مقاربات لموضوع العنف في المملكة
مربط الفرس: أيديولوجيا العنف الوهابي
هل هناك في المملكة العربية السعودية حدّ فاصل بين
العنف السياسي والجريمة؟ ومن يضع الحدّ؟ وما هي معالمه؟
وهل الوهابية مصدر العنف، ولماذا لم تستطع الدولة محاصرته
ولماذا فشل التحديث في ذلك أيضاً.
يصوّر الإعلام الرسمي جماعات العنف بالمملكة بأنها
تضم أفراداً مختلّي الشعور والذهن، وأن اتباعها لا يمتلكون
أهداف سياسية، ولا يقصدون من أعمالهم سوى الإيذاء، إيذاء
الآخر المحلي والأجنبي. وحين يتحدث الإعلام الرسمي عن
الحلّ، ويأتي بخبراء السلطة في مكافحته، فإنهم يتحدثون
عن مكافحة (الجريمة) ويضعون حلولاً للجريمة نفسها. ولذا
تجد أن أغلب مقترحاتهم لا علاقة لها (كثيراً) بجذر المشكلة،
ولا يربطونها بمشاكل متعلقة بأداء السلطة والنظام السياسي
وغيره.
فترى مثلاً التركيز الشديد على موضوع (التربية المنزلية)
موحين بأن من يقوم بأعمال العنف لم يحظوا بتربية صالحة
رشيدة، ومقابل هذا يطالبون الآباء بأن يبلغوا السلطات
عن أبنائهم بمجرد أن يروا بوادر الجرم تلوح من ألسنتهم!
وهم إذ يستفيضون في هذا الأمر كحلّ لمعضلة العنف القائم،
يتناسون أن (العيال كبرت) وأن الأبناء بالغين راشدين يتحملون
بحكم الدين والقانون مسؤولية أعمالهم، ولا يمكن للآباء
السيطرة عليهم، ولا على تغيير قناعاتهم. وهم في كثير منهم
مستقلون مادياً، ومتزوجون ولهم أولاد، فكيف يكون للآباء
دور منتظر لإبلاغ سلطات الأمن، والعمل كمخبرين على أبنائهم؟!
وينزع خبراء الجريمة في المملكة من العاملين في جهاز
وزارة الداخلية الى تطبيق علم النفس الفردي في مكافحة
الجريمة على كامل المجتمع، واستخدام مقاييس خاطئة في مكافحتها،
كالقول بأن حجم البيوت ونوعية الطعام وطبيعة التربية المنزلية
والحالة الإقتصادية لرب المنزل والمساحة الخضراء في القرى
والمدن تلعب دوراً في صناعة الجريمة والعنف القائم حالياً.
لا يفرق المسؤولون السياسيون والأمنيون في المملكة
بين الجريمة والعنف السياسي. في الأولى يتم التعاطي مع
الفرد ومناقشة الظروف التي تدفعه للجريمة، فطبيعتها فردية،
قائمة على استعداد الفرد وقابليته للإجرام، وحتى هذه الجريمة
لها علاقة وثقى بالوضع الإقتصادي العام، وحجم الحريات
المدنية المتوفر للأفراد. وقد تصاعدت الجريمة في المملكة
من سرقات واعتداء على الأعراض والقتل وزيادة نسبة الجرائم
المسلحة والإختطاف وغيرها.. مرة بسبب اختلال منظومة القيم
المرافقة لعملية التحديث التي مرت بها المملكة، ومرة أخرى
ـ كما هو الحال اليوم ـ بسبب غياب العدالة الإجتماعية،
وتدهور الاوضاع المعيشية.
هنا يأتي علم النفس فيبحث جانباً من المشكلة فيمن يقوم
بتلك الأعمال، والظروف العامة والخاصة ـ وقد تكون أكثر
أثراً ـ في صناعة الشخصية العدوانية والإجرامية.
لكن هكذا مقاربة لا يصلح استخدامها في بحث (ظاهرة)
العنف السياسي التي يكتوي بنارها المجتمع السعودي اليوم.
والسبب أن هناك عوامل أساسية لا يريد الباحثون الأمنيون
التطرق اليها، وهي على صلة بالوضع السياسي والثقافي، والإجتماعي
لكل المواطنين وليس للفرد الذي يتبنى العنف، تكمن وراءها
مسببات العنف السياسي. فالأيديولوجيا هي عامل مهم للتمييز
بين العنف السياسي والجريمة، فالأيديولوجيا الدينية أو
السياسية تعطي هدفاً للعنف أوسع من هدف الجريمة الذي هو
فردي، بينما هدف العنف السياسي تغيير أشمل، والجريمة من
جهة لا تجد لها من يشرعنها حتى القائم بها، بينما العنف
السياسي يقوم على أيديولوجيا تشرعن الفعل على الأقل للقائمين
به ولأتباع تلك الأيديولوجيا، مهما رأينا أن الحجة ضعيفة،
لكنها قوية صلبة لمعتنقيها، كونها تستند الى منظومة قيم
ومبادئ معترف بها لدى المجتمع أو شرائح منه.
ثم إن العنف السياسي يمتد على مساحة أوسع من الجريمة
من حيث الفعل والأهداف، والقائمين عليه. وإذا كان بالإمكان
دراسة شخصية المجرم، وفق الحسابات العلمية، فإن دراسة
الظاهرة العنفية السياسية في المملكة لا تتقبل ولا تتحمّل
كثيراً هذا النوع من المقاربة. فمن يقوم بالعنف السياسي
أشخاص أسوياء، لم تبدُ منهم عدوانية على المجتمع، ومنطلقهم
هو (حماية المجتمع) مما يرونه من أخطار، وتمنحهم الأيديولوجيا
أهدافاً سامية، وتدفعهم لتقديم تضحيات أعلى مما تقوم به
حوافز الجريمة، وهي على كل حال حوافز مادية، فيما يقدم
العنف حوافز معنوية (جنان الخلد وحور العين).
إن دوافع الجريمة فردية في الغالب، بينما دوافع العنف
السياسي جمعية. لقد وجدنا الكثير ممن مارسوا العنف السياسي
من تفجيرات وغيرها، إنما جاؤوا من عائلات ميسورة الحال،
أي هم من أبناء الطبقة الوسطى، لم يسبق لهم أن دخلوا مخفر
شرطة، ولم يُشهد لهم بعدوانية على الغير، وعهد عنهم التواضع
ولزوم المسجد ومساعدة الغير، فلماذا قاموا بالعنف؟
يجيب الخطاب الرسمي بأن هناك أفراد (ضحكوا) على الشباب
وخدعوهم في غفلة من آبائهم ومن المجتمع، وقاموا بغسيل
أدمغة لهم، وحشوها بالخزعبلات والأفكار الباطلة. قالوا
لهم أنتم أهل التوحيد، أنتم أهل الجهاد، أنتم المدافعون
عن الإسلام وأرض الإسلام، أنتم الغرباء فطوبى لكم، وأنتم
من سيصنع النصر، ويغير الكون وغير ذلك. وهذا اعتراف خجول
بأن هناك أيديولوجيا ما، وأهدافاً سياسية ما وراء العنف.
وهي بلا شك الأيديولوجيا الوهابية، التي يتجنب الجميع
الإشارة إليها.
(الإيديولوجيا) الوهابية كما أي أيديولوجيا دينية أو
سياسية تستطيع أن تصنع أو تعيد صناعة الأفراد عبر برامج
تثقيفية عالية التوتر والشدّة. وتمنح افرادها طموحاً أعلى
من المكاسب الذاتية الشخصية المادية التي توفرها عناصر
الجريمة، كما تمنحهم القدرة على التضحية أكثر مما تمنحهم
الجريمة. وهذا ما صنعته الأيديولوجيا في المملكة وقبلها
في أماكن أخرى من العالم.
هناك من يرى أن الأيديولوجيا مجرد تأطير لنزعات غير
سويّة لدى الأفراد. فمن يقوم بالعنف السياسي اليوم إنما
هو مجرم في الأصل أو له استعداد للإجرام، وجاءت الأيديولوجيا
الوهابية فغيرت اتجاه الجريمة، وحددت له نوعية مختلفة
من الأهداف، وشحنته فصار أكثر شراسة ودموية. ويرى هؤلاء
بأن تاريخ الوهابية القديم والحديث حوى هذه النماذج الإجرامية.
فهي جاءت مثلاً الى القبائل التي يغزو بعضها وينهب بعضها
بعضاً، فأطرتهم دينياً، فأصبحوا هم أنفسهم مجاهدين مع
فارق أن غزوهم أصبح (جهاداً) وان نهبهم صار (غنيمة) يعطون
الإمام عبد العزيز آل سعود خمسها. ذات الأمر ينطبق ـ كما
يقولون ـ على أولئك الذين كانوا بالأمس رواداً لبانكوك
ومواخير العواصم الغربية فجاءت الوهابية فأطرتهم دينياً
وقذفتهم باتجاه أفغانستان ليصبحوا بين ليلة وضحاها مجاهدين،
مثل ابن لادن نفسه.
هذا الرأي وإن كان لا يخلو من بعض الوجوه الصحيحة،
إلا أن النتيجة التي يصل اليها خاطئة.
فالأيديولوجيا القوية هي التي تستطيع أن تصهر الأفراد
وفي أوقات قياسية، إما عبر القناعات، أو عبر الحشد وصناعة
الجو الذي يلي أعناق الأفراد ويجذبهم الى حيث قدر الصهر.
والوهابية استطاعت ان تعيد صياغة الأفراد، ورجال القبائل
الأوائل، وخلقت منهم محاربين أشداء. لم يكن غزوهم قبل
أدلجتهم يفضي الى نهب كبير او الى قتل كثير، وكان ضمن
أطر (الأعراف) القبلية المحددة الملتزم بها. ولكن حين
تمت الأدلجة عبر (الإخوانية) رأينا مقاتلين عقائديين من
صنف مختلف لا يبالون إن وقعوا على الموت أم وقع عليهم،
شعارهم: هبت هبوب الجنة وينك ياباغيها. لا يستسلمون ولا
يتراجعون وقت الزحف، ويمارسون أبشع أنواع القتل والجرائم
بإسم الجهاد ومحاربة المشركين. ولعل فيما فعلوه في الطائف
وتربة نموذجان لما قاموا به. وفي العصر الحالي، فإن ما
فعلوه في العراق وفي نيويورك وفي المحيا وغرناطة والخبر
وغيرها، شواهد على هذا النوع من العناصر المؤدلجة. ولهذا
لا يمكن القول بأن العناصر التي كانت لها قابلية للجريمة
هي نفسها تلك التي تأدلجت، بالرغم من أنها تمثل شريحة
من القائمين على العنف وليس كلهم.
جيش الإخوان وثورة على المخادعين
|
تستطيع الأيديولوجيا تأطير من لهم قابليات للشر، فتزيد
من عنفوانهم وتلهب مشاعرهم، وتقذف بهم في أتون العنف السياسي.
ولكن يبقى الحكم على المنتج النهائي، هل هو جريمة أم عنف
سياسي؟ بغض النظر عن هوية من قام بالفعل وتاريخه، وإنما
بالحكم عليه وقت قيامه بالعمل، إضافة الى ملاحظة طبيعة
الهدف المعلن، هل هو جريمة أم عنفاً سياسياً.
هناك من يصور ما قامت به الجماعات المسلحة في المملكة
على أنها جرائم تقترف بدم بارد، يروح ضحيتها أفراد أبرياء،
أو مستأمنون أجانب، بلا أهداف سياسية، ولا حسّ بإنسانية.
ولكن هؤلاء يتناسون أمام ذهولهم وهم يقفون امام حجم الدمار
المادي وخسائر الأرواح الكثيرة، أن الأيديولوجيا الوهابية
تمتلك المبررات الكافية للقيام بهذه الأعمال، وتحويلها
الى انتصارات، وتبرير الخسائر التي تقع بين المدنيين.
هذا ما تصنعه الأيديولوجيا، وخصوصاً الدينية الوهابية.
فهي في تاريخها القديم والحديث لمن أراد ان يراجع التاريخ،
ارتكبت مئات الفظائع، من قتل النساء والأطفال واستعباد
آخرين، وقطعت النخيل وأحرقت الدور ودمرت كل ما تراه، دون
أن يقول أحدٌ من الأتباع أن تلك الأفعال كانت خطأ او جريمة
طالما كانت تخدم السلطة السياسية. وما يقوم به الأتباع
اليوم، ليس إلا تكرار لتلك الأفعال وتستند الى نفس المبررات
الدينية. كل ما في الأمر أن العنف توجّه الى (التدمير
الذاتي) وقد كان فيما مضى ضد (الآخر) في الخارج او الداخل.
العنف السياسي في المملكة اليوم قائم على أيديولوجيا
الوهابية، وهي ايديولوجيا النظام، وكلاهما يستمد منها
العنف ضد الآخر القائم على أهداف سياسية. وبقدر التزام
الأفراد بالعقيدة الوهابية يكون العنف، فهي المخزون الإستراتيجي
لآل سعود والنظام الذي يحكمونه، وهي رصيد لا ينضب من أيديولوجيا
العداء للنظام. يستطيع أي طرف استخدامها ضد الآخر، لأسباب
سياسية أو طائفية أو غيرها. ومن يريد أن يبحث موضوع العنف
السياسي في المملكة فعليه أن يذهب الى المنبع لا إلى المصبّ،
لكي يتعرف على محتوياتها العنفية ولكي يعرف كيف تعمل آلية
الأيديولوجيا في صياغة السياسة المحلية.
بطبيعة الحال، فإن السلطات السعودية لا تريد أن تعترف
بالجوانب السياسية والإجتماعية التي تغذّي مشكلة العنف
السياسي، ولهذا تحرص على أن تسمي ما يجري بـ (الجريمة)
فتقطعها عن نسقها السياسي الذي يجب أن تحلّ في داخله.
وهي مهتمة أيضاً بتعريف (المجرمين) لا بـ (السياسيين)
كون الأخير يفتح نقاش الموضوع الأمني بخلفياته السياسية،
فيكشف عوار السلطة وأخطائها واستبدادها. ولذلك تراها تميل
الى التهم المعلّبة التي لا تشرح الوضع على حقيقته، كالقول
بانهم فئة ضالة، او انهم خوارج، أو شاذين أو ما أشبه من
عبارات اتهامية لا توصف المشكلة ولا تقدم حلاّ لها بغير
فص.ل الجماعات المتبنية للعنف السياسي وضربها كحل وحيد،
دون أن تتحمل السلطة مسؤولية نشوء تلك الجماعات وبحيث
لا تنزلق في مناقشة أهدافها السياسية.
الموجات الخمس للعنف الوهابي
يجب أن نعترف ابتداءً بأن الأيديولوجيا الوهابية هي
أيديولوجيا عنف وحدّة. وأن تلك الأيديولوجيا لا تعمل بوحدها،
وإن كانت الأساس، وإنما هي كالبذرة تخمد أحياناً وتنشط
أحياناً أخرى وفق الظروف السياسية والإجتماعية. ولقد انتجت
الوهابية خلال المرحلة الثالثة من عمر الدولة السعودية
خمس موجات عنف (اعتبرها السديري رئيس تحرير الرياض أربعة
أجيال عنف) وبعضهم يعتبرها أربع موجات فقط ولا يحتسب الأولى،
باعتبارها موجة عنف مشروع أدى الى قيام الدولة.
الموجة الأولى هي موجة (العنف المشروع) من وجهة نظر
آل سعود والسلطة الدينية الوهابية، وهي الموجة التي بدأت
عام 1914 بتبني الإخوانية وانتهت باحتلال الحجاز. كان
العنف الوهابي حينها يعمل تحت قيادة السلطتين الدينية
والسياسية، الأولى تريد منه نشر المذهب خارج نجد ليشمل
كل العالم، او على الاقل الجزيرة العربية، وتحويل كل القاطنين
الى موحدين على الطريقة الوهابية؛ في حين أرادت السلطة
السياسية من العنف الوهابي بناء امبراطورية سياسية وملكاً
كبيراً لآل سعود. العنف في الموجة الأولى كان موجّهاً
ضد المسلم المحلّي المختلف مذهبياً، باعتباره مشركاً يجوز
قتله ونهب أمواله وطرده من الجزيرة العربية، والأهم من
ذلك يجب اسقاط السلطات السياسية في المناطق والإمارات
المحتلة لصالح السلطة النجدية السياسية لتسيطر على الحكم.
الموجة الثانية للعنف بدأت بتمرد الجيش الإخواني الذي
استخدم في الموجة الاولى لتحقيق الأهداف السياسية لآل
سعود، وقد كان موجّهاً ضد السلطة السياسية الممثلة لآل
سعود، باعتبارها لم تكن تريد الجهاد الوهابي إلا لخدمة
أغراضها الشخصية التي انكشفت بعيد احتلال الحجاز، فثار
جيش الإخوان الوهابي، واصطف مشايخ الوهابية مع آل سعود
رغم أنهم كانوا المعلمين لأفراد الجيش المكون من القبائل
خاصة مطير وعتيبة، وبالرغم من أن الحجج الدينية للإخوان
كانت قويّة ومستمدة مما تعلموه من المشايخ على أساس العقيدة
الوهابية التي تنادي بالجهاد الدائم والخروج بالمذهب الى
خارج الحدود وعدم القبول بالإنكفاء في جزيرة العرب وحدها.
اصطف المشايخ مع عبد العزيز خشية ضياع المنجز (المذهبي)
الذي تحقق بسيادة المذهب الوهابي على معظم أنحاء الجزيرة
العربية على عربة العنف والدم. وقد ساعدت مناطقية المذهب
ومحليته على القبول بما تحقق من إنجاز خشي المشايخ أن
تتم التضحية به على مذبح الجهاد المستمر والثورة الدائمة!
لم يكن خلاف المشايخ مع حوارييهم الإخوان عقدياً او أن
فهمهم كان خطأ بل كان الخلاف حول التطبيق فقط. وهذه هي
المشكلة نفسها تتكرر اليوم، فالمرجعية السلفية ورموزها
مسألة مشتركة وإنما تطبيق الأحكام والآراء على الحكم السعودي
والعائلة المالكة هو ما يختلف بشأنه، وحجة العلماء في
ذلك ضعيفة، كما كانت مع جهيمان وكما هي اليوم.
موجة العنف الثالثة، كانت فيما يبدو نتيجة التحديث،
وهي نتيجة طبيعية فالتحديث يحدث تصادماً بين القيم القديمة
والجديدة، وقد كان سبب العنف هذه المرة والذي وقع عام
1965م هو البث التلفزيوني الذي بدأ من الرياض في ذلك العام،
فما كان من بعض عناصر الوهابية ومعهم الأمير خالد بن مساعد
بن عبد العزيز آل سعود (وأمه بالمناسبة شمرية) إلا أن
تجمعوا واحتجوا وقيل أن مصادمات عنيفة قد حدثت أدت الى
قتل مجموعة والحكم على الأمير بالإعدام، وأعدم فعلاً،
الأمر الذي أدى بدوره الى مقتل الملك فيصل على يد ابن
أخيه فيصل بن مساعد بن عبد العزيز (اخي الضحية خالد).
الموجة الرابعة من العنف كانت حادّة قام بها جهيمان
العتيبي حين تحصّن في الحرم المكي الشريف في محرم 1400هـ،
(نوفمبر 1979) ومعه مئات من المسلحين، وهناك بايع المهدي
(محمد بن عبد الله القحطاني) عند الكعبة، وأعلن إمامته
مقابل إمامة الحكم السعودي، ومنتظراً أن يهجم الجيش السعودي
لتتحقق النبوءة بأن يخسف الله بالجيش الغازي، ويهلك الله
الأعور الدجال، الحاكم السعودي، وأتباعه. فكر جهيمان هو
فكر وهابي أصيل، مع تطوير وتكثيف لفكرة المهدوية. ومن
يقرأ رسائل جهيمان العتبيبي (السبع) يدرك أنه لم يخرج
عن اطار الفكر الوهابي، بل اعتبر نفسه امتداداً لأسلافه
الإخوان الذين قتلهم الملك عبد العزيز، وقد انتقد بشدة
موقف المشايخ آنئذ، مستصحباً الموقف على مشايخ المذهب
المعاصرين المعاضدين للحكومة. ولذلك سمى جماعته (الإخوان)
وألف كراساً سماه (دعوة الإخوان كيف بدأت والى اين تسير)
مقدماً تقييما لتاريخها. والملاحظ ان الأوصاف التي أطلقت
على الإخوان الأوائل هي نفسها التي أطلقت على جماعة جهيمان
وهي نفسها التي تطلق اليوم على جماعات العنف. بل أن طريقة
المعالجة لم تختلف منذ ذلك اليوم الى الآن، وحتى موقف
المشايخ هو نفسه، وقائم على نفس المبررات، والحقيقة انهم
لم يكونوا أمينين مع تراثهم الديني مثل أمانة القائمين
على العنف. لم تعالج الحكومة المشكل الفكري العقدي الذي
يتفجر، وإنما تقوم بمجرد المعالجة الأمنية فتخمد البذرة
بانتظار موجة عنف أخرى.
المفتي الضعيف لا يخدم السلطة ولا المذهب
|
وأخيراً دخلنا موجة العنف الخامسة، وقد غُرست بذورها
في الثمانينيات الميلادية، خاصة بعد قيام الثورة الإيرانية،
وترعرعت في سوح الجهاد في أفغانستان، وبعد غزو الكويت
وتواجد القوى الأجنبية الواضح على الأراضي السعودية ـ
وقد كان موجوداً طيلة العقود الماضية بشكل شبه خفي ـ انفجر
العنف في المملكة على قاعدة ذات الأيديولوجيا الوهابية.
وحصل تيار العنف السياسي الوهابي على شحنات دفع قوية في
بداية التسعينيات حين انخرط مشايخ الدرجة الثانية والثالثة
في معمعة السياسة، وبدأت الآثار تظهر من العائدين من أفغانستان،
في منتصف التسعينيات حيث تفجيرات العليا ثم تفجيرات الخبر،
وصولاً الى تفجيرات 11 سبتمبر ثم تصاعدها بشكل عنيف على
شكل تفجيرات شملت المؤسسات والأحياء السكنية، غير المطاردات
اليومية، حتى صار العنف قوتاً يومياً للمواطن. الذي تغير
هو شكل العنف، وليس أصله ومسبباته، فالوهابية بقيت المغذي
له، وستبقى مغذية للعنف الوهابي الى أن تحل أزمة الفكر
ومراجعته من جديد. وحتى لو قضي على العنف بالقوة هذه المرة،
وهو صعب بل شبه مستحيل نظراً لاختلاف الشكل وتوسع المساحة
المكانية التي يتحرك في اطارها، فإن المذهب قادر على إحياء
البذرة من جديد.
هناك اتفاق بين النخب المثقفة في المملكة أن العنف
ظاهرة متأججة وان سببها ثقافة دينية متطرفة، بعضهم يزعم
أنها مستوردة من تورا بورا، وبعضهم يؤكد على محليّة المنتج،
وبعضهم يقول أن الوهابية ليست السبب، وبعض آخر يقول بأنها
هي السبب، وآخرون يقولون أنهم سلفيون وهابيون ولكن فهمهم
مشوّة للوهابية وللسلفية وهكذا.
إحتكار العنف بين الدولة
والأيديولوجيا الوهابية
هناك من يطرح التساؤل القائل بأنه إذا كانت الوهابية
كأيديولوجيا مصدر العنف والتوتر في المجتمع، فلماذا لم
تخمد بقيام الدولة التي من أولى مهماتها (احتكار العنف)
لذاتها ولاستخداماتها الخاصة؟
هناك أسباب عديدة:
- فالدولة في الأصل لم تصادر العنف من المذهب الوهابي،
بل أشركته ضمن ماكنة عنف الدولة. الوهابيون صاروا بعد
قيام الدولة جزء من ماكنة العنف الفكري والسياسي والعقدي.
عبر الإعلام وعبر المناهج وعبر هيئات الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر. أي أن عنف الدولة احتوى عنف الوهابية وصار
يمارس بصورة قانونية وإن كان القانون باطلاً خطأ والإستراتيجية
فاسدة.
ـ السبب الثاني هو أن الدولة كان يدور بخلدها شكل معين
من العنف، ولم تأخذ في حسبانها الأشكال التي يمكن ان يتخذها،
فتساهلت في العنف الفكري ولم تفككه، ولم تطلب إعادة المراجعة
للمذهب، والمذهب الوهابي أقلّ قابلية للنقد الذاتي، أو
تقبل النقد من الآخر، فلحوم العلماء مسمومة، وهو الشعار
المخيف للآخرين، ولا أحد يتجرأ على مناقشة العلماء إلا
حاقد ضال. لقد قضي على البنية المستقلة للعنف الوهابي،
ولكن في المقابل تم التوسع في البنية الفكرية له، فأصبح
المجتمع السلفي بمجمله يعيش ظاهرة التشدد والعنف ضد الآخر
وضد الذات أيضاً. لا يمكن حل العنف عبر تفكيكه أمنياً
بدون تفكيك بناه الثقافية او اعادة مراجعتها، وهذا لم
يحدث على كثرة التجارب التي مرت بها البلاد. وحتى هذا
اليوم لم تطلب السلطة السياسية اعادة المراجعة في التراث
الوهابي المتشدد وقراءته الموتورة للنص الديني وتطبيقاته
العنيفة على المختلف في الرأي. لهذا بقيت البذرة جاهزة
للإستخدام على الدوام تتفجر كلما زاد الإحتقان في المجتمع،
ولا ينقص سوى المناخ العام الذي هو متوتر أصلاً بفعل خنق
الوهابية للمجتمع وتكاثر الفطريات التي سببها ذلك الإختناق.
- السبب الثالث، هو أن حكومة العائلة المالكة لم تكن
تنظر الى الوهابية كأيديولوجية عنف، رغم أنها تشعر بحرارة
المعتقد كالنار عن بعد، وكانت تتصور بأنهاأداة تستطيع
التحكم بها وتقذف بها ضد أعدائها. أي أن أيديولوجية العنف
الوهابي أُريد لها الإستمرار الى جانب السلطة السياسية
لخدمة أغراض أمنية محلية وخارجية. ولطالما قذف بالوهابية
في وجه العدو الناصري والبعثي والشيوعي والشيعي والصوفي
والإسماعيلي وربما في المستقبل الأميركي إن تطور التهديد
الأميركي للحكم السعودي. أيديولوجية العنف الوهابي استمرت
بقرار من السلطة لمواجهة الأيديولوجيات التي تشعر العائلة
المالكة أنها تهددها، بما فيها ـ كما هو واضح اليوم ـ
تلك الأيديولوجيات التي تدعو للإصلاح السياسي والليبرالية
الفكرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. الأيديولوجية
الوهابية تستطيع ان تقاوم الإصلاح باعتبارها ايديولوجيا
عنف ولكنها محافظة أيضاً. إن جشع السلطات السعودية وتنكرها
للإصلاح وخوفها جعلها ترى عنف الوهابية يخدمها دائماً،
رغم التجارب المريرة، وهي تعتقد ان الخسائر مهما قيل عنها
ستكون ضئيلة أمام المكاسب. ونظن أنها لا تزال تميل الى
هذا الرأي.
ـ السبب الرابع، أن المذهب الوهابي كما مذهب الخوارج
لا يقوم على تراتبية من داخله، ولأنه مذهب يقول ـ نظرياً
على الأقل ـ بالإجتهاد، ولذا فهو يفسح المجال لتعدد الفتاوى
والآراء وتكاثر الرؤوس. وحين جاءت الدولة صنعت تراتبية
خاصة للعلماء عبر (اللجنة الدائمة للإفتاء ـ المفتي ـ
هيئة كبار العلماء ـ المجلس الأعلى للقضاء).. فاحتوت التنافر
نظراً لأن الوجوه الموجودة تمثل كافة الشرائح والتوجهات
السلفية، ولبعضها كاريزما خاصة كالشيخ ابن ابراهيم والشيخ
ابن باز وابن عثيمين. لكن الذي حدث هو أن التراتبية الحكومية
ومنذ الثمانينيات أخذت بالتصدّع نظراً لانشقاق المجتمع
الديني النجدي (الوهابي) بسبب الأحداث الإقليمية والإشكالات
الكثيرة الداخلية التي تواجهها الدولة، خاصة إفرازات حركة
جهيمان، التي وضعت شرعية النظام على المحك. حينها ظهر
أن المؤسسة الدينية غير قادرة إلا بصعوبة في السيطرة على
الشارع الوهابي، وقد اعتمدت الكاريزما وليس الإقناع الديني
في إخماد صوت الكثيرين وإجبارهم على السكوت والخضوع وعدم
الدخول في مواجهة مباشرة مع الحكم السعودي. وحتى قبل وفاة
الشيخين ابن باز وابن عثيمين، ظهر الإنشقاق حول الموقف
من حرب تحرير الكويت ووجود القوات الأجنبية، وحيث اصطفت
المؤسسة الدينية الى جانب السلطة كعادتها، كان رأي الأكثرية
من الناحية النفسية والعقدية غير موافق وإن تجلل بالصمت،
ولهذا ظهرت منذ بداية التسعينات شخصيات الدرجة الثانية
لتفتي في الموضوع السياسي ولتنافس من اعتبروا (وعاظ السلاطين)
الذين زووا بأنفسهم عن الإفتاء في الشأن السياسي وواجهوا
المفتين الجدد بالتنديد والنكير.
بموت الشيخين ابن باز والعثيمين وتولي منصب الإفتاء
شخصية ضعيفة مثل المفتي الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ،
غاب الضابط الإجتماعي، وتفتت الساتر والرادع للخارجين
عن التراتبية الوهابية. لقد تهدمت السلطة الإفتائية ولا
يعتقد أن التراتبية المصنعة حكومياً ستنجح في المستقبل
القريب، وهذا يترك الجمهور الوهابي عرضة للتأثر بالفتاوى
الكثيرة الصادرة من شخصيات تنازع العائلة المالكة شرعيتها
وترى وجوب الخروج عليها. وحتى لو قامت العائلة المالكة
بتصعيد الجيل الثاني (العودة والحوالي والقرني مثلاً)
الى هيئة كبار العلماء، فإن هؤلاء لن ينجحوا في إعادة
الحياة للتراتبية الآخذة بالإنحلال، والتي يشير ضعفها
الى ضعف السلطات السعودية نفسها. وكلما فقدت التراتبية
قيمتها في أعين الجمهور النجدي كلما كثر الخارجون على
النظام وتضعضعت شرعيته في محيطه الديني والإجتماعي.
ومن هنا نجد أن انفلاش طاقم الإفتاء يعزّز النزعة العنفية
في التيار الوهابي، ويجعله كتلاً مختلفة عصيّة على التطويع
لمؤسسة واحدة ورأي واحد. ولهذا السبب لا تستطيع الأيديولوجيا
الوهابية أن تشرعن عمل النظام الآن، كما كانت تفعل في
الماضي، ولا يمكن الإستناد اليها في مواجهة دعاة العنف
السياسي الذين ينهجون ذات النهج الفكري. بمعنى آخر فإن
الحكومة بحاجة الى أيديولوجيا مختلفة تشرعن عملها وتتيح
لها امتصاص مخزون العنف الوهابي. ولأنها لا تريد الإتكاء
على مرجعية أخرى (دينية موسعة/ او ثقافية سياسية وطنية)
إما لأنها تؤسس الى تنازع سياسي على السلطة وتقطع احتكار
العائلة المالكة لها، أو لأن الخروج من الشرنقة الوهابية
قد يكلف الدولة أكثر مما يفيدها ـ حسب بعض الآراء ـ لهذا
سيبقى العنف السلفي الوهابي مستمراً في المديين القريب
والبعيد الى أن تتغير القناعات والى ان يجد النظام نفسه
غير قادر على مواصلة حربه على العنف السياسي بدون إحداث
تغيير جذري في أيديولوجيا الدولة الرسمية (الوهابية).
التحديث والعنف
في وقت يتعالى فيه صوت العنف والتفجير من عاصمة المملكة
ومدنها، يطرح سؤال آخر على علاقة بالعنف وهو: لماذا لم
تنجح عملية التحديث في المجتمع في امتصاص جانب العنف والمنازعة
في الفكر الوهابي؟ فالمعلوم أن الوهابيين ـ النجديين هم
المستفيد الأكبر من عملية التحديث ومن مغانمه، باعتبارهم
الفئة المسيطرة على الدولة واجهزتها من جهة، وباعتبارهم
المقرر الأول لتحصيص الخدمات على المناطق والفئات الإجتماعية.
لقد تأسست الدولة على العنف، والمجتمع النجدي الوهابي
تربى على العنف الذي تضخّه الأيديولوجيا. ومع تمأسس الدولة
ومن ثم ظهور النفط وارتفاع عائداته، كانت مغانم قيام الدولة
والتحديث من حصته على الأكثر. قد يصلح هذا ليكون سبباً
في الخمول الجزئي لتيار العنف الوهابي، وسبباً في تحييد
الأيديولوجيا النسبي في بعض مقاطع التاريخ الحديث للمملكة.
ولكن يمكن المجادلة عن حق، بأن عملية التحديث في المملكة
أججت الحالة العنفية بين أتباع التيار السلفي من جهة،
وأخمدت من جهة أخرى عناصر فيه متمكنة وحظيت بامتيازات
كبيرة. القول بأن التحديث عامل مهم في تخفيف التوتر في
المجتمع السعودي غير صحيح. فأقصى حالات التوتر بلغها المجتمع
أثناء الطفرة النفطية ومتوالياتها أي انكسارها الأخير
والذي توضح كثيراً مع بداية التسعينيات. اصحاب النظرية
القائلة بأن التحديث يخفف من التوتر يعتمدون في ذلك على
أن نتائج التحديث تفضي الى قدر من الرفاه، وتوسع الأفق
من جهة التواصل والإتصالات، وتخفض من حالات التنازع الأيديولوجي،
كما أنها تخفف من حدة الصراع بين الشرائح الإجتماعية،
وأنها تشغل المواطنين بالعيش الرغيد بدل التفكير في التمرد
خشية على ما بيدهم من مكتسبات، كما أن التحديث يأتي بالتعليم،
ويخلق طبقات وسطى متعلمة معتدلة حديثة أقلّ ميلاً الى
الإنتماءات والعقائد التقليدية التي تختزن مفاعيل التعصب
والتنميط.
جهيمان العتيبي: احتلال الحرم
|
لكن الذي حدث في المملكة يعزز وجهة النظر الأخرى المخالفة
تماماً، وهي أن التحديث أخلّ بمنظومة القيم ولم يأت بجديد،
أو لم تُقبل القيم الجديدة. مما سبب في نشوء حالة من الإغتراب
الداخلي، وحفّز على مواجهة القادم الجديد، خاصة وأن التنمية
اخذت مساراً مادياً صرفاً ولم يشمل التحديث الجوانب الثقافية
الراكدة التي بقيت على حالها، كما لم يشمل التحديث الجوانب
السياسية التي تخلق انتماءات جديدة. وكان المسؤولون يفاخرون
بأنهم استقدموا التكنولوجيا ولم يستقدموا الأيديولوجيا،
وهنا مكمن الخلل والعلّة. أي أن مسار التنمية في المملكة
كان غير متوازن. كان تحديثاً بلا حداثة.
لقد جلب التحديث مجموعة من السلوكيات المخالفة للقيم،
فتم تشجيع الوهابية لتأطير الفساد المستشري في المجتمع،
وتمّ إعادة انتاج الوهابية من جديد، عبر الحديث عن الآخرة
وعذاب القبر، ومن ثم تم القفز الى عذاب السياسة ـ كما
يقول الأستاذ عبد العزيز الخضر ـ. والتحديث في المملكة
خلق نخباً طائفية، تعتمد في الوصول الى مناصبها ليس على
كفاءتها بل على انتماءاتها المذهبية والمناطقية، كما وفّر
التحديث أدوات تنشيط الثقافة التقليدية الوهابية والقبلية،
وتعززت انتماءات فرعية ضد الهوية الوطنية التي كان يفترض
أن يأتي التحديث بها.
وقد لوحظ أن الوهابية نشطت في فترة التحديث والتنمية
لمكافحة آثار التحديث السلبية، على أساس الأيديولوجيا
القديمة التي لم تتواءم مع مفرزات التحديث، فحاربت أطياف
المجتمع الحديثة وكفرتهم بتهم العصرانية والحداثة، حتى
أنه لم يبق مثقف إلا واتهم بالردة والكفر وصدرت فتاوى
بالقتل، وبعضهم هددوا كما يجري اليوم عبر رسائل الجوال
القصيرة أو عبر الإيميل والهاتف وغيرها.
وبسبب النزعة الطائفية الشديدة في الفكر الوهابي، فإن
الأقدار ساقت عناصر جديدة شحذت الحرب الطائفية، من بينها
قيام الثورة في ايران على قاعدة دينية مذهبية، واحتلال
الإتحاد السوفياتي لأفغانستان، فاستخدمت الوهابية كل أسلحتها
الدينية والمادية ورجالها المتخرجين من الجامعات لتعيد
صياغة المجتمع النجدي من جديد وتخلق فيه الفكرة الطائفية
الثورية، ولتتحول فيما بعد الى الدولة نفسها والتي كانت
تريدها فقط في الحرب ضد الخارج وليس إعادة المنتج الى
الداخل.
التحديث في المملكة بشكل عام لم يساهم في امتصاص عنف
الوهابية، بل زودها بأسلحة مادية جديدة، وبدعم غير عادي
من قبل الدولة لم تكن تحلم به من قبل، كما أكد لها الحرب
الداخلية على خلفية منتجات التحديث، فخريجو جامعاتها يقاتلون
خريجي الجامعات الأخرى غير الدينية. لقد استخدمت أدوات
التحديث لتقضي على أنوية الحداثة. ويكفي أن ندرك أن المجتمع
السعودي شهد حالة من الجذب الشديد منذ أواخر السبعينيات
الميلادية الى اليوم، فالمعارك لم تتوقف على قواعد مذهبية
وفكرية وسياسية.
لم تهدئ عملية التحديث القيادات الوهابية الشابة، بل
منحتها القوة لتطالب بالمزيد من القوة وباستخدام القوة
المتعاظمة التي نتجت من استيلائها على مؤسسات الدولة في
صراعها مع المختلف، الذي تمثل في أفراد من المجتمع والآن
في الدولة والعائلة المالكة نفسها. أكثر من هذا، فإن التحديث
حلّق بالوهابية الى آفاق أرحب اخترقت حدود الدولة، وكأن
ذلك جاء تعويضاً على توقف الجهاد في العشرينيات الميلادية
والذي أدى الى ثورة الإخوان الأولى. كان المال متوفراً،
وكذلك الرجال، وكانت كل الأمور ميسرة من احتكار المساجد
والمطبوعات والتغطية السياسية الحكومية، فاصبح من الصعب
اليوم إعادة المارد الى قمقمه، بدون جراحات ودماء كثيرة.
|