الإصلاحي المعتقل محمد سعيد الطيب:
البديل عن الإصلاح هو الدمار
بدأ مشوار حياته طالباً في المدرسة الرحمانية بمكة
المكرمة، والتي نُصِّب لاحقاً عمدة لها، وقرر الاشتغال
بمهنة المتاعب في مرحلة مبكرة، وخاض تجربة صحافية في جريدة
(البلاد)، وعبرها قرأ الواقع السياسي العربي حيث تشكّلت
ميوله القومية الناصرية، وساهمت في إثراء وتوجيه تجربته
النضالية، ثم منحت دراسته للقانون الخاص بالمحاماة بعداً
جديداً في شخصيته الوطنية والسياسية.
لقد ضاق أفق العمل القومي في بلاده، ولكن تطلعه البعيد
نحو الوحدة العربية استحثّه للانخراط في النشاطات القومية،
فأصبح عضواً في الإتحاد الدولي للمحامين (لجنة حقوق الإنسان)،
وعضواً في مجلس الأمناء في مركز دراسات الوحدة العربية
ـ بيروت، وعضواً في الاتحاد العربي للمحامين في القاهرة،
وعضواً في مجلس إدارة المؤسسة العربية لحقوق الإنسان،
الى جانب رئاسته لمؤسسة تهامة الصحافية. ولكن هذه العضويات
ظلت خارج الوطن على حد قوله، ولكن
وساماً خاصاً ظل يضفي
على شخصيته لوناً خاصاً كونه داعية إصلاح، وشخصية وطنية
تأمل في رؤية وطن (ليس لفئة من الفئات.. إنه وطن الجميع
وحاضره ومستقبله.. هو مسئولية الجميع) على حد وصفه.
وحين أراد أن يثري تجربة حقوقية جديدة في موطنه لم
يعثر على طريق سالك، بل كانت قيود النظام وسلاسل الجلاد
بانتظاره.. فقد أمضى (زهرة شبابه.. وأحلى سنوات عمره في
السجون والمعتقلات.. مرة وإثنتان وثلاثة وأربعة.. وسنة
وسنتان وأربع وسبع، في الوقت الذي كان الآخرون يمارسون
ـ وبراءة الأطفال في أعينهم ـ أبشع أنواع النفاق والتزلّف
والإنتهازية.. أو -على الأقل ـ الجبن والإنزواء والسلبية
واللامبالاة والإسقاط!! أو التبرع بتقديم النصائح الخاسرة!!)..
وهاهو يدخل ابو الشيماء المعتقل مرة خامسة وهو كهلاً،
لا بسبب ـ كما إدعى المصدر المسؤول!! في وزارة الخارجية
ـ يمس بالوحدة الوطنية، فالوطنية بالنسبة له (ليست رداءاً
يرتدى.. ويخلع! وليست شارة نعلّقها على صدورنا.. وندور
بها بين الناس!.. إنها ـ في الدرجة الأولى ـ تبعة ومسئولية
وواجب.. لا ينهض به إلاّ أولوا العزم..)، إنها بكلمات
أخرى مهمة عظيمة الوقع وأمانة ثقيلة الحمل، وفي كلماته
هذه رداً سابقاً على بيان المصدر المسؤول هذا الذي أراد
التشكيك في وطنية وحرص الطيب وزملائه على الوحدة الوطنية،
فقد اعتبر المصلحة العليا للوطن غايته وهدفه التي حسب
قوله (أضعها ـ دوماً ـ فوق كل الاعتبارات.. وفوق كل الأشخاص
..).
أما لجوء الحكومة الى استعمال (الوطنية) سلاحاً ترفعه
حين تشاء دون معرفة الغور العميق لمعنى الوطنية فلم يكن
مستبعداً، تماماً كما إستعملت (الدين) في وقت سابق سلاحاً
في وجه خصومها في الداخل والخارج..والوطنية التي يراد
تثبيتها هي الصنو الحميم للولاء للعائلة المالكة، وعدم
الوطنية تكون بالضرورة تبني وجهات نظر مخالفة لها.
ظل أبو الشيماء متمسكاً بمواقفه في الاصلاح الشامل
والراشد، مقتفياً سبيل الحوار والاخلاص في النصح، فقد
أكّد مراراً على ضرورة الحوار الوطني الجاد، واعتبر ذلك
حاجة شديدة الالحاح من أجل انقاذ البلاد من أزمات مستفحلة،
فهو يتمسك بمبدأ الحوار باعتباره مدخلاً صحيحاً وأولوياً
في سبيل الوصول الى تشخيصات دقيقة لواقع الأزمة وطريقاً
سالكاً لانتاج الحل، ولعل في عبارته (سأظل أنادي بالمؤتمر
الوطني للحوار..) ما يعكس قناعة عميقة وراسخة بهذا المبدأ،
لأن البديل عن الحوار حسب عقيدته (هو الدمار والسقوط في
دوائر الإحباط والعنف). وكان يكرر بأن الحوار هو (أحوج
ما نكون إليه.. في هذه المرحلة الدقيقة والقلقة.. والتي
تتطلّب أعلى درجات الإحساس باليقظة والمسئولية.. والإدراك
الواعي لمجريات الأمور).
ولكن الحوار بحسب وجهة نظر أبي الشيماء يجب أن يؤسس
سلفاً على المصارحة والمكاشفة، إذ (لا حوار.. إلا وتسبقه
المصارحة). ولذلك حدّد على وجه الدقّة المنحنى الخطير
الذي يقف عليه الوطن، والمخرج الوحيد لتفادي الانزلاق
نحو الفوضى والعنف والدمار، ولعل ما قاله في تشخيص المرحلة
الراهنة يمثل تكثيفاً شديداً لخطورتها (إننا وطن ناضج
للإصلاح ومهيأ للتدمير، ولا أرى نضوجاً كهذه الأيام وليس
من رغبة مشتركة تتطلع للإصلاح كأيامنا هذه. فلنبدأ الخطوة
الأولي). وحين يوضع المقابل السلبي للاصلاح تكون البدائل
دائماً كارثية، وبحسب الاستاذ الطيب فإن البديل عن الاصلاح
هو الدمار والدخول في تلك الدائرة الجهنمية للعنف والتطرّف
والغلو.
كان الاستاذ الطيب يأمل في أن يكون الطاقم السياسي
الموجود قادراً على أن يقوم بفعل الاصلاح، في محاولة لدفع
اليأس والاحباط والاستسلام للواقع عن الذين فقدوا الأمل
في العائلة المالكة، ولكنه لا يمنح أملاً مفتوحاً وإنما
مشروطاً. إن قدرة الطاقم السياسي الحالي متوقفة ـ حسب
الاستاذ الطيب ـ على استعداده للتصدي للمخاطر المحدقة،
حيث يحاول إرشاد هذا الطاقم الى بعض ملامح الاصلاح الحقيقي
الذي يعبر عن التيار الاصلاحي الوطني اذ يتوقف نجاح الحل
على ما (إذا تحولت الوعود بالإصلاح المأمول.. إلى إرادة
سياسية جادة وحازمة.. بكل ما تتطلبه من تضحيات وأقمنا
دولة المؤسسات ـ بكل المعنى الدقيق للمصطلح.. وشجعنا قيام
مؤسسات المجتمع المدني.. وتحولت المشاركة.. إلى ممارسة
عملية.. وتطبيق أمين وصارم لكل متطلباتها.. وأهمّها وضع
الانسان المناسب في المكان المناسب.. وصيانة المال العام..
والأراضي العامة.. والتصدي للفساد ـ بكل أنواعه.. وإتاحة
الفرصة لكل المخلصين من ذوي الكفاية والعدل وسابقة العمل
للصالح العام ليؤدوا أدوارهم في خدمة وطنهم.. واشاعة ثقافة
التسامح.. والاعتراف بالآخر.. ونبذ التفرقة ـ بكل صورها
واشكالها ـ وافساح المجال لحرية التعبير).
وفي هذه الملامح ما يفيد بإضاءة مواقع الازمة التي
تعيشها البلاد في أبعاد مختلفة، ولربما أوضح ذلك بشيء
من التحديد لمفاصل الحل، المعبّر عنها في التطلع الى إصلاح
شامل في جميع مناحي الحياة، وعلى حد قوله (نحن نقف ـ اليوم
ـ في مرحلة دقيقة وفاصلة، وعلينا أن نختار إما أن نمضي
نحو الإصلاح.. إصلاح حقيقي وشامل وسريع.. وإما أن نمضي
الى نفق شديد العتمة). إذن فالعملية الاصلاحية من وجهة
نظر الاستاذ الطيب تقف على الجهة المقابلة لعملية أرادت
الحكومة تمريرها أو التستر بها، أي إحداث تغييرات شكلية
تسبغ عليها عبارة الاصلاح، وإن لم تطل مضامين العملية
الاصلاحية الجوهرية، ولهذا السبب أوضح بصورة محددة قائلاً:
(نحن لا نتحدث عن نوع معين من الإصلاح.. نحن نتطلع الى
إصلاح شامل في جميع مناحي حياتنا: إصلاح سياسي، واصلاح
اقتصادي، واصلاح اجتماعي، واصلاح تعليمي.. إلخ وتحقيق
المشاركة.. بتمكين ذوي الكفاية والعدل من الاضطلاع بمسئولياتهم
والنهوض بواجباتهم في بناء الوطن. الاصلاح الذي نتطلع
اليه: هو دولة المؤسسات.. ومؤسسات المجتمع المدني.. والفصل
بين السلطات.. وبسط العدل بأوسع معانيه.. وتكافؤ الفرص
بين المواطنين في جميع المجالات.. والتصدي للفساد والتفرقة
والغلو.. وتشجيع ثقافة التسامح والحوار). ومن الطبيعي
والحال هذه أن يرفض الطيب الاصلاح الشكلي والجزئي باعتباره
سهلاً ولكن حسب قوله عمره قصير.
ومن المفيد هنا ونحن نقف على مفترقي نظرتين في الاصلاح،
الاشارة الى نظرة التيار الاصلاحي الوطني الذي يمثّل أبو
الشيماء أحد رموزه الكبار، وهذه النظرة تقوم على أساس
أن الاصلاح المأمول يجب أن يكون شاملاً وسريعاً ونشطاً،
ونظرة الحكومة/العائلة المالكة التي ترى بأن الاصلاح يجب
أن تسير ببطء وخطوة خطوة، والغرض من ذلك كله تأمين الطريق
الذي تسلكه العائلة المالكة في التحوّل، أي ضمان الاحتفاظ
بكامل كعكعة السلطة. وهذا الافتراق في النظرتين هو بالتحديد
مورد التجاذب بين الحكومة والتيار الاصلاحي الوطني والذي
ينتمي اليه دعاة الاصلاح المعتقلين في السجون السعودية،
وتبعاً له تتباين أدوات الاصلاح، فللحكومة ما يكفي من
أدوات وتدابير قمعية وادارية قابلة للاستعمال في فرض أجندتها
الاصلاحية، فماذا لدى التيار الاصلاحي الوطني من أدوات؟
هذا السؤال بكل مشروعيته يضع التيار الوطني أمام ضغط
شديد من أجل البحث عن أدوات كفوءة سعياً وراء إنجاح مشروعه
الاصلاحي. فخلال أكثر من عام ظل التيار الاصلاحي الوطني
متمسكاً بخيار العرائض، والمجاهرة بالرأي الاصلاحي عبر
وسائل الاعلام الفضائية، وقد حقق دعاة الاصلاح مع قلة
العتاد اصطفافاً شعبياً واسعاً كما رسموا صورة مشرقة عن
القوى الاصلاحية في البلاد، ولم يكن بإمكان أحد أن يشكك
في نوايا الاصلاحيين أو ينال من مصداقيتهم، فقد اقتفوا
ما قررته العائلة المالكة من سياسة (المجالس المفتوحة)
وأعلنوا ما عقدوا عليه العزم من رؤية في الاصلاح لحاضر
الوطن ومستقبله، وبالغوا في المجاهرة بجلساتهم التحضيرية
ومشاوراتهم. وفي الوقت نفسه، كرّسوا جهودهم لتحقيق ظروف
التحوّل السياسي من الداخل، رافضين عن عقيدة صلبة أية
ضغوط خارجية، بل عارضوا ذلك بالقطع، وبحسب رأي أبي الشيماء
(أنا ضد أي ضغوط خارجية.. ويجب أن لا نفسح المجال أو نعطي
الفرصة.. أو حتى نهيؤها لأحد، ويجب أن تكون رؤيتنا للإصلاح
ليست محلاً للتنافر والاختلاف.. أو اللجاج، ولا بد من
الشروع في الإصلاح.. اليوم وليس غداً. إنه يمثًل حاجة
حقيقية - قبل أن يكون ضغطاً خارجياً).
ولاريب أن ثمة كلمة لابد أن تقال للذين خذلوا الاصلاحيين
من المحسوبين عليهم في وقت أشد ما تكون الحاجة فيه الى
نصرتهم، وخصوصاً أولئك الذي رفعوا راية الاصلاح ثم تسللوا
من تحتها، مبررين ذلك بأن ما أعلنت عنه الحكومة صالح للتكاثر
كقطرات الندى أملاً في تحوّلها الى ماء، أو الذين مازالوا
يتثاءبون بالرغم من وقوع المحذور وانقطاع الرجاء في وعود
سرابية تبددت في اعتقال ابي الشيماء ورفاقه الابطال، دع
عنك أولئك الذين كما يصفهم الاستاذ الطيب (لا يترددون
ـ وبعيون قارحة ـ من إعطائنا دروساً في الوطنية.. وحسن
السلوك السياسي.. وبأن هذا ليس وقت المطالبة بالإصلاح!).
فهؤلاء هم بقايا الحرس القديم الذين مازلوا يتلفتون الى
الوراء خوفاً على فتات المائدة المتعفن في جرابهم، والذين
مازلت لغة البلاط تتحرك على شفافهم دون الالتفات الى أن
عقارب الساعة لا تعود للوراء، وأن عهد التزلف قد أدبر،
وأن تزييف الوعي الوطني بات مفضوحاً، تماماً كما الهجرة
بالوطن الى الماضي. فالوطن الذي يحمله المستقبل ويحلم
به الجميع، وكما يعبّر ابو الشيماء عن هويته ليس الوطن
الذي يكون مستقبله محفوفاً بالاسئلة الحائرة حول منح البطاقة
الشخصية للمرأة، وإن منحت هل تكون بصورة أم بدونها، أو
هل يحق للمرأة أن تركب الليموزين أم لا؟ وهل يجوز أن تكون
العباءة التي ترتديها على الكتف، أم يتعيّن أن تكون على
الرأس؟. إن الوطن الذي يتطلع له كثيرون ويصيغ أبو الشيماء
رؤيته بالنيابة، هو الوطن الذي يعيد للمرأة دورها المسلوب
ويرفع الوصاية المزعومة بكل أشكالها عن المرأة باعتبارها
انساناً مكتمل التكوين النفسي والذهني، وليس بحاجة الى
رشيد ذكوري يدّلها على الطريق.
إن هذه القناعة التي يحملها ابو الشيماء عكسها في الاعتراف
بالحق المتعادل بين النساء والرجال، وأن يكون لكل منهما
نصيباً متساوياً في الشأن العام، وقد بالغ في الانكار
على سؤال وجّهته اليه إحدى المهتمات بإنشاء جمعية نسوية
حول السبيل الى الحصول على اعتراف الحكومة بهذه الجمعية
فرد عليهاالاستاذ الطيب بسؤال استنكاري: (ولماذا أنت حريصة
ـ الى هذا الحد ـ على اعتراف الحكومة)، وأرشدها بالابتعاد
(عن الهياكل الادارية.. والكيانات الزائفة!) وذكّرها بتجربة
(سيدات كثيرات.. قدّمن لوطنهن ومجتمعهن.. أجلّ الخدمات
وأكثرها نفعاً وأبعدها أثراً.. وساهمن ـ مساهمة ايجابية
وفاعلة ـ في مجال الخدمة العامة.. من غير هذه الكيانات
التي تسألين عنها!). فهو هنا يحاول تحرير المرأة من قيود
وهمية فرضت عليها في مجال العمل الوطني والشأن العام.
لقد سعى أبو الشيماء إيصال رسالته في الاصلاح الى كل
من يصله النداء، وعبر كل الوسائل المتاحة وأحياناً غير
المتاحة.. في المقابل، كانت هناك محاولات حثيثة ومتواصلة
لاخماد الصوت الاصلاحي، فقد أُبلغ أكثر من مرة بوقف الظهور
على شاشة المحطات الفضائية العربية وبخاصة الجزيرة والمنار،
حتى ظن البعض أن ابا الشيماء قد اختفى حين تطلب ظهوره
ليعبّر عن ضمير الوطن فرد على كل أولئك (أنا لم أغيب إسمي
بنفسي.. وإنما هو الذي غاب لوحده. سبحان الله يحدث هذا
في بعض البلدان!! لكن ـ شخصياً ـ لن أغيب عن هذا النشاط..
فهو جزء من واجباتي كمهتم بالشأن العام وقضايا الوطن).
ولكن قرارات المنع لم تمنع ابي الشيماء من ايصال رسالته
ولو بالوسائل التقليدية والبدائية، فقد كتب رسائل للوزراء
في مستهل توليهم الوزارة وخاطبهم قائلاً (إن مواطنيكم
لن يكفّوا عن الحلم بوطن أفضل). وتمنى أن (يخرج كل واحد
منهم بعد انتهاء ولايته - رافع الرأس، عالي الهامة، موفور
الكرامة، مرتاح الضمير.. محل الرضا والتقدير من مواطنيه:
أصحاب الشأن..!).
كان يتحدث بلغة المواطن حين يكون الوطن للجميع وليس
لفئة محددة، ويتحدث باسم الوحدة الوطنية حين يتطلب ايواء
الجميع داخل خيمة الوطن، ولا شك أن اعتقاله يمثل خسارة
لكل الوطن المأمول قيامه.
|