الواقع البائس وآفاق المستقبل
المرجعية الدينية والسياسية في الحجاز
نعلم أن تأسيس المملكة العربية السعودية قام على أنقاض
دولة الحجاز.
وحين نتحدث عن الأنقاض، فنحن لا نخصّ الحديث الى غياب
شيء إسمه (مملكة الحجاز) التي كان معترفاً بها دولياً
وضمت مدينة جدة قنصليات دول أجنبية، وكان لها ما للدول
القائمة حالياً من وزارات ونقابات وصحافة وجيش واحزاب،
كانت في مجملها متقدمة على محيطها العربي عدا في مصر.
لقد حول الوهابيون الحجاز الى أنقاض بالفعل.
على الصعيد السياسي، تمّ تدمير كيان الدولة وابتلاعها،
وتم طرد العائلة المالكة منها، وهي عائلة الشريف حسين
ثم إبنه الشريف علي، إضافة الى مطاردة النخبة السياسية
الحجازية التي أُجبرت على الفرار الى مصر والأردن، وبعضها
لم يعد أصلاً الى موطنة حتى وافته المنيّة منفياً.
وعلى الصعيد الثقافي، تعرضت الهوية الحجازية الى تدمير
منظّم، وحرم الحجازيون من التعبير عن ثقافتهم ومسلكهم
وفلوكلورهم وعاداتهم وتقاليدهم وملابسهم وغير ذلك، وفرضت
عليهم ثقافة خارجية ولاتزال.
الأخطر من كل هذا، هو ما تعرضت له البنية الثقافية
الدينية الحجازية، فعلماء الحجاز تمت تصفية بعضهم قتلاً
في مجازر الطائف، وبعضهم طورد الى خارج الحدود فانتقل
بين الأمصار العربية بل وصل بعضهم الى ماليزيا واندونيسيا.
لم ينقل السعوديون السلطة السياسية الى الرياض فحسب،
بل نقلوا السلطة الدينية من مكة الى بريدة والرياض ايضاً.
وتعرضت المدارس والمذاهب الإسلامية في الحجاز الى القمع،
وعلماؤهم الى الفصل والطرد، حتى لم يتبق منهم اليوم سوى
أعداد قليلة محاصرة بالقمع الفكري الطائفي الوهابي. اختطف
القضاء من يد علماء الحجاز، وتم تدمير الأماكن والمساجد
الأثرية والمقدسة، وأحرقت الكتب وصودرت وأممت المساجد
(وهابياً)، ومنع الحديث عن علماء الحجاز إلا بشكل ظاهري
عام، ومنعت الكتب من الطباعة في الداخل او استيرادها من
الخارج، وفرضت مناهج التعليم في المدارس الأهلية والحكومية
الحجازية، تلك المناهج التي لا تعترف بغير المذهب الرسمي،
وبغير أفكاره التي تسوغ القتل والتكفير. وشنّت الحروب
الإعلامية الشعواء على من تبقى من علماء الحجاز وفي مقدمتهم
السيد محمد علوي المالكي، فطبعت الكتب داخل المملكة ضده،
ولم يسمح له بالرد لا في صحيفة ولا في كتاب مطبوع داخلي،
ولا حتى بالوسائل البدائية.
لقد أبعد علماء الحجاز وأهله عن الشأن الديني للمملكة.
رغم أنهم أصلح من يعبر عن الإعتدال والتسامح الديني، وأقدر
من يتواءم مع متطلبات العصر فهماً ومعرفة وقدرة على التفاعل
الإيجابي مع العصر ومع الآخر.
اليوم، وفيما يتحرر المواطنون في المملكة، في كل أنحاء
المملكة، من ضغوط الوهابية المكفرة شيئاً فشيئاً.. اليوم
حيث تبدأ مرحلة التسامح والتعايش، ماذا يمكن لعلماء الحجاز
كما نخبه أن يقوموا به؟. اليوم حيث تتبلور الآراء والتوجهات
والأفكار ويتحفز الجميع لصناعة مستقبل جديد لأبناء المملكة،
كيف تقيم النخبة الحجازية ومرجعيتها الدينية واقعها، وكيف
تستعيد شيئاً من وهجها الديني الذي غزت به كل الأمصار
طيلة حقب التاريخ؟ اليوم ونحن نرى كيف آلت البلاد الى
مستنقعات العنف والتطرف بسبب أحادية الفكر والمذهب، يستشعر
الجميع الحاجة الى دور الحجاز موئل العلم ومهبط الرسالة
والوحي كيما يستعيد ألقه بعد عقود من سيادة الطغيان والظلم
والإحتكار، فهل هناك من متسع لذلك؟
في مختلف مناطق المملكة ولدى شتى المذاهب الدينية هناك
مرجعيات واضحة لكل مذهب، إلا في الحجاز، فإن المرجعية
الدينية لم تتبلور بما فيه الكفاية، ربما بسبب القمع الشديد
الذي سلّطه الوهابيون على الحجازيين باعتبارهم المنافس
الأكثر إخافة، وللمردود السلبي الذي سيشعر به السلفيون
الوهابيون فيما لو فُسح لعلماء الحجاز أن يتولوا شؤونه
الدينية، الأمر الذي يفضي الى بوار بضاعتهم. غير أن هذا
لا يعفي علماء الحجاز من المسؤولية، وإننا لنأمل أن يقوم
السيد علوي المالكي باعتباره مفتياً للحجاز، وأحد أكبر
فقهائها، أن يلم شمل علماء الحجاز في تجمّع له صوته المميز
في الرأي والفتيا والموقف السياسي إن تطلّب الأمر.
ومن أول المسؤوليات التي يجب الإهتمام بها، هو تأسيس
المدارس وإحياء ما اندثر منها وإرسال البعثات الدينية
إن تطلب الأمر، فالإحتكار المذهبي للتعليم الرسمي والديني،
ومنع الحجازيين من التدريس حتى في الحرم، وإغلاق المدارس
الدينية، أدى الى انخفاض أعداد العلماء المؤهلين القادرين
على التصدي للشؤون الدينية والإجتماعية والقضائية. وتبدو
في الأفق اليوم فرصة للقيام بهذا الأمر حتى لو كان بشكل
غير رسمي، كما يفعل أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى في
المملكة والتي تعاني هي الأخرى من الإضطهاد والتضييق.
يدور الحديث هذه الإيام عن ترتيبات في هيئة كبار العلماء
التي يستحوذ عليها السلفيون والتي تتصدى للفتيا وتفرضها
على كل المواطنين. كما ويدور حديث حول إشراك علماء من
الحجاز ومن المناطق الأخرى في تلك الهيئة لكي تكون أكثر
تمثيلاً للتوجهات الدينية ـ على الأقل في النطاق السنّي.
وسواء كانت الغاية تخفيف حدّة التعصب وترويجاً للتسامح
المذهبي، وتعضيداً للوحدة الوطنية، أو كان لمجرد تلبيس
على الرأي العام.. فإن المطلوب هو الحضور الفاعل الذي
لا يتحقق إلا بتشكيل مرجعية دينية حجازية واضحة، تستطيع
أن تحدث تطويراً جيداً يخدم كل المواطنين في مجال الفتيا
والتوجيه الديني.
على الصعيد السياسي، فإن من الملاحظ عدم تبلور تجمع
سياسي على النحو الذي نشهده في كل مناطق المملكة، ولربما
لازال الكثير من الحجازيين تجاراً ووجاهات إجتماعية وناشطين
سياسيين يعيشون التاريخ بأكثر مما يعيشون الحاضر. إن مشكلة
المملكة هي أن السياسة فيها متلبسة بالطائفية والمناطقية،
وسواء أردنا أم لم نرد، فإنه من المستحيل أن يحصل الحجازيون
على حقوقهم وحقوق مواطنيهم دونما تنسيق بين الفعاليات
السياسية، وبين هذه الأخيرة والمرجعية الدينية.
لقد اختفت قيادة الحجاز السياسية وطردت من موطنها،
واحتلّ مقعدها، شأنها في ذلك شأن المرجعية الدينية، وقد
حان الوقت لبلورة قيادة حقيقية في المجتمع الحجازي تشدّ
بعضه بعضاً وتعضده في خضم التحولات الجارية، والتي نأمل
ان تسفر عن مساواة وعدالة وحقوق مواطنة افتقدناها جميعاً
منذ قيام الدولة السعودية الحديثة.
|