حركة الصراع التاريخي لم تتوقف بعد إنشاء الدولة السعودية
التمايز النجدي – الحجازي: هويات متضادة
لقد استخدمت العائلة المالكة سكان نجد ضد بقية السكان،
وتبنّت (الدعوة النجديّة) في حربها ضد المذاهب الإسلامية
الأخرى في المملكة. ترى ماذا سيكون مصير المملكة ووحدتها
السياسية التي قامت على اساس القوة والعنف إذا ما ارتفع
غطاء القهر؟
فشلت العائلة المالكة في إيجاد هوية وطنية جامعة لسكانة
المملكة رغم مضي نحو ثمانية عقود على إلحاق آخر إقليم
لسلطتها. ولاتزال الأقاليم المختلفة متمسكة بهويتها الثقافية
والمذهبية، كما لا تزال شديدة الحساسية تجاه تذويب خصائصها
الذاتية، وهو أمر تسعى له الحكومة السعودية منذ زمن بعيد
وبشتى الوسائل.
لا توجد في السعودية أقليّات عرقية، ولذا فإن انشقاقاً
ينطلق من قاعدة قومية أمرٌ غير وارد.. ولكن المملكة ككيان
سياسي حديث لم يمض على تشكله سوى سبعة عقود، ترتبط الأقاليم
المكونة له بوحدة شبه قسريّة، معرض للكثير من المخاطر،
أهمها أن السلطة السياسية القائمة لم تستطع حتى الآن خلق
هوية وطنية جامعة لأفراد هذا الكيان، تنافس الولاءات المتعددة
للإقليم أو المذهب أو القبيلة.
ومع أن العائلة المالكة استطاعت توحيد القسم الأكبر
من سكان الجزيرة العربية في كيان محدد
جغرافياً، فإنها
لم تستطع إيجاد ولاء وطني راسخ يعضد الوحدة بحيث يصهر
جميع الإختلافات في بوتقته، بل يمكن القول ان تلك العائلة
أبقت بؤر الإختلافات كسيف مصلت يهدد كيان الدولة بالتمزّق.
فهي قد استخدمت سكان منطقة نجد ضدّ بقية السكان، واستخدمت
الدعوة السلفية التي تسمى بـ (الدعوة النجدية) ضد المذاهب
الإسلامية الأخرى، مما أوجد رأياً عاماً بين أبناء المملكة،
يرى أن النظام السياسي السعودي القائم، ليس ممثلاً لكل
البلاد بمجتمعاتها المتعددة، وخياراتها الثقافية المختلفة،
وأقاليمها التي تتضمن في أحيان كثيرة تعبيراً عن أنواع
من الخصوصية. بكلمة، إن الكثير من المواطنين يعتبرون النظام
القائم، ممثلاً لإقليم نجد، ولخياره الثقافي والمذهبي
الخاص (الوهابية) الذي لا يعتبر سوى أداة لترسيخ هذه الهوية.
وكما امتدت سلطة النظام السياسية على دعاوى دينية، أو
على دعاوى قبلية وحق التسلط التاريخي، فإنه يراد توسيع
سلطان السلطة المذهبية كضمانة لتسلسل السيطرة السياسية
من الدائرة الأضيق (العائلة المالكة) ثم الى (إقليم نجد).
الهويّة النجديّة
عدّت سيطرة العائلة المالكة على أقاليم الجزيرة العربية
التي تشكل كيانها السياسي المعروف بإسم المملكة العربية
السعودية، انتصاراً للداخل الصحراوي على الساحل والأطراف
ذات الوجه الحضري غالباً، وانتصراً للمذهب الوهابي على
المذاهب الأخرى، وانتصاراً إقليمياً مناطقياً لنجد على
سائر الأقاليم والمناطق.
ويعتقد عدد من الباحثين ان الهوية النجدية بدأت بظهور
(الدعوة الوهابية) فقبل تاريخ قيام الدعوة، يمكن القول
بأنه لم تكن هناك هوية إقليمية في نجد.. كل ما كان مجرد
مشاعر عداء وربما حسد متبادلة بين سكان الداخل الصحراوي
والأطراف الساحلية، لاعتبارات الثروة ونقاء الأصل والنسب
وغير ذلك، حيث ينظر سكان الداخل الى أنفسهم في العادة
على أنهم أكثر نقاءاً بعكس السكان الحضر ملوثي الأصل،
رخوي الأخلاق ـ بنظرهم. في حين يتهم الأخيرون ساكني الداخل
الصحراوي بالتخلف، ويعيّرونهم بالفقر، وأنهم يعيشون على
هامش الحياة، وأن العصبيات القبلية تحكمهم، فهم مجرد بدو
يقتاتون على النهب والتقل، الى آخر الإتهامات والإتهامات
المضادة.
تمكنت الدعوة الوهابية من توحيد إقليم نجد، والذي كان
من أكثر الأقاليم تصدّعا، حيث الحروب المتعاظمة، والكيانات
السياسية الصغيرة الهزيلة متناثرة هنا وهناك. جاءت الدعوة
الوهابية فأعطت للنجديين رسالة يحملونها الى العالم من
حولهم، في وقت كان فيه البدوي لا ينظر الى أبعد من أرنبة
أنفه.
لم تؤكد الدعوة سيادة الأسرة السعودية الحاكمة على
إقليم نجد ثم على الأقاليم الأخرى فحسب، بل أكدت سيادة
العنصر النجدي على ما عداه، وأهم ما حققته الدعوة هو توحيد
إقليم نجد الذي كان من أصعب الأقاليم خضوعاً للسلطة المركزية
نظراً لتراثه القبلي والعصبي، ونظراً لضعف احتكاكه بالعالم
الخارجي. ومع ان خضوع النجديين للدعوة لم يمرّ دون سيل
الدماء غزيرة، وهروب مئات الألوف الى خارج الجزيرة العربية،
إلا أن الدعوة أصبحت فيما بعد جزءً من هويتهم وتراثهم،
وأداة للتفوق ومبرراً للسيادة، ورسالة الى دول وأقاليم
الجوار.
من المعروف ان الدعوة الوهابية انطلقت من نجد، ويمكن
القول بقليل من المجازفة انها كانت تعبيراً عن شأن محلي
وأنها جاءت لحلّ مشكل نجدي بالدرجة الأساس، لدرجة ان الكثير
من أتباعها يسمونها بـ (الدعوة النجدية) تعبيراً عن تأثير
المكان والبيئة، وتعبيراً عن خصوصية النشأة للفكرة المذهبية.
ومع أن السلطة السياسية التي قامت عليها الدعوة قد أخضعت
الأقاليم الأخرى لسلطانها، إلا أن الآخرين نظروا اليها
كدعوة خاصة للنجديين دون غيرهم، وأنها جاءت لحلّ مشاكل
لا توجد لديهم، من قبيل التفكك السياسي، وانتشار الكم
الهائل من الخزعبلات، كعبادة الأشجار والأحجار التي تحدث
عنها المؤرخون الوهابيون ووقفوا عندها طويلاً، والتي لا
يوجد لها ما يماثلها في مناطق الساحل، وإن كان الوهابيون
يرون في ممارسات سكان الساحل الكثير من (الشركيات والبدع).
لقد زرعت ممارسات النظام السياسي السعودي مشاعر شك
وعداء وحسد بين أبناء المملكة، وقد كان لاستخدام ذلك النظام
للنجديين في تعزيز سلطانه او في تجاوز خصوصيات الآخرين،
أثر كبير في إشعال المراة في النفوس على النظام وكل متعلقاته.
والمدهش أن المنتصر في كل المعارك الطائفية والمناطقية
هم أمراء العائلة المالكة، الذين تزداد يوماً بعد يوم
سيطرتهم على الحكم واستفرادهم بامتيازاته.
ومن هذا المنطلق، كان ولايزال يُنظر الى السلطة السياسية
في المملكة والناشئة على أساس قاعدة مذهبية، بأنها تحمل
هوية نجدية، وإن كانت تلك السلطة لا تمثل النجديين بمعنى
التمثيل الإختياري المتعارف عليه، إذ أن المعارضين لها
كثيرون.. كما أن تشبّث العائلة المالكة بالدعوة الوهابية
في الحاضر كما في الماضي، يعني أمرين هامين: أولهما: نقل
السلطة السياسية من الساحل الحضري الى نجد. وثانياً: إبقاء
نجد مركزاً للسلطة الدينية، باعتبارها لا تبشر بمجرد نظام
حكم، هو بكل المقاييس أكثر تخلفاً من غيره، بل هي تبشر
بنظام فكري ومذهبي يمدّ النظام السياسية بالشرعية التي
يتطلبها. ومن أغرب الأمور أن السلطة الدينية للعالم الإسلامي
والتي كانت تتخذ من الحجاز كمقر طبيعي لها، تحوّلت بمجرد
ان احتل الملك عبد العزيز للحجاز 1924-1926 الى نجد ايضاً،
ولاتزال نجد تمثل السلطتين السياسية والدينية لعموم المملكة.
إن احد اهم مسببات الحساسية بين مناطق المملكة وأقاليمها،
هو شعور ابناء الأقاليم الأخرى بأن النظام الحاكم لم يسلب
منهم سلطاتهم السياسية لصالح إقليم منافس، بل سلب ـ كما
في الحجاز ـ السلطة الدينية ايضاً والتي كان معترفاً بها
في كل العالم الإسلامية، أو هو يسعى لبسط خياره المذهبي
على الأقاليم الأخرى، تعزيزاً لهيمنة الأسرة المالكة سياسياً.
بين الداخل والساحل
لا توصف العلاقة بين الداخل الصحراواي الذي تمثله نجد،
وبين أقاليم الساحل، وعلى مر التاريخ، بأنها علاقة حسنة.
فقد كان الإقليم الصحراوي أكثر إغراقاً في العصبيات القبلية،
وأقلّ ميلاً للخضوع الى السلطة المركزية، خاصة إذا كانت
تلك السلطة تتخذ من الساحل مقراً لها. وحتى في عصر الإسلام
الأول، رأينا أن الحواضر المدنية او الريفية في اليمن
والبحرين (هجر والخط وأوال) والتي تسمى في الوقت الحالي
الأحساء والقطيف والبحرين، كانت أسرع إنقياداً للدعوة
الإسلامية.
وإقليم نجد وإن كان قد خضع ردحاً من الزمن ـ وبشكل
صوري وإسمي في الغالب ـ الى السلطة المركزية التي مثلتها
المدينة المنورة او الكوفة او دمشق او بغداد.. فإن سكان
الإقليم قادوا العديد من التمردات التي يمكن وصفها بأنها
تمردات ضد الحواضر، وأخذت في بعض الأحيان صفة دينية. كما
لعبت القبائل النجدية دوراً سياسياً وعسكرياً هاماً في
المناطق المجاورة، وبالخصوص في مناطق الشرق (ما يعرف بإقليم
البحرين تاريخياً) واتخذت صفة الهجرة والإقامة في تلك
المناطق الحضرية لدعم الحكم القائم هناك.
كانت رئة نجد التي تطلّ منها على العلم هي الحواضر
الساحلية في الحجاز وموانئ الشرق، ولذا كانت محكومة في
الغالب بسلطانها، وإن كانت نجد نفسها لا تفتح شهيّة حكام
الحواضر للسيطرة عليها، لأن تكاليف السيطرة غالية جداً
قبال مردود محدود من الناحية الإقتصادية. حتى السلطات
البريطانية كانت والى مطلع القرن العشرين تنتهج سياسة
عدم التورط في شؤون الداخل الصحراوي، وركزت اهتمامها بالساحل
إلا إذا ارتبطت أمور الساحل بتمدد من قبل سلطات الداخل،
مثلما حدث في الدولة السعودية الأولى التي توسعت حتى وصلت
الى عمان والساحل المتصالح، وقامت رأس الخيمة بمضايقة
الإنجليز وحلفائهم عن طريق ما أسماه الغربيون بـ (القرصنة).
وحتى حملة محمد علي باشا التي قام بها لتدمير دولة السعوديين
الأولى بالنيابة عن العثمانيين، كان من أهم اسباب عدم
تحقيق نجاحها النهائي، أن إقليم نجد لم يكن مربحاً، بل
لم يغطّي الجزء الضئيل جداً من تكلفة بقاء الحاميات والعسكر
فيه.
لقد كانت أقاليم الساحل مكتفية اقتصاديا، وكان تدخلها
في موضوع نجد محدوداً. وبعبارة أصح، إنه لم يكن يستهدف
السيطرة عليها، ويمكن الإستشهاد بحكم الخوالد والأشراف
الذين لم يتدخلوا في الشأن النجدي إلا في نطاق محدود،
وضمن خارطة التحالفات المحلية النجدية، لكن أحداً لم يفكر
في إلحاق نجد بسلطة الساحل، بل يمكن القول ان خشية الحواضر
من نجد كانت غير قليلة، رغم عدم وجود سلطة مركزية فيها،
أو ربما بسبب غياب تلك السلطة. فجموح القبائل وتعدياتها
كان من الأمور الإعتيادية، ولذا كانت سلطات الساحل مهتمة
بمعالجة المخاطر التي قد تمتد من إقليم الوسط إليها، ولا
شيء أكثر من ذلك.
في الطرف الآخر، كان الإقليم النجدي الذي تعصف به المجاعة
والحروب الداخلية، وما يتبعها من هجرات كبيرة ومتواصلة
الى أقاليم الساحل الحضري، يبحث عن حل يتغلب به على قسوة
الطبيعة من جهة، وعلى الفوضى والتناحر الداخليين.. حل
يعطي للإقليم الصدارة في صنع الأحداث والتحكم بمسارات
الإقتصاد.
كان إقليم نجد بحاجة الى رسالة تجديد وإحياء، فكانت
الوهابية.
وبانبعاث سلطة الوهابيين في نجد وتوسيعها الى مناطق
الساحل، بدأ التركيز على الهوية.. فالنجدي هو المجاهد
دفاعاً عن التوحيد وأهله، وهو الجدير بالحكم دون غيره،
وهو المسلم الموحد، ودياره هي أرض الإسلام وما عداها فأرض
كفر وحرب، يجب اداخلها في الدين بسلطان القوة، وإذا لم
يتمكن الموحدون من إدخال البلدة في حظيرة الإسلام فإن
من الواجب مغادرتها باعتبارها ديار شرك يجب الهجرة منها.
وأصبحت الإمتيازات السياسية والإقتصادية ـ وفق هذه النظرة
ـ خاصة به. وفي وقت كان الحكام السعوديون يغالون في استخدام
أسلوب الغرامات الجماعية والمصادرات في المناطق المفتوحة
والذي أشعل النقمة في النفوس، كانت نجد ترفل بالثراء بعد
ان امتد سلطان الدعوة الى المناطق الغنية، وكتب المؤرخين
الوهابيين ـ كابن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد
ـ تحفل بالكثير من الإشارت التي تدل على الثراء المفرط.
كان غنى الداخل الصحراوي ووجاهته مرتبطين بمقدار ما
للنظام السياسي الذي يمثله ـ آل سعود ـ من اتساع نفوذ
وسيطرة على الإمارات والدويلات المجاورة، بحيث اصبح إقليم
نجد العاصمة، أو مركز السلطات الدينية والسياسية والإقتصادية
والعسكرية للدولة. ربما لهذا السبب بالتحديد أقبل النجديون
على الوهابية وأقبلوا على آل سعود ومنحوهما الولاء.
وفي الحقيقة فإن الدعوة الوهابية، استطاعت أن تخلق
في نجد طبقة أثرياء، وطبقة حكام وسياسيين وطبقة من القادة
العسكريين، كما خلقت تطلعاً لدى سكان الإقليم ـ مغالى
فيه ـ نحو الزعامة، وقد مارسها الكثير منهم في مناطقهم
وفي مناطق أخرى تم ضمها لسلطان الدولة الجديدة. ومن مزايا
الدعوة الوهابية انها خلقت قاعدة فكرية توحيدية في إقليم
نجد، وإن فشل أتباعها في استتباع الأقاليم الأخرى على
ذات القاعدة، بسبب التركيز الطائفي في الطرح، وتقديم الإجبار
على الإقتناع.
انتهت الدولة السعودية الأولى، وكان من أهم إنجازاتها
ان خلقت شعوراً وحدوياً نجدياً وتطلعاً نحو الزعامة، ورجال
حكم وسياسة وفقه وحرب أيضاً. وطالما أن الفكر والرجال
قد بقوا فإن إمكانية إعادة بناء الدولة ثانية ليس بأكثر
صعوبة من بنائها أول مرة. ولكن يمكن إدراك ملمح الفشل
في تجربة تلك الدولة في أن أقاليم الساحل، اعتبرت خضوعها
للنظام السياسي والفكر الذي جاء به خضوعاً مؤقتاً واضطرارياً
وصورياً أيضاً، خاصة وأن حكم تلك الدولة لم يكن طويلاً
ـ مجرد 22 سنة مليئة بالقلاقل بالنسبة للأحساء والقطيف،
ونحو خمس عشرة سنة بالنسبة للحجاز.
ويلاحظ أن المناطق التي خضعت للحكم السعودي في أطواره
المختلفة، لم تصبح (وهابية) في غير نجد، وإن جرى اختراق
بعضها مذهبياً، ولايزال التبشير جارياً في المناطق الأخرى،
تأكيداً لحقيقة ما يقوله المؤرخون، بأن خضوع المناطق والأقاليم
لمبادئ الدعوة السلفية، يحظى بأهمية خاصة من قبل العائلة
المالكة، بدرجة مقاربة للخضوع السياسي، باعتباره ضمانة
لعدم الإنقلاب والتمرد.
الحجازية والنجديّة
قبل ان يسيطر الملك المؤسس عبد العزيز على الحجاز،
قال لجون فيلبي في صيف 1918: (إذا قدمت أنت الإنجليزي
إبنتك لي كزوجة، فسأتزوجها، ولكنني لا أتزوج إبنة الشريف،
ولا بنات أهل مكة، ولا غيرهم من المسلمين الذين نعتبرهم
مشركين. وآكل اللحم الذي ذبحه المسيحيون دون تردد، ولكن
المشرك الذي يعبد مع الله إلهاً آخر، فهذا هو ما نبغضه).
وقال ذات مرة في كلام منشور ومطبوع عن أهالي الحجاز: إن
الحجازيين دجاج مناقيرهم من حديد. أي أنهم جبناء وإن كانت
ألسنتهم جارحة حادّة.
وفي بداية العشرينات الميلادية من القرن الماضي، أي
قبل بضع سنوات من سقوط الحجاز، ينقل لنا أمين الريحاني
مشاعر ورؤى الحجازيين تجاه نجد وحاكمها ومذهبها فيقول
أنه سمع في الحجاز من يقول: (إبن سعود بدوي جاهل، ابن
سعود جلف لا قلب له ولا دين. هو من الخوارج، بل من الذين
يخدعون وينافقون باسم الدين. والإخوان رجاله ذئاب تعصب
ضارية، يذبحون ويحمدون الله، يسلبون وينهبون ويكفرون من
لا يقتدي بهم، ويشنعون بالقتلى في الحرب، وبرتكبون من
الفظائع ما تقشعر منه الأبدان. إن دعوة ابن سعود مذهبية،
لذلك لا تنجح خارج نجد).
وتعليقاً على قيام الملك فهد بإنهاء خدمات القوات المصرية
وإعادتها الى ديارها بعيد انتهاء تحرير الكويت.. قال صحافي
نجدي لامع مقرب من العائلة المالكة: حسناً فعل الملك،
إنها ضربة معلم. نحن لا نعلم ماذا ستفعل هذه القوات في
المستقبل، فقد تنقلب علينا، وندري نحن بأن ميول الحجازيين
مصرية منذ القدم، وربما قاموا بأمر ما بمساعدة القوات
المصرية!
واشتكى سفير غربي سابق في المملكة، وهو جيمس كريغ السفير
السابق لبريطانيا في جدة حتى عام 1985، بأن احد المسؤولين
الكبار وهو عبد العزيز التويجري، نائب رئيس الحرس الوطني
المساعد، وبّخه وبمعيته عدد من الدبلوماسيين الغربيين
بالقول: (إنكم لا تفهمون البلاد ولا شعبها ولا حكومتها
أيضاً. كل معلوماتكم تستقونها من الحجازيين. إذا اردتم
أن تعرفوا ماذا يجري في المملكة، تعالوا الى مكتبي هنا
واسألوني أنا!). وعلق السفير بالقول: إن أخطر ما يتهدد
المملكة هو (الإقليمية = المناطقية) وأن الحكم الحالي
فشل رغم مرور السنين في إيجاد حلّ لها أو التخفيف منها.
في المقابل علق أحد المسؤولين الحجازيين الكبار على
إمكانية سيطرة التيار السلفي على الحكم بأن ذلك مستحيل،
وأضاف: (سيبقى الحجاز كما هو الآن، غصّة في حلوق الوهابيين)!
وأضاف: (إذا كان الشيعة في المملكة يعاملون كمواطنين من
الدرجة الثالثة، فإن الحجازيين يعاملون كمواطنين من الدرجة
الثانية)!
وصور كاريكاتير وزع محلياً في بداية الثمانينات الميلادية،
الحساسيات المناطقية بأن أبرز ناقة ضخمة تمتد على خارطة
المملكة من شرقها الى غربها، وكانت تلك الناقة تأكل من
الشرق، في حين يقوم رجل ذو ملامح تجارية بحلبها في الغرب،
ليقدم الحليب الى رجل متراخ بكسل يجلس حيث تقع الرياض
على الخريطة.
وقبل هذا ظهر كاريكاتير وزع في أنحاء المملكة، يصور
بقرة تأكل من مناطق الشرق حيث آبار النفط، وتلقي بروثها
في الغرب، أما الحليب فهو من حصة الوسط فحسب. وقد استند
احد الكتاب الأجانب على هذا الكاريكاتير ليثبت أن هناك
نزعة إقليمية لم تستطع مليارات النفط إخفاءها. وقالت كاتبة
غربية (روبن رايت) في بداية الثمانينات بأن عدم العدالة
في توزيع الثروة والذي هو داء الحكام الشرقيين هو السبب
المهم الذي تكمن خلفه الإضطرابات في المنطقة الشرقية.
وهو ذات السبب الذي ألمح له باحث يهودي (مردخاي عبير)
في أحد كتبه عن السعودية ـ الذي أشعل النقمة في نفوس الحجازيين
منذ الثمانينيات الميلادية.
لقد أردنا مجرد تقديم صورة عن الحساسيات النجدية والحجازية،
وبالقطع هناك حساسيات اخرى لا يطغى عليها عنوان الإقليم
ـ وإن كان داخلاً في الحساب ـ وصورتها البارزة تتجسد في
الصراع المذهبي. وقد وصف الملك عبد العزيز ذات مرة الزيود
في جنوب المملكة وغربها بأنهم يهود، أما الشيعة في الشرقية
فقال للريحاني عنهم باستخفاف واستهجان حين سأله الأخير:
هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا
في دين التوحيد ـ الوهابية؟ أجاب: (لا.. وضرب الأرض ضربتين
بعصاه ثم قال: هذا الحسا، عندنا أكثر من ثلاثين ألفاً
من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين. كن مطمئن البال يا أستاذ،
لسنا كما يرانا بعض الناس)! في حين قال الملك نفسه للمعتمد
السياسي في البحرين أولاً ثم الكويت (الكولونيل ديكسون)
حين زاره الأخير في الأحساء في يناير 1920 ليرصد تنامي
حركة الإخوان (الوهابية).. قال الملك له: (إن شعبه النجدي
يعتنق أصفى وأنقى أشكال الدين في عالم اليوم).
إن أقوال الملك عبد العزيز هذه وغيرها تكتسب أهمية
خاصة من حيث انها صادرة من الشخصية التي قام على أكتافها
بناء كيان المملكة الحالي، وهي الشخصية التي يُنسب لها
الفضل في (توحيد) الأقاليم المهمة في الجزيرة العربية.
لقد بعث الملك عبد العزيز في مطلع القرن العشرين سلطة
عائلته في وسط نجد من منظور أنه يريد اعادة ملك آبائه
وأجداده. وتشير المصادر السعودية الى أن الملك لم يكن
يحمل رسالة سياسية او دينية حتى لأهل نجد، حيث شعرت البيوتات
الحاكمة بأنها ـ وبالإعتماد على نفس المنطق ـ أولى بالحكم
من الغريب، وقد خاض ابن سعود صراعاً شاقاً حتى تمكن من
السيطرة على القصيم بعد نحو أربع سنوات من احتلال الرياض،
ولكنه لم يستطع مقاومة العصبية القبلية في حائل التي كانت
المركز السياسي لنجد والتي كان يحكمها الشمريون إلا بعد
مرور نحو عشرين عاماً حيث أخضعت بدعاوى دينية. ذلك ان
الملك عبد العزيز لم يرفع شعار الدين إلا بعد مرور 12
عاماً من سيطرته على الرياض وتبنّى أو أسس ـ على اختلاف
الروايات ـ حركة الإخوان، فأصبحت رسالة الحكم مذهبية استطاع
على أساسها إخضاع الحجاز وحائل ومناطق الجنوب، والتي لولا
ـ الوهابية والإخوان ـ ما قام كيان المملكة بشكله المعروف
حالياً.
كان من السهل على الملك هضم حائل في شمال نجد، أو عروس
الشمال، باعتبارها متقاربة من حيث الفكر والخصوصيات القبلية
وإن كانت الأشدّ في العداء لآل سعود. اما الحجاز فقد كان
كياناً مستقلاً من الناحية الفكرية والسياسية والمذهبية.
إنه دولة تعتبر بمقاييس ذلك الزمان حديثة عصرية وذات رسالة
قومية حملها الشريف حسين ثم أبناؤه، وقد كان هضم الحجاز
أمراً في غاية الصعوبة، لهذا سلك الملك طرقاً غير وعرة
للإبقاء على الحجاز خاضعاً لسيطرته.
كان الملك يدرك حجم الحساسيات المناطقية والمذهبية
بين النجديين والحجازيين، ووجد من الصعب إن لم يكن من
المستحيل ضم الحجاز بما يمثله من ثقل ديني واقتصادي وسكاني
الى نجد دفعة واحدة، فكان أن قرر جعل البلاد مملكتين لا
يربطهما مع بعضهما سوى شخص الملك.. المملكة الأولى تمثلها
نجد وملحقاتها (اصبحت الأحساء والقطيف تابعة لنجد ضمن
ما عرف يومئذ بسلطنة نجد وملحقاتها). والثانية: المملكة
الحجازية، حيث أن ابن سعود كان ملكاً للحجاز، وهو في نفس
الوقت (سلطانا) لنجد وملحقاتها. وقد اصبحت نجد مملكة هي
الأخرى بقرار من الملك في ابريل 1927م، ولكنه لم يضع لها
تعليمات أساسية أو نظاماً أو ما يشبه الدستور الذي يحفظ
لها خصائصها كما فعل في الحجاز.
فبعد اسبوعين من سقوط جدة أصبح ابن سعود ملكاً للحجاز،
بعد أن كان يعيّر الملك حسين بأنه نصب نفسه ملكاً خلافاً
لمقتضيات الدين! وبعد ان مضت بضعة اشهر وضع بنفسه (نظاماً)
للمملكة الحجازية كانت نصوصه من إملائه في اغسطس 1926،
تضمن المواد التالية: إن المملكة الحجازية بحدودها المعلومة
(لم تكن الحدود معلومة، حيث ان الملك بقي يطالب بالعقبة
ومعان باعتبارهما جزءً من الحجاز) مرتبطة بعضها ببعض لا
تقبل التجزئة ولا الإنفصال بوجه من الوجوه ـ وأن الدولة
العربية الحجازية دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في
داخليتها وخارجيتها ـ وأن مكة المكرمة هي عاصمة الدولة
الحجازية ـ وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية ـ وتكون
جميع ادارة المملكة الحجازية بيد صاحب الجلالة الملك عبد
العزيز الأول بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ـ وأن الأحكام
تكون منطبقة على كتاب الله وسنة الرسول وما كان عليه الصحابة
والسلف الصالح ـ وأن يعين من قبل الملك نائباً عاماً وبقدر
اللزوم مديرون ورؤساء لإدارة أمور المملكة الحجازية ـ
وتكون النيابة العامة مرجعاً عاماً لجميع دوائر الحكومة
وأقسامها، وتكون النيابة مسؤولة أمام الملك.
لم تكن التعليمات الأساسية للحجاز هذه، تعني استقلالاً..
فملك نجد هو ملك الحجاز، الذي أوكلت إدراته وحكمه الى
الأمير فيصل ـ الملك فيما بعد ـ أما الإستقلال في الشؤون
الخارجية فأمرٌ لم يكن مطبقاً، حيث لم يكن هناك اعتراف
من أحد باستقلال الحجاز كدولة بل ان الإعتراف من قبل بريطانيا
ومن الإتحاد السوفياتي كانا قائمين على اعتبار الحجاز
جزءً من المملكة النجدية، مثلما فعلت اتفاقية دارين ـ
القطيف ـ في عام 1915 والتي وقعها الملك المؤسس مع المقيم
البريطاني في بوشهر السير بيرسي كوكس، والتي كانت تستهدف
إعطاء الشرعية على عملية ضم أو إلحاق (القطيف والأحساء
والجبيل) الى نجد.
لكن التعليمات أعطت في نفس الوقت شعوراً للحجازيين
بأنهم بعيدون ـ رغم خضوعهم للسلطة السياسية لآل سعود ـ
عن الهيمنة النجدية المطلقة، وأن الجهاز الإداري الداخلي
سيكون بيدهم من قبيل البلدية والجمارك والتعليم والصحة،
رغم ان السلطات الدينية السلفية فجرت بممارساتها الطائفية
في الحجاز نقمة عارمة أدت الى تشكيل حزب معارض حمل اسم
(الحزب الوطني الحجازي) انضم اليه وجهاء الحجاز، الذين
أخذوا على عاتقهم مهمة تحريره من السيطرة السياسية والدينية
النجدية ـ الوهابية.
وقد اوجدت تحركات الحزب، ونشاطاته في الخارج (مصر واليمن
والهند والأردن) رأيا عاماً ناقماً على تسلط السعوديين
على الأماكن المقدسة، وفاقمها الخلاف المصري السعودي حول
مصير الحجاز، ثم أزمة المحمل المصري التي أدت الى مقتل
الكثير من الحجاج المصريين، فقطعت العلاقات بين البلدين
في عهد الملك فؤاد، مما أوجد بلبلة ادارية في الإقليم
الحجازي وإثارة للعصبيات المذهبية، خاصة وأن علماء المذهب
الرسمي سعوا بشكل حاد الى إجبار سكان الحجاز على التقيد
بتعاليم الوهابية، وأثاروا حنق الأهالي ـ بشكل خاص ـ لتدميرهم
معظم الأماكن الأثرية المقدسة والتي لاتزال تمثل جرحاً
لم يندمل رغم تقادم السنين.
وكان العديد من شخصيات الحجاز الدينية قد ذهبوا ضحية
مجازر ما قبل الإحتلال في الطائف وتربة. ويصور لنا الريحاني
مجزرة الطائف بقوله: (طفقوا يطلقون بنادقهم في الأسواق
وهم يطوفون المدينة، وراح العربان والإخوان يطرقون الأبواب
ويكسرونها فيدخلون البيوت ثم يعملون فيها أيدي السلب،
وكانوا يقتلون في سبيل السلب... وقتل مفتي الشافعية الشيخ
الزواوي وأبناء الشيبي... أما الشيخ عبد القادر الشيبي،
سادن الكعبة، فقد نجا من الإخوان بحيلة ظريفة. بكى عندما
وقع في أيديهم، فسأله أحدهم وقد استلّ السيف فوق رأسه:
وليش تبتسي (تبكي) يا تسافر (يا كافر)؟ فأجاب الشيخ: أبكي
والله من شدة الفرح! أبكي يا إخوان لأنني قضيت حياتي كلها
في الشرك والكفر! ولم يشأ الله أن أموت إلا مؤمناً موحداً..
الله أكبر! الله أكبر! لا إله الا الله!).
وحين غالى الإخوان في تصرفاتهم في الحجاز، أصدر الملك
أوامره بتأسيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
لتنظيم عملية الأمر والنهي، وحتى لا يأخذ كل إخواني القانون
بيده، مما يستتبعه فوضى وتأجيج لحدة الصراع النجدي الحجازي،
الذي شهد بعد بضع سنوات ثورة قبائل بلي في شمال الحجاز
بقيادة حامد بن رفادة، وبمساعدة الحكومتين المصرية والأردنية.
احتكار الحجاز للمناصب الإدارية
أنهى الملك الإزدواجية في الحكم لمملكتين متنافستين
في نجد والحجاز، وأعلن بناء على استشارة جون فيلبي تسمية
المملكتين وملحقاتهما بـ (المملكة العربية السعودية) في
الثامن عشر من سبتمبر 1932. وكان القرار قد صور بأنه اتخذ
بناء على طلب من الحجازيين الذين مثلهم سبعة عشر شخصاً
كانوا ضمن مجلس الوكلاء الذي أنيط به يومئذ إدارة شؤون
الحجاز الداخلية. من بينهم إثنان يمثلان نجد، هما مستشارا
الملك ابن سعود: الدرزي فؤاد حمزة، والليبي خالد القرقني.
وكان هؤلاء السبعة عشر شخصاً قد اجتمعوا في الطائف
ـ بإيعاز من الملك السعودي نفسه ـ وحرروا (صكاً) استرحموا
فيه الملك بأن يوحد المملكتين، ومما جاء في تبريرات توحيد
الإقليمين ـ المملكتين قولهم إن اسم (المملكة الحجازية
والنجدية وملحقاتها لا يعبر عن الوحدة العنصرية والحكومية
والشعبية.. ولا يرمز الى الأماني التي تختلج في صدور أبناء
هذه الأمة للإتحاد والإئتلاف، ولا يدل على الإرتباط الحقيقي
بين شقي المملكة المهيبين تحت ظل جلالة الجالس على العرش)!
وحين وافق الملك عبد العزيز على ذلك فترحم على الموقعين
بتوحيد المملكة! طلب من مجلس الوكلاء المختص بشؤون الحجاز
أن يشرع في (وضع نظام أساسي للمملكة ونظام توارث العرش
ونظام لتشكيلات الحكومة، وعرضها علينا لاستصدار اوامرانا
فيها) ولكن النظام الأساسي ونظام توارث العرش لم يريا
النور.
كان توحيد المملكة يعني سيطرة العنصر الحجازي على الإدارة،
فالحجاز هو الإقليم الوحيد المنظم في إدارته على اسس عصرية،
والحجازيون هم أكثر تأهيلاً وتعليماً وخبرة في الإدارة،
وقد انيط بهم فيما بعد وضع أغلب القوانين والأنظمة التي
هي معتمدة الآن في المملكة. وهذا ما سبب بعض الحساسيات
لدى النجديين، وخاصة رجال المذهب الوهابي الذين رأوا في
الكثير من تلك الأنظمة والقوانين مخالفة للشريعة. ومما
ساعد الحجازيين على تبوء المكانة في الجهاز الإداري للدولة،
اعتبار جدة مقراً للبعثات الدبلوماسية طيلة ستة عقود،
حيث لم تصبح الرياض مقراً للسفارات إلا في منتصف الثمانينيات
الميلادية من القرن الماضي. وكان سبب ابقاء جدة عاصمة
للدبلوماسية السعودية، وبها مقر وزارة الخارجية الأساس،
هو الخوف من تعرض الدبلوماسيين للقتل او المضايقة، وقد
هاجم الإخوان ـ بعيد السيطرة على الحجاز ـ العديد من القنصليات
وتعرض أكثر من قنصل الى الأذى ومحاولة القتل (قتل أحد
أبناء الملك وهو مشاري بن عبد العزيز وهو في حالة سكر
القنصل البريطاني في جدة سيريل اوسمان).
كان الحجاز قبل توحيد المملكة يدار من خلال أجهزة وأنظمة
سبقت مجيء الحكم السعودي، فقد كان هناك دستور ومجالس بلدية
وجيش نظامي وصحافة وتعليم وإعلام، وهي أمور يجهلها سكان
مناطق المملكة الأخرى في الشرق والشمال والوسط والجنوب.
وكان اقليم الحجاز يقيم علاقات عريقة مع الخارج بفعل التجارة
بعيدة المدى إضافة الى الحج، وهي روابط لم تعرفها سلطة
الملك عبد العزيز. لهذا ـ يقول غسان سلامه في كتابه: السياسة
الخارجية السعودية ـ أن عملية دمج الحجاز كانت شاقة (حيث
كان ينبغي تجنب اثارة سكان الحجاز المدنيين الذين يغلب
عليهم طابع التجارة والتحضر والذين لا يتوانون عن إظهار
تفوقهم على المقاتلين النجديين البدو). اما نجد وملحقاتها
فقد كانت تدار بصورة بدائية للغاية، يوضحها فؤاد حمزة
في كتابه (البلاد السعودية) فيشير الى ان المملكة السعودية
كانت تدار في عام 1936 عبر: (الشعبة السياسية وكانت تتولى
ادارة الشؤون الخارجية للبلاد، وكانت وزارة الخارجية في
جدة ملحقة لها في الواقع ـ شعبة البرقيات ـ شعبة البادية
وداخلية نجد ـ المحاسبات والأعطيات ـ الوفود والضيافة
ـ الديوان الملكي ويختص بالشؤون الداخلية ـ الخاصة الملكية
ـ أهل الجهاد ـ الخزينة الخاصة ـ المخازن الخاصة ـ رئاسة
الحاشية ـ رئاسة الخيل ـ رئاسة الجيش (الإبل) ـ السيارات
ـ المقرئ والمؤذن).
عبر هذا النوع الهلامي من التنظيم كانت أمور نجد تدار،
رغم وجود تنظيم أفضل في الحجاز للإدارة حيث كانت النيابة
العامة بمثابة حكومة محلية، وكان سكان الحجاز قد عرفوا
مضمون الإنتخابات ومارسوها بشكل مبتسر وهو أمر لم يتح
في أي من أقاليم المملكة الأخرى. وتحسباً وخشية من الحساسيات،
وبعد ان سقطت مكة طلب الملك عبد العزيز من أعيان الحجاز
أن يحضروا اجتماعاً أعده وألقى فيه خطاباً اعترف فيه بخصوصيتهم
الجغرافية وربما الثقافية، وأتاح لهم فرصة الإشراف وتولي
مسؤولي ادارة بلدهم. قال الملك (إن دياراً كدياركم تحتاج
الى اهتمام زائد فأنتم أعلم ببلدكم من البعيدين عنكم،
وما أرى لكم أحسن من أن تلقى مسؤوليات الأعمال على عواتقكم،
وأريد منكم ان تعينوا وقتاً يجتمع فيه نخبة العلماء ونخبة
الأعيان ونخبة التجار... ثم هؤلاء الأشخاص يستلمون زمام
الأمور فيعينون لأنفسهم اوقاتاً معينة يجتمعون فيها ويقررون
ما فيه المصلحة للبلد ـ الحجاز). وبهذا ولد ما عرف باسم
(المجلس الأهلي) لإدارة أوضاع الحجاز الداخلية وذلك عام
1924م.
وفي العام التالي شكل مجلس برئاسة محمد المرزوقي حدد
الملك مهماته في قضايا البلدية والقضاء والأمن والتعليم
وترقية شؤون التجارة والبرق والبريد. ويبدو أن هذين المجلسين
لم يؤديا مهمة حقيقية وذات قيمة. وفي عام 1926 تشكل مجلس
باسم (مجلس الشورى) خاص بالمملكة الحجازية وحدها برئاسة
الأمير فيصل، نائب الملك على الحجاز، وبعضوية 12 شخصاً،
بينهم اربعة معاونين لفيصل وثمانية اختارهم الملك بنفسه،
وكان عمر هذا المجلس قصيراً كالمجالس السابقة، حيث اصدر
الملك عبد العزيز في محرم 1346هـ، الموافق 1927م مرسوماً
يتضمن 15 مادة تتعلق بنظام مجلس الشورى في الحجاز، جاء
فيها ان المجلس يتألف من ثمانية اعضاء تختار الحكومة اربعة
منهم بعد استشارة اهل الخبرة، وتختار الحكومة اربعة آخرين
دون استشارة بل بمعرفتها، على ان يكون اثنان منهم من اهل
نجد!!
وحددت المواد مدة العضوية في سنتين وأن يكون فيصل رئيساً
للمجلس، أما مهام المجلس فهي البلدية والرخص ونزع الملكيات
واستخدام الموظفين الأجانب اضافة الى سن القوانين والأنظمة
التي تتطلبها الدولة الحجازية. وقد قام المجلس بالمهمة
الأخيرة خير قيام واصبحت تلك القوانين ملزمة لكل اقاليم
المملكة بعد توحيدها في سبتمبر 1932.
استمرت المجالس قائمة وتشكل كل سنتين ويحدد الملك اعضاءها،
كما يحدد انظمتها التي كانت عرضة للتغير الدائم. ويهمنا
هنا هو الفات النظر الى ان تلك المجالس كانت خاصة بالحجاز
دون غيره. لأن الإقليم سبق غيره من ناحية التعليم والتطور،
ولأنه يعتبر دولة كاملة متقدمة على نجد وملحقاتها في كل
الأمور تقريباً.
انتهت مهمة المجالس الشوروية في الحجاز حين حولت المهام
التي كانت تقوم بها الى مجلس الوكلاء الذي كان يتشكل من
اربعة اشخاص فقط، ثم الى مجلس الوزراء الذي تأسس في الشهور
الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز في عام 1953م، وكانت
آخر مهمة لمجلس الشورى الحجازي قد ظهرت في عام 1964م حين
اصدر رئيس المجلس بياناً يؤيد فيه فيصل ضد سعود ويبايعه
بالملك. في حين ان أعضاء المجلس قد ماتوا بعد أن الحق
اكثرهم بالعمل في وزارات اخرى. لقد كان المجلس ميتاً قبل
موت الملك عبد العزيز عام 1953 بزمن طويل، رغم ان اعلان
وفاة مجلس الشورى الحجازي لم تعلن رسمياً حتى الآن!
بالطبع لم تقابل ريادة الحجازيين بارتياح، مع أنهم
كانوا أكثر مطواعية وقدرة في التعامل مع أمور الدولة،
في حين ان النجديين كانوا يمثلون حتى ذلك الحين صلابة
وخشونة الصحراء والمذهب الوهابي الذي بعث بين جنباتها،
وقد يجوز لنا القول بأن نجد كانت تمثل (الثورة) وهو مصطلح
أطلقه جلال كشك في كتابه: السعوديون والحل الإسلامي على
حركة الإخوان النجدية، ولم يكن لدى النجديين بشكل عام
القابلية في ذلك الوقت لتقمص دور الدولة القطرية بعد أن
استكملت المملكة حدودها المتعارف عليها. كانت خبرتهم منحصرة
في الحرب والقتال، وكان مفهوم الدولة القطرية أبعد ما
يكون عن أذهان طليعة النجديين من رجال الدين وقيادات العسكر.
ولذا كان من البديهي أن يغلب آل سعود (بناء الدولة) على
الإستمرار في (الثورة) وأن يميلوا الى رجال الحجاز باعتبارهم
الأقدر على الإيفاء بمتطلبات الدولة، فقد كانوا أكثر إدراكاً
للمعطيات السياسية والإقليمية والدولية، ولأن تربيتهم
حضرية، فضلاً عن حصولهم على تأهيل علمي، بحيث ساعدهم كل
ذلك على تبوء مقعد الإدارة لفترة وجيزة. اما المجتمع النجدي
فلم يبدأ التخلي عن مفهوم الثورة وتصدير المذهب الوهابي
بالقوة الى المناطق والدول المجاورة ـ والى حين فقط ـ
إلا بعد نكسة الإخوان عام 1930، فقد كانوا يشكلون العمود
الفقري للجيش النجدي، واصطدموا مع الملك السعودي لأسباب
عديدة من أهمها انهم ارادوا مواصلة الجهاد (الثورة) والسيطرة
على العراق والكويت والإمارات الساحلية اضافة الى الأردن،
وهو امر كان مستحيلاً لأن تلك الدول والإمارات كانت خاضعة
للإشراف البريطاني المباشر.
وحتى نهاية الخمسينيات الميلادية، كانت مشاركة الحجازيين
في جهاز الإدارة الحكومي أمراً لا غنى عنه، ولم يكن في
نجد سوى القليل من الكفاءات العلمية. ومع زيادة المداخيل
النفطية، واستئثار إقليم الوسط بالخدمات.. تسارع نمو الطبقة
الوسطى فيه، فظهرت بعض الكفاءات العلمية التي كانت بالبلاد
بحاجة مساسة اليها، وبدأ النجديون يشغلون مقاعد الحجازيين
بتشجيع النظام السياسي.. ولم يحن اول الستينيات بالطلوع
إلا وتنظيم (نجد الفتاة) يشق صفوفه في التنظيم الإداري
الحكومي، ويعقد تحالفاته في الوسط السياسي للعائلة الماللكة
مطالباً بالإصلاح ومستغلا لظروف الخلاف بين الملك سعود
وفيصل. واستطاع احد اهم اقطاب التنظيم، وهو عبد الله الطريقي
وزير النفط، اقناع الأمير طلال بتبني موضوع الإصلاح السياسي.
وينبغي الإشارة هنا الى ان الحجازيين مالوا الى الملك
فيصل في صراعه مع أخيه الملك سعود الذي اعتبر ممثلاً لتقاليد
قبلية رغم ان علماء الدعوة السلفية اتهموه بالفسق لخروجه
عليها وعلى قيمها، في حين ان الملك فيصل وبسبب طول بقائه
حاكماً للحجاز منذ احتلاله، افاد واستفاد من اقليم الحجاز،
وخلق بين اهله قاعدة ولاء شخصي له، وقد كانت تجربة فيصل
في إدارة الإقليم الحجازي غنية مثيرة، ولازال أبناء فيصل
يتمتعون باحترام بين الحجازيين الذين هم أقل ميلاً الى
فهد وعصبة السديريين السبعة.
مظاهر التباين والإختلاف
كما قلنا، أنه وحتى أواخر الخمسينات الميلادية كانت
سيطرة الحجازيين على الجهاز الإداري للمملكة شبه مطلقة
لاعتبارات أشرنا اليها.
في مجال التعليم: كان الحجاز موئل طلاب الدراسة والعلم
الشرعي والأهلي الحديث، حتى من بين امراء العائلة المالكة
(درس الملك فهد في المعهد العلمي بمكة). فيوم لم تكن في
البلاد مدارس ومعاهد، كانت مدارس الفلاح تخرج طلاب العلم،
وكان الحجازيون يبتعثون الى مصر وغيرها لإكمال دراساتهم
العليا.. لهذا كانت لهم السلطة على التعليم وإن كانت تلك
السلطة محددة بسلطات المذهب الرسمي، خاصة فيما يتعلق بالمناهج،
وهو ما سبب مشاكل للحجازيين فيما بعد لأن سلطات المذهب
الرسمي رفضت تدريس الجغرافيا والرسم وغير ذلك.
ومن جهة ثانية كان التعليم الأهلي غير الرسمي شائعاً
في الحجاز، سواء كان التعليم دينياً أم نظامياً، وكانت
المدارس الحنفية والشافعية والمالكية وغيرها كثيرة وتسيرها
أموال الأوقاف، وكانت هناك مكتبات شهيرة لم يبق إلا القليل
منها بعد أن تمّ العبث بمحتوياتها وحرق بعض كتبها وبيعت
الكتب الأخرى أو صودرت. وكان في الحجاز من الشعراء والأدباء
ورجال الدين كثيرون، وهناك عشرات من الكتب المطبوعة في
المملكة عن شخصيات الحجاز ورجاله.
لكن المدارس الدينية في الحجاز جرى اغلاقها الواحدة
تلو الأخرى لأسباب مذهبية، وأشرف رجال المذهب الرسمي على
ما تبقى من مدارس، وفرضوا مناهج تتواءم مع الفكر الذي
يريدون نشره. وكانت تلك المدارس والمعاهد النواة التي
تأسس على أنقاضها ما يعرف اليوم باسم (الجامعة الإسلامية)
في المدينة المنورة، والتي كان اول رئيس لها الشيخ عبد
العزيز بن باز مفتي المملكة السابق.
لم تشكل اول جامعة في الحجاز وإنما في الرياض، وذلك
في عام 1958، في حين تأخر فتح جامعة في الحجاز، حتى قام
الأهالي أنفسهم ـ وخلافاً لرغبة الحكومة ـ بتأسيس جامعة
اهلية في جدة سنة 1967، مما أدى الى توقيف بعض النخب الحجازية
وبينهم أمين مدني والد وزير الحج الحالي. وفي عام 1971
ضمت الحكومة الجامعة الأهلية جامعة الملك عبد العزيز اليها
وصارت جامعة حكومية. وفي المنطقة الشرقية اسست كلية البترول
والمعادن ثم تحولت في عام 1974 الى جامعة البترول والمعادن،
ثم تغير الاسم الى جامعة الملك فهد، فكانت اول جامعة في
المنطقة الشرقية.
الإعلام والصحافة: منذ مطلع القرن العشرين عرف الحجازيون
الصحافة، فكانت تصدر في الحجاز العديد من الصحف وبلغات
مختلفة. في حين أن نجد وملحقاتها الشرقية ـ الأحساء والقطيف
ـ لم تكن تعرف هذا اللون من العمل إلا بعد نصف قرن وبالتحديد
في عام 1953 حين تأسس في الرياض مجلة اليمامة وهي مجلة
شهرية اصبحت أسبوعية، أسسها علامة الجزيرة المرحوم الشيخ
حمد الجاسر.
قبل سقوط مكة، كانت حكومة الحجاز تشرف على مطابع القبلة
وتصدر منها صحيفة اسبوعية تسمى (القبلة) ولما احتلت مكة
صادر الملك عبد العزيز المطابع وأسس صحيفة أسبوعية على
انقاض القبلة سماها (أم القرى) عهد بالإشراف عليها الى
مستشاره السوري يوسف ياسين، ولا تزال (أم القرى) الصحيفة
الرسمية للدولة. اما جدة التي حوصر فيها الملك الشريف
علي بن الحسين قرابة عام ونصف، فقد كانت تصدر صحيفة تحت
الحصار تسمى (بريد الحجاز).
لقد كان الحجاز رائداً في الصحافة والإعلام، فمن مكة
صدرت اول صحيفة يومية سنة 1953، وبث منها أول برنامج إذاعي
سنة 1949م، في حين لم تكن هناك إذاعة في الإقليم الأوسط
حتى عام 1964، وحين اسست كانت قائمة على إعادة بث ما تذيعه
إذاعة مكة ثم إذاعة جدة.
وفي الوقت الحالي يمكن للمتابع بسهولة التفريق بين
نمطين من الصحافة والعمل الصحافي، واحد يختص بالحجازيين
والثاني يختص بالنجديين ولكل شخصيته ولغته وكتابه وقراؤه،
وإن كان نظام المطبوعات الذي فصلته العائلة المالكة على
مقاس مصالحها، لا يعطي مجالا ذا قيمة للتنوع والتعدد في
الرأي.
صحيفة الحجازيين المفضلة فيما يبدو عكاظ التي يعتبرونها
(خديوية) لقربها الكبير من وزارة الداخلية والعائلة المالكة،
ثم تأتي صحيفة المدينة التي تعتبر مشاكسة، وتحاول جريدة
الوطن الجديدة التي تصدر من الجنوب ان تسحب اليها قراء
الجريدتين فيما توقفت صحيفة البلاد لمصاعب مالية، وانطفأ
بريق مجلة الحجازيين الأولى سابقا وهي (إقرأ).. وهناك
صحف ومطبوعات حجازية اخرى أغلب الكتاب فيها هم من الحجازيين.
أما صحافة نجد المفضلة فهي الرياض أولاً والجزيرة ثانياً
والمجلة الإسبوعية التي كانت الى وقت قريب تستقطب خيرة
الأقلام فبهتت هي مجلة (اليمامة) ولا يشارك الحجازيون
وغيرهم في هذه المطبوعات إلا بشكل محدود جداً، فيما بدأ
تمدد النجديين الى الصحافة الحجازية بشكل واسع خلال السنوات
الأخيرة.
على الصعيد المذهبي: جرى تجاهل الحجازيين ـ وفي الواقع
غير السلفيين في كل أنحاء المملكة ـ وبشكل شبه كلي منذ
بداية تأسيس الدولة، فلا يوجد اليوم اسم ديني حجازي على
المستوى الرسمي الديني للمملكة، بل ان المؤسستين السياسية
والدينية لا تشعران بارتياح لبروز اي شخصية دينية حجازية
ـ أو بالأصح غير سلفية رسمية ـ وذلك لتداخل المسألة الطائفية
بالموضوع السياسي، ولا أدل على ذلك الإثارات التي صاحبت
مفتي الحجاز وزعيم مكة الدكتور السيد محمد علوي المالكي،
والصراع شبه المكشوف مع أتباعه. وقد كان الصراع في مظهره
طائفياً، بحجة إحياء المولد النبوي الشريف، وهو أمرٌ يعتبره
أتباع المدرسة الوهابية كفراً وشركاً، فتمت مضايقة المالكي
وأتباعه وجرى توقيف بعضهم. اما الشيخ المالكي نفسه فتعرض
لهجوم حاد، ومنع من التدريس في الحرم المكي، وطبعت كتب
متعددة داخل المملكة ووزعت تهاجمه لشخصه وتطعن في معتقده
(الصوفي!) وتصمه بالمروق عن الدين. منذ ذلك الحين أواخر
الثمانينيات الميلادية بدأت كتب الدكتور محمد عبده يماني
بالظهور والتي تمحورت حول الولاء للرسول ولآل البيت وصحابته
الكرام، واعتبرت تلك الكتابة رداً غير مباشر على الكتب
التي صدرت ضد الحجازيين وزعيمهم، وبينها كتاب سفر الحوالي
الذي كفر فيه أهل الحجاز بدعاوى الشرك والتصوف!
وللحق، فإن تياراً دينياً مسيساً في الحجاز بالمعنى
المتعارف عليه في مناطق المملكة لم يوجد بعد. وبشكل عام
فإن التوجهات الدينية والسياسية التي تصدر من الحجاز يغلب
عليها طابع الإعتدال، ويميل الحجازيون الى المؤسسة الدينية
في مصر والى رموز دينية مصرية وسورية وغيرها، حيث يرون
في هذه المؤسسات والشخصيات أنها أقرب الى تمثيلها دينياً
من المؤسسة الدينية الرسمية الوهابية. وفي المجال السياسي
تجد أن حركات او دعوات الإصلاح القائمة على اسس دينية
في الحجاز أكثر اعتدالاً من مثيلتها في نجد، ومثال ذلك
العريضة التي غلب عليها الطابع النخبوي الحجازي في عام
1991، في حين ـ بالمقارنة ـ تجد عرائض النجديين الدينيين
حادة عنيفة جذرية إقصائية، ومثال ذلك مذكرة النصيحة.
بيد أن الهدوء الذي شهده الحجازيون طيلة العقود الماضية،
والذي يرجع في جزء كبير منه الى القمع المركز على الهوية
وعلى العقاب الإقتصادي والقمع الجسدي، بدأ بالتغير منذ
التسعينيات حين ظهر ان دعوات الإصلاح السياسي لم تثمر
إلا مزيداً من التشدد الوهابي، ومزيداً من الصلاحيات من
العائلة المالكة لحليفها الديني الذي حول البلاد الى مزرعة
للتطرف والعنف. ولهذا بدأ عدد من شخصيات الحجاز منذ نحو
عقد ونصف باتجاه حل راديكالي هو الإنفكاك عن الدولة السعودية
والإنسلاخ عنها، في محاولة لاستجماع الذات المنكسرة والمتشظية،
وفي محاولة لوقف التمييز المناطقي والديني والذي تعزز
في عهد الملك فهد بشكل فاق كل التصورات. يبدو أن النخبة
الحجازية تميل اليوم الى البحث عن الدولة (الحجازية) الضائعة
انقاذاً للذات وللهوية.. فالتجربة التاريخية مع نظام الحكم
ـ كما يقول بعضهم ـ لم تغير من مسلكه، وأن الدولة منذ
تأسيسها تسير باتجاه الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه، وبالتالي
فالحلول الوحيدة المتاحة اليوم هو إنهاء الهيمنة النجدية
السياسية والدينية الى الأبد.
في الجيش والقوات المسلحة: أشرنا الى وجود قوات نظامية
حجازية قبل سقوط الدولة الحجازية، وكان لدى الجيش الحجازي
من الأسلحة ما لم يكن موجوداً لدى القوات النجدية، من
قبيل الطائرات التي لم تمنع حكم الأشراف من السقوط. فجيش
الحضر ـ غير العقائدي ـ لم يكن ليستطيع الصمود أمام ضغط
الجيش العقائدي القبلي الإخواني النجدي.
لقد تأسس الجيش السعودي النظامي على بقايا جيش الحجاز،
حيث اصبح بعض ضباط الجيش الحجازي قيادات في الجيش السعودي
الذي لم يكتسب أي أهمية إلا بعد فناء الجيش الإخواني في
بداية عام 1930. غير أن آل سعود لم يكونوا ليضعوا ثقتهم
كاملة ي الجيش النظامي، فأسسوا على بقايا تنظيم الإخوان
فرقاً قبلية تدين بالولاء للنظام، هي في الواقع قوى موازية
للجيش النظامي الذي اسسه الحضر، والذي تولى فوزي القاوقجي
تدريبه وأصبح أول رئيس لأركانه قبل ان يطرده السعوديون
بسبب تدخلاته الداعمة لانتفاضة فلسطين الكبرى عام 1936م.
خلاصة الجيش الإخواني النجدي هو ما يعرف اليوم باسم
الحرس الوطني، والذي تشكل القوى القبلية عموده الفقري،
وهذا الحرس يمثل أحد الوجوه نجد دون الحجاز، اذ لا ينخرط
الحجازيون الحضر في الحرس أساساً، وإن ما يقال من خلاف
بين الحرس الوطني والجيش النظامي، (كان) يمثل في أحد وجوهه
خلافاً بين نجد والحجاز، اضافة الى كونه خلافاً بين أجنحة
الحكم.
بيد أنه جرى خلال العقود الثلاثة الأخيرة (تنجيد) الجيش،
ولم يعد الحجازيون اليوم يمثلون فيه أية سلطة تذكر، فبعد
أن كانت قيادة الجيش حجازية مع قاعدة حضرية، أصبح اليوم
قادته كلهم تقريباً نجديون، فيما أصبحت القاعدة فيه قبلية
جنوبية في أكثرها. كان اول رئيس أركان حجازي هو الشريف
محسن الحارثي، ثم توالى بعده ستة رؤساء أركان نجديون،
ويبدو أن وراء ذلك قراراً سياسياً، خاصة بعد الأحداث المريرة
التي فجرها الخلاف النجدي الحجازي في الجيش أواخر الستينات
والذي أدى الى اعتقال رئيس القوات الجوية الحجازي هاشم
الهاشم.
وفيما مضى كان من المعتاد ان يكون قائد قوات الأمن
العام حجازياً، وكان الحجازيون ممثلين في قيادة الأركان
وقيادة الفروع. ولكن الإنعطافة الأكثر خطورة جاءت في عام
1980، اي بعد أحداث الحرم المكي الشريف واحتلال جهيمان
له، حيث أطاح الملك فهد بالقادة العسكريين الحجازيين مثل
الفريق اسعد الزهير، قائد القوات الجوية، والذي أقيل وأحيل
الى التقاعد، وأنهيت خدمة الفريق علي ماجد القباني، قائد
القوات البرية، وأحيل هو الآخر على التقاعد، كما أقيل
الفريق فايز العوفي مدير الأمن العام وأحيل أيضاً على
التقاعد.
في الوقت الحالي يمسك النجديون بكامل المؤسسة السياسية
والدينية والعسكرية والأمنية، ولا يوجد تمثيل يذكر للحجازيين،
في حين احتل بعض الجنوبيين مواقع الأدوات كجنود صغار يأتمرون
بإمرة السيد النجدي.
صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك!
حين روجت الأجهزة الإعلامية السعودية بعيد الغزو العراقي
للكويت قصة المؤامرة التي قيل أن صدام حسين يسعى اليها
بالإتفاق مع الأردن واليمن لتقسيم المملكة، بحيث تقوم
دولة الحجاز في الغرب تضم اليها الأردن، ودولة هجر في
الشرق، ودولة ثالثة في الجنوب.. حينها قيل أن ذلك كان
مجرد هاجس ينتاب الأمراء السعوديين، لأن موضوع التقسيم
هو أهم هاجس يشغل بالهم تاريخيا، ولم يتخلصوا منه حتى
اليوم.
وقيل ان ترويج ذلك لم يكن سوى ذريعة لتبرير استدعاء
القوات الأميركية للدفاع عن المملكة ونظام الحكم فيها،
خاصة بين القاعدة النجدية. علق على ذلك الموضوع السفير
الأميركي الأسبق لدى المملكة جيمس ايكنز، وهو بالمناسبة
صديق للسعوديين، بأن المسؤولين في المملكة يبالغون في
تصوير حجم مؤامرة التقسيم واعتبرها خيالية، وتحدث بصورة
مزعجة عن مواضيع أخرى الأمر الذي دفع بمجلة اليمامة الى
مهاجمته تحت عنوان: حتى أنت يا إيكنز؟!
وفي الحقيقة فإن موضوع تقسيم المملكة والحديث حوله
بات من الأمور التي تطرح بصورة علنية داخل المملكة وخارجها
قبل الغزو العراقي للكويت وبالطبع قبل أحداث سبتمبر. هناك
من يربط مواضيع الإنفصال بجهات أجنبية. وهناك من يتحدث
فعلاً عن سايكس بيكو جديدة هدفها تمزيق الوطن العربي والإسلامي
الى دويلات هزيلة أكثر وأكثر. يأتي هذا في وقت يبدو فيه
الإنفصال لأسباب عرقية أو دينية كداء للعصر، خاصة بعد
سقوط الإتحاد السوفياتي، ولا يبدو أن بلداً من البلدان
سيسلم بالكامل منه ومن مخاطره حتى الدول الكبرى المتهمة
نفسها بتقسيم غيرها.
بيد أن المملكة لها وضعها الخاص، جرياً على الخصوصية
السعودية!، ذلك ان موضوع الإنفصال كان من المواضيع التي
برزت منذ اليوم الأول لتشكيل المملكة الحديثة، ولكنه لم
يكن يتداول بصورته العلنية في مرحلة عنفوان وقوة النظام
السعودي المنتصر، بل جاء الحديث عن الموضوع بصورته العلنية
في وقت متأخر، بعد أن ثبت فشل الدولة في صناعة هوية وطنية
وفي صهر المواطنين على أساس المواطنة.. وبعد أن تضخمت
المشاكل الداخلية الى حد ينذر بتدمير الدولة السعودية
الثالثة. يمكن القول بثقة ان الغرب ـ والولايات المتحدة
بشكل خاص ـ لا يريان من مصلحتهما في الوقت الحالي تفكيك
الدولة السعودية التي لا يزيد عمرها عن عمر الإتحاد السوفياتي
كثيراً.
هناك مفارقة تجلب الإهتمام، وهي أن اتفاقية سايكس بيكو
بقدر ما مزقت البلدان العربية، فإنها أفسحت المجال لقيام
مملكة سعودية تمتد من البحر الى البحر.. ولولا سايكس بيكو
لم تلقَ مملكة الأشراف الهاشمية حتفها في الحجاز وهي رائدة
الدعوة لقيام وحدة عربية، ولولا استثمار الملك عبد العزيز
الصراع العثماني مع القوى الغربية الطامعة وارتباط مشروعه
السياسي بالمشروع الغربي، ما تيسر له احتلال الأحساء والقطيف..
ولما سقطت حائل وافنيت زعامتها الرشيدية، بل ولما سمح
للملك عبد العزيز بإنهاء دولة الأدارسة في الجنوب.
يجب ان نعترف بأن موضوع الإنفصال والتقسيم يتم التعبير
عنه بقوة هذه الأيام، ولذا لا بدّ من تحذير العائلة المالكة
والمجتمع السعودي بأسره الى نتائج السياسات الماضية وعقدة
الوهابية التي تكاد تأتي على الدولة من قواعدها. هناك
من يتحدث بشكل صريح في المجالس بأن لا حل لمعضلة النظام
السياسي السعودي إلا بالإستئصال والإنفصال. هناك من يقول
بضرورة قيام دولة الحجاز ودولة هجر ودولة نجد ودولة عسير،
بعد ان عجز المواطنون على العيش والتعايش معاً واحترام
بعضهم البعض، وبعد أن عمدت سلطة آل سعود الى المزيد من
تفتيت المجتمع ونسف ما تبقى من جسور ود بين المواطنين.
قد لا يتحقق قيام هذه الدول قريباً، لكن العوامل المغذية
والدافعة لها والأفكار التي تقف وراءها لا تموت بسهولة.
لقد كان الحديث عن تمزق الإتحاد السوفياتي ضرباً من الجنون،
وكان الحديث عن وحدة يوغسلافيا وتيتو على قيد الحياة مسألة
خيالية، وكانت تدخل ضمن (اللعبة الإعلامية الإمبريالية)!
وجاء اليوم الذي تهلل فيه الحكومة السعودية لتمزق دول
المعسكر الاشتراكي دون أن تلتفت الى العبرة من ذلك. نسي
الحكام السعوديون ان دولتهم الحديثة قائمة على كيانات
متباينة في كل شيء تقريباً، ولا يوجد بينها رابط سوى العصا
الغليظة، التي لم تستطع لحد الآن أن تصهرها بل اجج استخدام
العصا بشكل مفرط التمايز بينها وولد حاجات ماسة الى التميّز
والتركيز على الخصوصيات المحلية. نسي الأمراء السعوديون
أن هناك من يتحدث اليوم فعلاً وبصوت مسموع بأن صربيا السعودية
هي نجد، وأن كرواتيا السعودية هي الحجاز، وأن البوسنة
والهرسك السعوديتان هما الأحساء والقطيف.
هناك يأس من إصلاح النظام السياسي السعودي القائم،
وحقد ضد سياسة التمييز الطائفي والمناطقي والقبلي والتي
تشير الى أن المسؤولين وكأنهم يريدون فعلاً تمزيق المجتمع
كيما يحتفظوا بوحدة السلطة. اما الشعب السعودي وإن بدا
للوهلة الأولى وكأنه شديد الحساسية ضد التقسيم، فإن بذوره
قد ترعرعت كثيراً واستطالت، وقد لا يطول المقام فنرى نتاج
السياسة الخرقاء. فكل شيء يستثمر اليوم لتأكيد الهوية
المحلية، لدرجة أن مثقفاً حجازياً بارزاً اعتبر اقصاء
الحجازيين من المراكز العليا في الجيش حسنة ستفيد في تعزيز
شعور الحجازيين بالتميز والإلتصاق بهويتهم الخاصة، كما
حدث في مناطق أخرى. والحجازيون ـ كنخبة ـ يتحدثون اليوم
بكل صراحة، عن النعيم الإقتصادي الذي سيجنونه إذا ما تخلصوا
من أعباء الوهابية وآل سعود واستقلوا بالقرار في الحجاز،
بل أن بعضهم يتحدث عن وجود النفط فضلاً عن المعادن الأخرى
التي ستكون من أهم موارد الدولة القادمة، فضلاً عن الحديث
عن حدود الدولة ومساحتها وعلاقتها بدول الجوار، ومدة البناء
الداخلي لمؤسساتها.
إن تصاعد ميول المناطق للإنفصال لم يعد سراً، ولا يتداول
بخجل، ولا ينقص من يدعو لذلك المبررات فهي ـ أي المناطق
ـ محرومة مهمّشة وليست شريكة في مغنم، ولا تلقَ الإحترام
القائم على العدل ولم تواجه إلا بطمس الهوية ومنع التعبير
عنها. فهل اصبحت الدعوة الى التقسيم مشروعة للرد على ممارسات
الوهابية وآل سعود؟ وهل هذا هو الرد على سياسة (تنجيد)
المملكة ثقافة وسياسة ومذهباً وعسكراً واقتصاداً؟ وهل
الدعوة الإنفصالية تعبير عن فشل الإصلاح السياسي، ام هي
صدى لدعوات غربية او اقتناص لفرصها؟
بالأمس كان هناك مجرد مشاعر يائسة محدودة تحلم بالإنفصال،
وعودة كل منطقة الى وضعها السابق قبل الإحتلال السعودي،
أما اليوم فهناك مشاعر وعمل لتحقيق ذلك الحلم، نراه ونحسّ
به على الأرض. إن بقاء الدولة مرهون بتفاهم الأطراف التي
تشكل بنيانها، وبوجود مصلحة استراتيجية جامعة تحميها وتدفع
بأطرافها الى الحرص على بقائها. ولذا فإن البعض يطرح اليوم
الرأي القائل بأن من العبث العمل على ترقيع وحدة تحكمها
أقلية نجدية، وتنتفع بها أقلية، وتفرض فيها أفكار وسياسات
أقلية.. وهنا حتى لو تشبثت تلك الأقلية المنتفعة بالوحدة
فإن أحداً لا يمكن أن يقبل بها إلا قسراً.
لقد دفع الشعب ثمناً باهظاً من دماء أبنائه كرها وقسراً
(المنتصرون والضحايا) ليقوم للسعوديين ملك عظيم، وقد رافق
تحقيق ما تصبو اليه العائلة المالكة قيام وحدة تميزت بالقسر
والجبر.. فهل يراد للشعب أن يدفع المزيد من الدماء حتى
تعود الدول القديمة الى وضعها السابق؟ إن الحكم السعودي
القائم بصورته التسلطية الحالية لا بد أن يؤول الى زوال
أو الى إصلاح جذري.. ولكن الأمراء لم يفعلوا أكثر من طمس
الهويات وعدم السماح لها بالتعبير عن نفسها علنا، وأبقوا
كل سياساتهم التقسيمية والطائفية والحادّة قائمة مستمرة
الى هذا اليوم. العائلة المالكة تدرك حراجة الوضع، ومشكلتها
ان إدراكها لم يرتب عليها في يوم من الأيام أية مسؤوليات
تجاه الحفاظ على الوحدة الوطنية.. فلا تغيير في السياسات
ولا في الأهداف. انها تعتقد بأن كل شيء ملكها وسيبقى في
يدها وفي يد حلفائها الوهابيين والنجديين، في حين ان هذا
المُلك السعودي بدأ بالهزال والتآكل من الداخل ومن القواعد.
عوامل الوحدة ومصادر الإنشقاق
كانت القوة أهم عامل للوحدة، ومن الصحيح القول ان الوحدة
لم تكن مطلوبة بذاتها، ولم تكن واردة في ذهن الحكام السعودي
المؤسس، بل كان همه الأول توسيع رقعة الأرض التي يحكمها،
وكانت القوة ضرورية لإخضاع السكان للحكم الجديد. وحتى
التوسع في استخدامها تجد من يبرره، بأن تأسيس الدول والكيانات
الكبرى في التاريخ يحتاج الى عمليات جراحية قاسية، كما
فعل بسمارك حين وحد ألمانيا، وكما فعل القياصرة والبلاشفة
حين اسسوا الإمبراطورية الروسية، وكما فعل البيض حين أفنوا
الجنس الأحمر وخاضوا حروباً مع أنفسهم لتظهر على الخريطة
دولة عملاقة هي الولايات المتحدة الأميركية.. الخ.
ورغم أن هذا الكلام غير مقنع كثيراً، لسبب بسيط هو
أن القوة لاتزال الى اليوم شرطاً أساسياً لإبقاء الكيان
السياسي السعودي حياً. إلا أنه يمكن القول بأن مرحلة التأسيس
لها ظروفها الخاصة بها، وسنجد الكثير من عمليات القمع
والذبح الجماعي التي لا تبرير لها أبداً، حتى من المنظار
التوحيدي، لو افترضنا ان الملك عبد العزيز كان يسعى لتوحيد
السكان ليس في جغرافيا واحدة، بل تحت ظل نظام سياسي واحد
أيضاً.
لعب المال في مرحلة لاحقة دوراً اساسياً في توحيد المصالح
أو تقريبها بين السكان، وحين جاء النفط تطور المستوى المعيشي،
ووجد السكان أنفسهم يتحركون من مكان الى آخر للعمل والتجارة
وغير ذلك، فازدادت بشكل محدود الرابطة الإجتماعية واصبح
من السهل على الكثيرين الفكاك من أسر المدينة التي يقطنونها
أو المنطقة التي يعيشون فيها أو القبيلة التي ينتمون اليها.
وفي الوقت الحالي يشعر الكثيرون ان نعمة النفط هي التي
تجعل مشاعر كثيرين ملتصقة بالوحدة الوطنية، ولكن تلك النعمة
تحمل مصدر انشقاق للسبب ذاته، حيث أن النفط أكد الفواصل
وزاد من التحاسد بين المناطق وبسبب عملية التنمية غير
المتوازنة ظهرت أبشع السياسات التمييزية، وصار منتجو الثروة
النفطية يرددون بأنهم يعيشون على بحيرات النفط بينما خيراتها
تذهب الى وسط المملكة حلفاء النظام وأدواته.
بانتهاء مرحلة تأسيس الدولة، كان يفترض ان يتقلص حجم
القوة بعد توحيد الأرض، لتنحصر مهمتها في نطاق ضيق. وكان
يفترض أن يتم تقريب النفوس وتوحيد المصالح، لكن مهمة القوة
عند الحكم السعودي لم تختلف عما مضى، حيث لم يكتف بما
حققته القوة في الماضي، بل اراد لها ان تحقق الإندماج
الثقافي والمذهبي قسرياً، وجرى تغليب الولاء المذهبي على
الولاء الوطني، وانتهج آل سعود سياسة تفضيل في المواطنة
وبين أتباع منطقة او قبيلة او مذهب دون الآخر، كما وضعت
الحواجز المناطقية والمذهبية امام توحد المصالح والنفوس.
لقد تصور الحكم السعودي ان افضل طريقة واسرع وسيلة
لبلوغ وحدة السكان هو تحويلهم جميعاً الى مذهب الوهابية
المنتصر على شلالات الدم، فكان من الطبيعي ان تشيع مشاعر
الإنفصال ليس بفعل الإختلاف المذهبي او المناطقي خاصة
بل بسبب السياسات الحكومية القائمة عليهما، ذلك ان تفضيل
مذهب معين ومنطقة نجد جر السلطات الى هدر حقوق مواطنين
كثيرين والى حرمانهم وتجاهلهم، فتولدت الحساسيات بين المناطق
وتصاعدت في وقت كانت فيه المملكة في عزّ غناها وثرائها.
القوة لا تلغي المشاعر الانفصالية، والوهابية لم ولن
تكون أداة جاذبة للسكان غير السلفيين، وإن قسر الآخر عليها
يزيد من حدة الإنتماء المذهبي والمناطقي. وبهذا نمت مشاعر
الإنشقاق وتطورت الى أن اصبحت غالبية السكان خارج نجد
تشعر وكأنها لا تستطيع العيش تحت الهيمنة الوهابية النجدية،
ولا تستطيع الإستمرار في قبول وحدة تجعلهم مواطنين دونيين
أشبه بأدوات في يد السلطة المركزية.
واذا ما سقط خيار القوة، وهو كما نلحظ خلال السنوات
الأخيرة يميل الى ذلك، وإذا ما توفرت الأجواء النفسية
وتراجع دور النفط في توفير العيش الكريم رغم وفرة الإيرادات،
واذا ما تحققت الظروف الدولية فإن وحدة المملكة ستكون
في خبر كان. ومع ان الوقت متأخر جداً لحل المشكل الإنفصالي
في المملكة، فإن الإصلاح قد يكون المعبر الوحيد اليه،
شرط أن يكون سريعاً جذرياً تخفض فيه سلطات المركز النجدي
السياسية والدينية والعسكرية، بحيث يعاد توزيع السلطة
والثروة، وعلى أن يشاع جو ايجابي يقبل بالتعددية الفكرية
ويمنع تغول الوهابية واستفرادها بقرار البلاد الديني.
هذا هو الحل وهو حل صعب، وان كان غير مستحيل.
لكن خيار العائلة المالكة وحلفائها الوهابيين لازال
على حاله.. الإستمرار الى النهاية، اي الى نهاية الدولة
وتوفير شروط ومبررات تقسيمها.
ومع ان هذا يبدو في عرفهم مستحيلاً، لكنهم لن يصحوا
إلا متأخرين، شأنهم شأن كل الديكتاتوريات التي سادت ثم
بادت.
|