احتجاجية. وبعد
خمس سنوات من السجن خرج هؤلاء من المعتقل، وقد حسموا خياراتهم
السياسية، فقد ظهر العودة على برنامج تلفزيوني في قناة
إم بي سي التي لطالما وصمها شيوخ الصحوة بـ «العلمانية»
و»الصليبية».
بصورة إجمالية، أخفق التيار الصحوي في تطوير تجربة
محلية، قابلة للحياة وحائزة على خاصية الإغراء والجذب،
كيما تصبح «نموذجاً». ومنذ عام 2003 اكتفى التيار الصحوي
بنشاط منخفض التأثير المتمثل في كتابة «البيانات»، ذات
الصلة في الغالب بقضايا خارجية، فيما غاب عن أي نشاط سياسي
محلي نقدي.
كان سقوط نظام صدام حسين في نيسان (إبريل) 2003 امتحاناً
سياسياً وأيديولوجياً للتيار الصحوي، إذ بدّل رموزه وجهة
النقد من نظام صدام الى كل من وما بعده، بل ذهب، بعضهم
على الأٌقل، الى حد تحريض المقاتلين من الخارج للهجرة
الى العراق ومحاربة كل الأطراف المسؤولة عن الواقع السياسي
ما بعد نظام صدام حسين، سواء كان المحتل الأميركي، أو
مجلس الحكم العراقي، وكل المؤسسات الأمنية والعسكرية التي
نشأت على أنقاض النظام السابق.
ولكن ما لبث أن حصل انقسام عمودي في التيار الصحوي،
وأخذ في بعض جوانبه بعداً فكرياً. فبينما تمسّك الجناح
المتشدّد في التيار الصحوي بمواقفه الصارمة ضد الاحتلال
الأميركي وضد شيعة العراق، بدأ عدد من رموز الصحوة مثل
(سفر الحوالي وعايض القرني) الإنخراط في برنامج المناصحة
المخصّص لإٌقناع عناصر القاعدة بالإقلاع عن فكرة الخروج
على ولاة الأمر في المملكة، فيما كان سلمان العودة يشارك
في جلسات الحوار الوطني الذي دعا له الملك عبد الله، ولي
العهد حينذاك، وقدّم العودة نفسه بكونه أحد أركان الحوار
وهو من تلى مقرّرات الجلسة الأولى أمام ولي العهد.
منذ خروج مشايخ الصحوة من السجن وحتى انطلاق الربيع
العربي من تونس في ديسمبر 2010، لم تشهد المملكة السعودية
تجربة احتجاج سياسي بقيادة دينية. وحتى بعد أن غمرت شوارع
تونس والقاهرة وصنعاء وليبيا المظاهرات الشعبية، وبمشاركة
جماعات إسلامية قريبة من «الإخوان المسلمين» لم يجرؤ التيار
الصحوي على القيام بمبادرة من أي نوع في الداخل. في الواقع،
بدا مشايخ الصحوة في وضع بائس قبيل انفجار الثورات الشعبية.
فقد أشاد العودة بالحريات الدينية في تونس، ودخل في وساطة
بين النظام الليبي في عهد القذافي والجماعة الاسلامية
المقاتلة في زيارة قام بها في الأول من يوليو 2010. وكذلك
الحال بالنسبة للداعية عايض القرني الذي زار ليبيا في
26 أغسطس 2010 بدعوة من سيف الاسلام القذافي للغاية نفسها.
سعى العودة والقرني للتحرر من تبعات الزيارة ولكن دون
جدوى، وما لبث العودة أن اختار إعادة تموضع مكشوفة، وبدأ
يتبنى الأفكار الثوريّة وصنّف كتاباً بعنوان «أسئلة الثورة».
أهمية الكتاب تكمن في مؤلّفه وليس في موضوعه الذي بدا
اجترارياً ولا يحمل جديداً، لاسيما في مقاربته لأسباب
الثورة، وعواملها، وإقحام النصوص الدينية بشروحات حديثة
في مجال بحثه.
|
|
الحوالي: الدعوة الى الديمقراطية بعد تكفير من
يؤمن بها |
قد تكون الجدّة في الموضوع تلك التي تنطوي على إشارات
ملتبسة حول الفصل بين الديني والسياسي، وإخلاء الاسلام
الفضاء السياسي للمسلمين كيما يختاروا شكل الحكم، مع الاكتفاء
بالاخلاقيات العامة التي وضعها الإسلام لتكون دليلاً ارشادياً
في مجال السياسة والحكم، وليس منهج حكم.
وبرغم استعاراته المتكرّرة من الفكر السياسي الحديث،
فإنه بدا مربكاً والى حد ما قلقاً في حسم خياراته الفكرية،
ولم يستطع تقديم إجابات نهائية إزاء قضايا شائكة في تراث
المسلمين السياسي والتاريخي، بما في ذلك مشروعية الحاكم
ومصادرها، وسبل تغيير الحكم، واختيار شكله ومشروعة الدولة
نفسها.
من جهة ثانية، أطلق رفيق دربه الشيخ سفر الحوالي دعوة
لحكّام بلاده لتبني الديمقراطية لتفادي الثورة الشعبية.
ولأسباب صحيّة، لم يقدّم الحوالي وصفته الديمقراطية، واكتفى
بنقل رسالة من تونس في الذكرى السنوية الأولى لثورتها،
على لسان أحد أنصاره، الناشط الكويتي وليد الطباطبائي
يدعو فيها حكّام الخليج للمسارعة الى ركوب قطار الديمقراطية.
في كل الأحوال، بدا التيار السلفي بكل اشتقاقاته خاضعاً
تحت تأثير رياح التغيير الآتية من الخارج. وهذا لا يعكس
مجرد مستوى القمع في الداخل السعودي، ولكن أيضاً مستوى
الإحباط الذي أصاب التيار وانعكس على قواعده التي باتت
هي الأخرى تتطلع نحو انفراجات سياسية تأتي من خلف الحدود.
التيار الديني بين «الاخوان» و»داعش»
شكّلت سنوات الربيع العربي تحدّياً جدياً لجدارة مشايخ
الصحوة، لكونهم الأنشط في التيار السلفي الوهابي، في تمثيل
تطلعات جمهور عريض من المؤمنين بالعقيدة الوهابية. كان
مجرد إطلاق دعوات للتظاهر في الأماكن التي كانت تمثل مسرح
عمليات المشايخ، ومن دون إذنهم يحمل في طياته رسالة واضحة
بخسارتهم لجزء جوهري من النفوذ الذي كانوا يتمتّعون به
في أوقات سابقة. كما تومىء الدعوات الى تفاوت أسقف التوقعات
بين المشايخ وجمهورهم، فلم يعد الجمهور يقبل بمجرد إصلاحات
اجتماعية محدودة، أو حتى أفكار دينية تنتمي للقرن الماضي.
كان وصول «الإخوان المسلمين» الى سدّة السلطة السياسية
في تونس ومصر، قد أثار مخاوف النظام السعودي لأسباب ليست
مجهولة تماماً. ببساطة، إن نجاح نموذج حكم ديني في المجال
السنّي يشكل تهديداً جديّاً للدولة السعودية القائمة على
حكم سلفي. محاولات احتواء التجربة الاخوانية على المستويين
الرسمي والديني حقّقت نجاحاً جزئياً، على الأقل لجهة إحداث
زحزحة في خطاب الإخوان إزاء قضايا سياسية ومذهبية، ولكن
ما يتجاوز ذلك هو نفاذ الإخوان الى المجال السياسي الذي
يفترض النظام السعودي بأنه محتكر له بصورة كاملة.
تحوّلت تجربة الإخوان المسلمين الى «نموذج» قابل للتعميم،
وهو ما دفع السعودية ودول خليجية أخرى (الإمارات والكويت
على سبيل المثال) لإطلاق حملة دعائية ضد إخوان الخليج،
واعتقال عشرات من العناصر المنضوية في فروع الجماعة خليجياً.
دلالة التدابير القمعية والعاجلة واضحة: الخوف من تمدّد
النموذج الى خارج الفضاء المقرّر له.
في أول تعبير عن خلاف عميق بين المؤسسة السياسية والجمهور
السلفي، كان انقلاب 30 يونيو 2013. صدرت بيانات متضاربة:
الرسمي مباركاً ومؤيّداً وداعماً بالمطلق، والشعبي/ السلفي
مجرّماً، ومخوّناً. ولأول مرة، يصدر موقف وموقف مضاد،
تبعاً لعلاقة كل طرف من النظام القديم والجديد.
لم يكن مجرّد حادث سياسي، ولا من نظام حكم محفوف بأشكال
متضاربة من التقويم، وإنما كان موقفاً من «نموذج معياري»
كاد أن يستنسخ في أكثر من بلد. في النتيجة، إن الدفاع
عن نظام حكم الإخوان المسلمين ومعارضة الإنقلاب، ينطوي
على إحساس بالفشل في تطوير تجربة محلية، وانعقاد الأمل
على نموذج آخر. وفي ذلك رسالة الى الداخل أيضاً، الى التيار
الصحوي على وجه الخصوص الذي خسر الرهان على إنضاج تجربة
مفعمة بالنجاح والجذب.
ما يلفت الانتباه، أن مشايخ الصحوة قبلوا بالنتيجة،
أي بكونهم ليسوا على قدر استقطاب جمهورهم نحو «نموذج»
من صنع أيديهم. وقد نجد ذلك واضحاً في ردود الفعل على
الإنقلاب الفاشل في تركيا في منتصف يوليو 2016، حين ظهر
التباين مجدّداً بين الموقف السياسي، والاعلامي الى حد
ما، من جهة والموقف الشعبي الديني.
فبينما كان الإعلام السعودي يخوض لعبة الغمز واللمز
في حادث الإنقلاب التركي في ظل مواقف مريبة من جانب أهل
الحكم، كان مشايخ الصحوة والجمهور السلفي عموماً يبوح
بمساندته الكاملة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومناهضة
الإنقلابيين.
|
|
داعش.. النموذج الأقرب لروح الوهابية وطموح شبابها
|
وكما في إسقاط تجربة الإخوان في مصر، فإن الإنقلاب
الفاشل في تركيا بعث برسائل بالغة الدلالة. فبينما كانت
لغة الإعلام مواربة والى حد ما مؤيدة للإنقلاب وتنطوي
على نبرة تشفي من أردوغان، كان الجمهور السلفي صريحاً
في معاضدته لنظام حزب العدالة والتنمية. في الواقع، يكشف
الموقفان المتباينان عن انقسام داخلي عميق، فقد ظهّر كل
طرف خلافه مع الآخر المحلي من خلال قضية خارجية. في أقصى
التعبيرات عن الخلاف، يكمن «النموذج» الذي يناصره جمهور
الصحوة ويعارضه جمهور السلطة.
إن الجاذبية التي حظي به «النموذج» التركي في الوسط
السلفي المحلي لا يخضع لمعايير دينية بالضرورة، وليس بالإمكان
إخضاع التجربة الاردوغانية لهذا النوع من المعايير. أولئك
الذين يمّموا وجوههم صوب استانبول، لم يجذبهم نجاح الدولة
الاسلامية التركية، ولكنه الأمل بظهور «نموذج» سنّي يحقق
ما عجز عنه النموذج السعودي..
لم يتناول الجمهور السلفي/الصحوي على وجه التحديد،
التجربة الإسلامية التركية بالنقد، لأنه يتعامل معها من
منطلق الحاجة لا الطموح. هو يريد تجربة تملأ فراغاً في
حياته، وتشبع السغب الشديد الذي يعاني منه، ولذلك يقدّمه
نموذجاً.
من بين التجارب الخارجية على قاعدة دينية، كان رد الفعل
على احتلال تنظيم «داعش» الموصل في يونيو 2014، إذ لقي
ترحيباً في الأوساط السلفية.
لأول مرة، يخضع الجمهور السلفي عموماً لاختبار جدّي
لميوله السياسية والإيديولوجية. كان السؤال الأبرز في
الإختبار، هل ثمة حاضنة محلية للتنظيم، وهل ولادة ظاهرة
داعشية في الأوساط السلفية الوهابية إمكانية قائمة.
مقالات جمّة، واستطلاعات رأي، واستبيانات تعاملت مع
«القابلية للإستدعاش» أو الداعشية المستوطنة، وخلصت الى
أن ثمة مقوّمات للظاهرة محلياً يساعد على تنشئتها وترعرعها
المناهج التعليمية التي تشتمل على كمية كبيرة من المحرّضات
الأيديولوجية على الكراهية والعنف، يضاف إليها غياب مؤسسات
أهلية قادرة على امتصاص فائض الطاقة لدى الشباب، وانعدام
الحريات.
في الواقع تمثل هذه العوامل ذات طابع ثقافي واجتماعي
وسياسي، ولكن هناك عامل آخر لايكاد يحظى باهتمام فارق
وهو «الافتقار لقدوة/ نموذج/ مثال». فأولئك الذين ناضلوا
لسنوات طويلة من أجل إعادة إحياء النموذج، المتمثل في
الدولة السعودية الأولى، وجدوا في شعارات «داعش» الداعية
الى تصحيح الخلل في مسيرة الدولة السعودية، عبر إعادة
بعث الأمل بتكرار تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف
القرن الثامن عشر.
أن يكون تنظيم «القاعدة» مقبولاً في سوريا، اليمن،
العراق، لا يجب تفسيره من منظور مذهبي وكفى. لأن الموقف
ذاته يلحظ في بلدان أخرى تتمتع بانسجام مذهبي، ولم تشهد
انقسامات على خلفية طائفية. في حقيقة الأمر، أن الاخفاقات
المحلية جرى تعويضها عن طريق التعويل على نجاح تجربة هي
الأقرب عقدياً الى الجمهور السلفي مثل «القاعدة» و»داعش».
ما يلفت أن الفترة التي بقي فيها «داعش» مسيطراً على
الموصل، لم يصدر أي رد فعل اعتراضي من الجمهور السلفي
في المملكة السعودية، الأمر الذي يكشف عن انسجام بين التنظيم
والجمهور.
نؤكّد مرة أخرى، بأن الدافع المذهبي ليس كافياً لتفسير
موقف الجمهور السلفي، وهناك دوافع ذاتية ومحلية وتتعلق
بالدولة السعودية، التي فقدت رصيداً كبيراً من مشروعيتها،
منذ ظهور منافس يحمل السمات الوراثية لتجربة الاحياء الوهابي
الأول.
|