المعلم محمد السحمي
يفتح قضية الردة في السعودية
لعل واحدة من أهم وأخطر الموضوعات إثارة للجدل في القضاء
السعودي هو موضوع الردة والاحكام المترتبة عليها، لأسباب
عديدة أولاً كونها تفضي الى إستعمال أقصى العقوبات وأقساها،
أي الاعدام، وثانياً لأنها تستند على تفسيرات دينية محددة،
أي يمتثل فيها القضاء الرسمي لاملاءات فقهية شديدة الخصوصية
وكما وردت في المدوّنات الفقهية الحنبلية والوهابية بصورة
ضيقة، أي دون مراعاة لاجتهادات وآراء فقهاء عامة المسلمين
في قضية تتعلق بإزهاق الروح، مع إحتمال وقوع الخطأ فيما
ينتج عن إجتهادات مدرسة فقهية محددة، سيما في هذه القضية،
أي الردة، التي وقع فيها الخلاف بين المسلمين منذ فترة
مبكرة من تاريخ الاسلام.
وبصرف النظر عن التقارير الحقوقية المتواصلة من منظمات
حقوقية دولية تستنكر لجوء الدولة السعودية الى تنفيذ أحكام
الردة على أولئك الذين تزعم أجهزة القضاء الرسمي بأنها
نافذة على أولئك الذين ثبت تعرّضهم لذات الله عز وجل أو
النيل من رسول الاسلام المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم)،
مع غياب نظام قانوني وحقوقي يكفل للمتهم ضمانات الدفاع
والمرافعة ورد التهمة الموجّهة اليه..نقول بصرف النظر
عن كل ذلك، فإن مصنّفات الفقهاء قد تناولت موضوع الردة
بالاجتهاد الدقيق وسجّلت فيه رأياً متقدماً، يطيح بما
راج بين بعض المدارس المتمسكة بحرفية النص دون روحه.
وفي قضية الردة يبرز أمامنا جانبان للمناظرة:
ـ الجانب التاريخي.
ـ الجانب الموضوعي
الجانب التاريخي
بحسب الرواية التقليدية فإن أول ظهور لاشكالية الردة
حدثت في عهد الرسول المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فكما
تذكر كتب التاريخ بأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان
من كتّاب الوحي، إرتد عن الاسلام مبرراً ذلك بأنه كان
يكتب الوحي بحسب إملاءات النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس
استناداً على الوحي المنزل، فأهدر المصطفى دمه ولو كان
متعلّقاً في ستار الكعبة، والسبب واضح هنا بأن مبرر ردة
الرجل يتضمن تكذيباً بالنبي الصادق الأمين، وبالوحي المنزل
عليه. ولكن في فتح مكة إستجار بن أبي سرح بأخيه من الرضاع
عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجاره وشفّع له عند رسول
الله، فقبل المصطفى شفاعته وعفا عنه ولم يمسه بشيء من
العقاب، ثم قبل بيعته. بل أكثر من ذلك، أن ابي سرح تسنّم
مناصب خطيرة في خلافة عثمان منها الولاية على مصر وقيادة
جيوش المسلمين التي انطلقت من أرض الروم في البحر لغزو
أفريقيا وأرض النوبة وذات الصواري. وهذا المثال المعروف
في التاريخ يحمل دلالات عميقة وواضحة، فاضافة الى اسقاط
الحد فإن التوبة عن الفعل لا يسقط الحقوق المدنية.
ثم كان الظهور الأبرز لحركة الردة بعد رحيل المصطفى
(صلى الله عليه وسلم)، وتحديداً في مبتدء خلافة أبي بكر
الصديق (رضي الله عنه) الخلافة، حيث امتنعت بعض الفرق
والقبائل عن أداء الزكاة وكانت تقول بأنها لا تؤديها الا
الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنه قد مات فامتنعت
عن الأداء، وقد فسّر بعض الصحابة ذلك بأنه ردة عن الاسلام،
واختلف الصحابة في تفسير موقف هؤلاء، فبعضهم قال بأن امتناعهم
عن أداء الزكاة دليل على ردة عن الاسلام كلية، وقال آخرون
بأن امتناعهم عن أداء الزكاة هو تعبير عن موقف سياسي احتجاجي،
أي اعتراض على تولي أبي بكر الخلافة، ولذلك خاطب الفاروق
الصديق قائلاً كيف تقاتل قوماً يشهدون ألا إله الله وأن
محمداً رسول الله، وكان جواب الصديق بأن إمتناعهم عن أداء
الزكاة يكذّب دعواهم بالاقرار بالشهادتين، فيما قال آخرون
بأن القوم تأولوا واجتهدوا فإن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا
فلهم أجران، وأن لا سبيل سوى الى النظر فيما يعتقدون والمحاججة
على أساس تبيّن الصواب من الخطأ. وقد تعرّض فقهاء المسلمين
وباحثيهم الى مناقشة هذه الرواية وخلص كثير منهم الى أن
ما قاله الفاروق كان صواباً فالقوم الذين إتهموا بالردّة
كانوا على الاسلام ولم يحيدوا عنه وإن امتناعهم عن أداء
الزكاة لم يكن رفضاً لركن من أركان الاسلام أو إنكاراً
لشريعة الله عز وجل، وإنما لأن الزكاة تكافىء الاعتراف
بشرعية السلطة، وتملي الامتثال بما تأتي به ولذلك امتنعت
هذه الاقوام عن أداء الزكاة حتى لا تُلزم بما هو أشد منه
وهو البيعة والاقرار بشرعية الخليفة.
الجانب الموضوعي
إن فقهاء المسلمين المتمسّكين بمقاصد وروح الشريعة
الغراء أمعنوا النظر في الظروف الموضوعية المحيطة بكل
قضية، ولم ينكبّوا على حرفية النص دون روحه، ودون رعاية
لمناخ تطبيقه..وقد قال بعض الفقهاء بأن الاحكام الشرعية
لا تطبق في بيئة مشحونة بكل محفزات الفساد والخروج عن
الجّادة، فالأحكام إنما وضعت حين يصل فيها المجتمع درجة
من الوعي والالتزام برسالة الدين فتكون الحدود والقصاصات
رادعة عن اقتراف الآثام التي تهدد المجتمع وأمنه وإستقراره.
إن المنطلق الذي يدفع بالفقهاء الى بذل أقصى الجهد في
الحدود والقصاصات هو تحقيق موازنة دقيقة بين المصلحة العامة
وابلاغ رسالة الاسلام، وتطبيقاً لقواعد فقهية ثابتة من
قبيل (درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع) و(تدرء الحدود
بالشبهات) وأمثالهما.
وهناك رأي لدى أكثر من فقيه معاصر بأن قد غلب على زماننا
الحاضر الاختلاف في الاجتهادات واختلطت كثير من المفاهيم
مع غيرها، وتبدّلت ظروف الحياة الأمر الذي يجعل من تطبيق
الاحكام والحدود بحرفية صارمة يعد أمراً عسيراً وغير منطقي،
إذ ليس من المصلحة إغفال مقاصد الشريعة الناظرة في العوامل
والظروف المؤثرة في سلوك الأفراد والدافعة الى اقتراف
الآثام. إن الاسلام جاء بما فيه حياة الناس وسعادتهم،
وليس من أجل التفتيش عن مبررات تحث على اعمال السيف في
رقابهم، ظنّاً من البعض بأن السيف حافظ لرسالة الاسلام
عوضاً عن سماحته ومخزون العفو بداخله.
ولا بأس بالاشارة هنا الى رأي بعض الفقهاء المعاصرين
في قضية الردة حيث ذكر الشيخ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات
العامة في الدولة الاسلامية) كلاماً طويلاً عن الآراء
المتقدمة في موضوعة الردة، ونقل آراء مختلف المذاهب الاسلامية
والتي تكاد تتطابق في تشديدها على تعريف المفهوم أو تحريره
وتشددها في تطبيق أحكامه، ونقل عن بعضهم بأن القرآن الكريم
لم يورد عقاباً دنيوياً للمرتد بل حذّر من أن جزاء المرتد
هو (حبوط العمل والخلود في النار) وهذا الجزاء كما هو
ظاهر أخروي، وقد ضعّف كثير من الفقهاء الاحاديث الواردة
في اقامة الحد على المرتد وعدوّها في قائمة الآحاد التي
لا تصمد في استنباط حكم شرعي/فقهي حاسم كيف بها حين تستعمل
في قضية خطيرة كالردة، وقد ذهب الشيخ محمود شلتوت مفتي
مصر الاسبق بأن الكفر بذاته ليس مبيحاً للدم، (وإنما المبيح
هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن
دينهم).
الردة بين حدين: حقوقي وشرعي
منذ نشأة الدولة السعودية عام 1932 صدرت طائفة أحكام
بالردة من قبل النظام القضائي الديني في حق عدد من المواطنين
والأجانب، وقد تم تنفيذ عقوبة الاعدام في بعضهم. وفي أغلب
الحالات التي وردت في تقارير حقوق الانسان الدولية، فإن
ثمة روايات غامضة وملابسات معقّدة تحيط بملفات المواطنين
المتهمين بالردة.
وفي فترة الثمانينات، حيث أجواء الصراع الديني/ المذهبي
قد بلغت ذروتها فإن أحكام التكفير والردة كانت تصدر بصورة
جزافية ضد مواطنين وعلماء دين وكتّاب، وكان ذلك يحقق بعض
الاغراض السياسية لدى العائلة المالكة التي كانت تنظر
بعين الرضا الى مثل تلك الأحكام وهي تعيش معركة في الداخل
والخارج، فيما كان التساهل لدى رجال المؤسسة الدينية في
وصم خصومهم ومخالفيهم بأحكام الردة بناء على مخالفة اجتهاد
ما أو تبني رأي عقدي لا يروق لأتباع المذهب الرسمي. ولأن
مثل تلك المخالفات لا ترقى الى مستوى اصدار حكم بالردة،
وبفعل غياب نظام قضائي مفتوح وشفاف وهكذا تشريعات تجيز
للمتهم الترافع والدفاع أمام لجنة قضائية مستقلة، فإن
توجيه الاتهام بالردة وتنفيذ الاحكام يصدر في الظلام،
وتحت التعذيب ووسائل القوة التعسفية. فقد نفّذت أحكام
الاعدام في مواطنين بتهمة الردة لأنهم جهروا بمخالفتهم
لاجتهادات المذهب الرسمي للدولة، ولكي يوجد القضاة المعيّنون
من قبل الدولة مبرراً قوياً لذلك العقاب لجأوا الى تصعيد
التهمة الى مستوى التكذيب بما جاء في الكتاب والسنة النبوية
والنيل من النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وفي أحيان
أخرى اعتناق النصرانية.
لقد طويت تلك الروايات وهدرت الدماء وأزهقت الأرواح
في فترة كانت فيه السعودية تملك ما يستر عورتها أمام الرأي
العام الدولي، أما وقد وقعت مرة أخرى في اشكالية كانت
لعقود مثار جدل واهتمام لدى المنظمات الحقوقية الدولية،
فإن قضية الاستاذ محمد السحمي قد يفتح الباب على جدل واسع
حول نزاهة النظام القضائي السعودي، وملف أحكام الردة الصادرة
في عدد من المواطنين والاجانب والتي أفضت الى إزهاق أرواحهم،
دون معطيات قانونية وحقوقية واضحة وعلنية، وهذا من شأنه
أن يفتح النار على العائلة المالكة التي ساندت هذا النوع
من الأحكام.
لاشك أن قضية الاستاذ محمد سحمي قد أثارت إهتمام كثيرين
داخل وخارج المملكة، وقد بلغت من الرواج حداً من العلنية
لا مثيل له، وقد تكفّلت الوسائل الاتصالية الحديثة بمهمة
الابلاغ عنها، وصارت من أبرز قضايا حقوق الانسان منذ الاعلان
عن اللجنة الوطنية لحقوق الانسان، والتي ستضع اللجنة دون
ريب على محك المصداقية. وفيما يبدو فإن العائلة المالكة
وجدت نفسها هذه المرة ملزمة بمعارضة النظام القضائي، فإنها
ولأسباب معروفة باتت في مرمى سهام الاعلام العالمي والمجتمع
الدولي منذ الحادي عشر من سبتمبر، ولذلك جاءت العقوبة
مخففة (3 سنوات سجن و300 جلدة).
وبالرغم من أن حيثيات الحكم كما أعلن عنها في الصحافة
المحلية تبدو مثيرة للجدل والنظر، كونها تعتمد على وشاية
تلاميذ لم يبلغوا السن القانوني، وهم من يتلقون تحصيلهم
العلمي في المدرسة التي يعمل فيها الاستاذ السحمي في المنطقة
الجنوبية من المملكة. لم يمنح السحمي حقه الكامل والشرعي
في نفي أو إثبات التهمة الموجهة اليه، فقد أصدرت المحكمة
الكبرى في الرياض حكماً بالسجن والجلد والمنع من الكتابة
والطرد من الوظيفة وكادت تصل العقوبة الى حد قطع الرأس
بحسب ما تقرر شرعياً في حق المرتد. وهذه القضية تطرح سؤالاً
استنكارياً: ماهي الاجراءات القانونية والحقوقية التي
إتبعت من أجل اصدار الحكم وتنفيذ العقوبة، وكيف تعاملت
المحكمة مع شهادة التلاميذ ورد المعلم، وهل بذل أعضاء
المحكمة الوقت والجهد الكافيين لدراسة وكشف ملابسات وحيثيات
الاتهام قبل الوصول الى قرار خطير بالردة مع ما يترتيب
عنه من عقوبات قاسية، لا يحتمل فيها التراجع والاعتذار.
إنها واحدة من قضايا حقوق الانسان التي تلحّ على الدولة
واللجنة الحقوقية المستحدثة النظر فيها بجد لجهة العثور
على معالجات حاسمة وقاطعة، سيما وأن الاجراءات القانونية
مازالت قاصرة عن تلبية الشروط التامة الحقوقية والموضوعية
في إيجاد مبررات كافية لاصدار وتطبيق حكم الردة.
ففي مستوى اصدار الحكم، فإن أعضاء المحكمة الكبرى في
الرياض استندوا على شهادة ثلاثة من الاطفال، وهم دون سن
الخامسة عشرة حين وجه الاتهام الى الاستاذ السحمي، أي
قبل ثلاثة سنوات، وأضيف اليها كلمة زعم بأن المعلمين قد
شهدوا على أنه قالهم أمامهم. وتستحق هذه الشهادات وقفة
طويلة وتمحيص جاد، فبالنسبة لشهادة الاطفال الثلاثة فإنها
تسقط بفعل عدم اكتمال النصاب القانوني لعمر الشاهد. أما
بالنسبة لشهادة المعلمين فينظر في أحوالهم، وهل كانوا
متفقين على مذهب واحد وهل هناك ما يحول دون جرح العدالة
من خلاف وتواطىء ونحوه، وخصوصاً في قضية خطيرة كهذه. يكشف
عن ذلك ما ورد في جريدة الشرق الأوسط في العاشر من فبراير
الماضي بأن أحد المعلمين إتهم مشرف التوعية الإسلامية
وهو كبير الشهود ضد المعلم بتحريضه للشهادة ضد المعلم
المتهم في قضية الردة، غير أنه رفض الخضوع للتحريض، وقام
بالشهادة بما يمليه عليه ضميره، حيث شهد بحسن خلق المتهم،
واستبعد أن يكون قد صدر منه مايخالف الدين والأخلاق، كما
أن مشرف التوعية الإسلامية قام بعقد اجتماع مع الطلاب
والمعلمين في مختبر المدرسة لمناقشة قضية المعلم، وفي
ذلك إشارة الى نوايا مبيّتة وعزم سابق على التخطيط لهذه
التهمة.
أما بالنسبة لحكم المحكمة بالسجن لمدة ثلاثة سنوات
والجلد 300 جلدة مع الابعاد عن التعليم ووسائل الاعلام
باعتبار أن السحمي كاتب في الصحافة المحلية، فهذه القائمة
مستندة على إثبات جزء من التهمة الرئيسية حسب ما نقلت
الصحافة المحلية. ومن الغريب أن المحكمة أسقطت حد الردّة
بناء على نطقه بالشهادتين أمام المحكمة، وهي عادة لم تكن
جارية في الماضي حيث كان يتم تنفيذ عقوبة الردّة دون الرجوع
الى المتهم بها واستنطاق أقواله أو محاولة استتابته في
حال ثبوت التهمة.
وكانت المحكمة الكبرى في الرياض قد أدانت المعلم السحمي
بناء على شهادة الطلاب من أن المتهم أحلّ لهم (أحكاماً
محرمة في الاسلام، وهي الزنا واللواط والعادة السرية)،
وهي شهادة تثير استغراباً، كونها تشي بجرأة سافرة يصعب
تصديقها على معلم يدرك تماماً قطعية الاحكام المحرمة في
الموضوعات المذكورة، اضافة الى كونها من المبالغة بمكان
يجعل أمر تصديقها وصدورها مشكوكاً فيه، وحتى مع فرضية
تبني المتهم لرأي خاص في هذه الموضوعات فإن الاشهار بها
أمام تلامذة لم يبلغوا السن القانوني لا يمس نزاهة المعلم
وحكمته فحسب بل ينسحب على المؤسسة التعليمية الرسمية.
أما إدعاء بعض المعلّمين من أن المتهم يعقب إسم الشاعر
نزار قباني بـ (صلى الله عليه وسلم)، فإنها أقرب ما تكون
الى الدعابة المخلّة منها الى العقيدة الخاصة، ولربما
شطح الاعجاب الشديد في شعر نزار ما جعل المعلم ـ في حال
ثبوت شهادة المعلمين ـ يستعمل تعقيباً وقفياً للحبيب المصطفى
(صلى الله عليه وسلم)، ما لم يكن عُني بالتعقيب إهانة
ضمنية أو مباشرة لرسول الاسلام وهذا مشكوك فيه، ويصعب
ـ إن لم يكن يستحيل ـ صدوره عن مسلم.
إن الجلسات الاسبوعية التسع التي بدأت أولاها في ديسمبر
من العام الماضي لحسم قضية المعلم السحمي، والتي استمعت
خلالها المحكمة الى أقوال الشهود من الأطفال، فيما انقسم
زملاء المعلم بين من زكّاه وأشاد بأخلاقه وبين من إدعى
عليه، كانت محفوفة بالادعاءات والنفي. فقد سأل القاضي
المتهم عن قناعته بما جاء في الحكم فنفى المعلم/المتهم
ما نسب اليه أما الادعاء فاكتفى بالتوقيع على عدم قبول
الحكم. وفي توضيح للمعلم قال في حديث لجريدة (الشرق الأوسط)
اللندنية (لم أفاجأ بالحكم، وكنت متوقعاً أي شيء يصدره
القاضي، خاصة أنه أمر بسجني في وقت سابق قبل أن يحاكمني)
وأضاف المعلم السحمي قائلاً (إن أشد ما يحزنني، هو أنني
حاولت الدفاع عن نفسي وإيضاح الحقيقة، ولكن الصدمة الكبرى
هي أن القاضي الذي أمر بسجني قبل أن يراني كان يريد توقيع
أقصى عقوبة ممكنة، وكان هذا واضحاً من قبولهم لقضية مرفوعة
من الادعاء العام من دون تحقيق). وأكّد السحمي قائلاً
(أن المحقق الذي وقع لائحة الاتهام لم يستدعني ولم أره
ولم يرني حتى اللحظة). ويقول المعلم (لقد طلبت أكثر من
مرة تزويدي بلائحة الاتهام، وهذا من أبسط حقوق المتهم،
ولم يتجاوبوا).
إن افادات المتهم إذا ما قورنت مع إفادات مشابهة لمتهمين
آخرين في السابق فإنها تعكس صورة أزمة النظام القضائي
السعودي، حيث يقرر القضاة ما يشاؤون من أحكام دون مراعاة
حقوق المتهمين من دفاع عن النفس إزاء الاتهامات الموجّهة
اليهم، وتمكينهم من الحصول على أدلة البراءة مما ينسب
اليهم، أو اللجوء الى محامين للدفاع بالوكالة عنهم. إن
اقوال السحمي تكررت بعبارات مماثلة أو قريب منها من قبل
العديد من المتهمين الذين منعوا من رد الاتهامات أو الحصول
على ايضاحات قضائية أو معرفة حيثيات الاحكام الصادرة ضدهم.
وفي كثير من الحالات كان يتم ابلاغ المتهمين بلائحة الاتهامات
ثم يطلب منهم التوقيع عليها في ظروف صعبة وتحت طائل التهديد
والتعذيب ثم الخضوع للعقوبة المترتبة عليها.
من اللافت أن قاضي المحكمة رجع في درء حد الردة عن
المتهم الى قاعدة فقهية تنص على أنه (إذا أقرّ المرتد
بالشهادتين فإنه لا يسأل عما قال قبلهما) فيما كانت هذه
القاعدة غائبة بصورة تامة في حالات عديدة خلال عقد الثمانينات
حيث قضى بعض المعتقلين بتهمة الردة نحبهم ولم تشملهم هذه
القاعدة فضلاً عن المحاكمة العلنية والعادلة والمكتملة
الاركان. إن مما يثير السخرية بحق طلب المحكمة من المعلم
النطق بالشهادتين لما في ذلك من نفي صفة المسلم عنه قبل
نطقه بالشهادتين، ثم إن إستعمال ذلك في تبرير إسقاط حد
الردّة عنه يستدعي سيرة محاكم التفتيش في أوروبا، حيث
الاختراق الفاضح لنوايا الناس واكراههم على الحصول على
صكوك براءة من رجال الكهنوت.
ومن اللافت أيضاً أن القاضي أبقى الباب مفتوحاً أمام
أحكام تعزير لاحقة حين إعتبر الحكم بتعزير الاستاذ السحمي
رادعاً لغيره، بما يثير استفهاماً كبيراً عن المقصود بالغير
هنا، خصوصاً وأن عدة أحكام بالردة صدرت في حق بعض الكتاب
ورجال الدين والمثقفين والنساء والذين قد ينالهم العقاب،
أو في الحد الادنى التلويح بالعقاب ضد أولئك المصنّفين
على غير وفاق مع العقيدة الرسمية للدولة وللمنهج الديني
السلفي.
إن العقوبة التي أقرّتها المحكمة الكبرى غير مبررة
وقاسية ولا تتطابق مع مقاصد الشريعة الاسلامية السمحه
ومواثيق حقوق الانسان العالمية والتي حظيت بموافقة أغلب
الفقهاء المسلمين بل وشارك بعضهم في إعدادها. ولابد أن
تفجّر قضية المعلم السحمي ملف حقوق الانسان في هذا البلد
الذي ظل يتذرع بتطبيق الشريعة الاسلامية ولكن بطريقة صارمة
وجامدة.
|