الصراع داخل المقدس
التجاذب الأيديولوجي بين السلطة والتيار المتشدد
يلزم الاقرار بصورة قاطعة بأن الوهابية تمثل من الناحية
التكوينية أيديولوجية عنف، هكذا تخبر مضامينها وسيرتها
في المناطق التي جرى استعمالها كمبرر للغزو.. فالوهابية
لها تراث من العنف ضد مناطق عديدة في الجزيرة العربية
(ولعل المثال الاكثر دموية هو تربة بالطائف).
في مقابلته مع قناة الجزيرة القطرية في الخامس من نوفمبر
الماضي، حمّل مدير موقع الوسطية على شبكة الانترنت الشيخ
محسن العواجي الفكر الوهابي المتشدد مسؤولية انتشار العنف
في السعودية، وقال بأن (هؤلاء الشباب (= الاعضاء في التيار
الديني العنفي) الذين ـ في نهاية الأمر ـ تبنوا العنف
ينطلقون من أفكار هي أصلاً موجودة في الفكر الوهابي).
إن ما يسترعي الانتباه أيضاً أن الدولة نجحت في توجيه
الوهابية كأيديولوجية مشرعنة الوجهة التي تخدم سياساتها
العامة، ولذلك أمكن القول بأن العنف داخل هذه الايديولوجية
يصبح كامناً حينما تريد الدولة ذلك.. فقد تستوعب الدولة
أو تخفف منسوب العنف في الايديولوجية الدينية حين تكون
هناك ضرورة لفعل شيء من هذا القبيل، دون أن تغيّر في بنية
الايديولوجية شيئا، كإبقاء الأسد في عرينه أو إخراجه بحسب
طبيعة الظروف ومتطلبات الحاجة.. لقد أشعلت الدولة العنف
بكامل طاقته في الايديولوجية الدينية الوهابية منذ مطلع
الثمانينيات في مواجهة خصوم خارجيين مثل ايران، وفي دعم
المشروع الجهادي في أفغانستان كما استعملته في مواجهة
التيار القومي الناصري وفي حربها مع اليمن في الستينيات،
كما أطلقته في مواجهة خصوم داخليين من قوميين ويساريين
وشيعة وغيرهم.
أيديولوجيا العنف هي الأخطر
|
الآن، وفي محاولة لاحتواء الانتقادات المتصاعدة ضد
الدولة السعودية وايديولوجيتها الدينية المتطرفة، فإن
الدولة تسعى الى إظهار الوهابية باعتبارها ايديولوجية
متسامحة ومتصالحة مع الأفكار الأخرى والأيديولوجيات المختلفة،
بالرغم من أنها ـ أي الدولة لم تفلح حتى الآن في تقديم
نموذج صالح لاقناع الضحايا في الداخل والخارج بأن هذه
الايديولوجية قابلة لأن تكون متصالحة مع غيرها، سيما وأن
النصوص المستعملة والرائجة لاتقبل القسمة التأويلية على
إثنين، بحيث تحتمل الرأي الآخر..
إن ما يعزز القناعة بغياب نموذج متطوّر أو مختلف للوهابية
لدى الدولة عن غيره من النماذج الشعبية او المتطرفة التي
تعمل الجماعات المتشددة على تطويرها وتعميمها، أن ليس
هناك نسخاً مختلفة للوهابية، فتكون هناك نسخة للوهابية
خاصة بجماعات العنف وأخرى خاصة بالدولة.. فالوهابية عند
الطرفين واحدة نصّاً ومضموناً، فلم تقم الدولة بتجديد
الوهابية حتى بعد الحادي عشر من سبتمبر، وظهور اتفاق صلب
بين الباحثين والمراقبين في الداخل والخارج على أن مخزون
العنف داخل الايديولوجية الوهابية من الخطورة بمكان بما
يتطلب عملية افراغ لهذا المخزون على نحو عاجل وواسع.
ينقلنا هذا الى جوهر الصراع بين الدولة والجماعات الجهادية
المتشددة، حيث يلحظ بوضوح أن الايديولوجية هي مغذي الصراع
الداخلي، وأن محور الصراع الايديولوجي يدور بصورة محددة
حول تفسير النص الديني.. ولعل في ذلك ما يمكن وصفه بانشطار
الوعي على اساس الفصام الحاصل بين الدعوة والدولة، فبينما
يعتصم التيار الديني المتشدد بالخط الدعوي الممثل في آل
الشيخ والمتحدرين منهم نسباً وسبباً، وهو الخط الذي يعتقد
هذا التيار بأنه انفصل عن مشروع الدولة منذ ان تنصلّت
الاخيرة من التزاماتها الدينية والتاريخية، وبالتالي فإن
إعادة احياء مشروع الدعوة يتطلب تصحيحاً جراحياً لمشروع
الدولة، أي إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تتوافق وشروط
الدعوة كما أملاها مؤسس المذهب والملهمون الدينيون من
بعده.
ولكن في الوقت نفسه، ورغم ما تبديه المجادلة السابقة
من نقطة افتراق جوهرية، فإن ثمة إجماعاً داخل المجتمع
الديني الوهابي برمته بخطوطه المتباينة المعتدلة والمتطرفة
مشمولاً بأهل السلطة على المرجعية المذهبية الممتدة من
ابن تيمية ونزولاً الى ابن باز وابن عثيمين، ولكن الخلاف
يقع خارج إطار الاجماع على المرجعية ويتنكب الى تطبيقات
النص الديني وتحديداً الوهابي وكيفية التعامل مع المرجعية
النصيّة والتشريعية في الداخل والخارج.
بكلام آخر إن الخلاف يدور حول: لماذا يتم تطبيق المرجعية
الدينية بما فيها من أحكام قصوى على الخارج فيما يستثنى
الداخل منه.. لماذا يكون السادات ومبارك والاسد وفلان
وعلان حكاماً غير شرعيين، على أساس ليس مجرد رفض تطبيق
أحكام الشريعة الاسلامية، بل وأيضاً العلاقة مع النصارى
وتمكيّن الحداثويين من أجهزة الدولة ولا سيما الاجهزة
التوجيهية فيها (الاعلام، والتعليم، والقضاء ..الخ) فيما
يتم استثناء آل سعود من تلك الاحكام، رغم أن بعضاً من
هذه المؤاخذات واردة التطبيق على الحكم السعودي.
ولعل من نقاط الاحتكاك والتصادم بين الدولة والتيار
الديني المتشدد وتحديداً العنفي هو استعمال الدولة لذات
النصوص والاحكام التي يلجأ اليها التيار الديني العام
بما فيها الخطين المعتدل والمتطرف، لأن الدولة تستمد من
ذات المرجعية مصدر مشروعيتها الدينية، وهذا ما يجعل المواجهة
بين الدولة وحليفها الديني أو المجتمع الديني الذي يحيط
بها ويمدَّها بالقوة أحياناً ويحاربها أحياناً أخرى ذات
صعوبة بالغة، وبحاجة الى أدوات غاية في التعقيد.
إن السر الذي يدفع الدولة للنأي عن استعمال القوة الباطشة
ضد حليفها الديني هو كونها تلتحم معه في وحدة خطابية ومرجعية
غير قابلة للانفكاك، فهي تدرك تماماً بأن العقاب الذي
تفرضه على حليفها المتمرد ينالها جزء منه.. ولذلك فهي
تبحث عن خيار حل تكفل الاحتفاظ بقوة التحالف معه وبتماسكه
وفعاليته مع الابقاء على تفوقها وسيادتها.
يتساءل كثيرون عن السبب الذي يجعل الدولة تمارس عملية
إعادة تموقع وإنتشار لأفراد تيارها الديني لتخفيض الجناح
المتشدد فيه أو عزله وتهميشه لصالح جناح يراد تدجينه وترويضه
كيما يظهر في صورة المعتدل القابل للاستعمال الرسمي في
مواجهة الخطوط المتشددة في الشارع، والقادر على تلميع
وجه الدولة الديني والدخول في شراكة من نوع ما لأغراض
سياسية محلية محضة.
ولهذا السبب تحديداً فإن الدولة لم تلجأ لحلول قاصمة
ضد المتمردين في التيار السلفي المتشدد، بل كانت تفضّل
إعادة تركيب التيار وتصفيته بصورة سلمية واستعمال المهدئّات
التي يمكن عن طريقها ازاحة بعض الافراد وجلب آخرين في
مواقع ترى الدولة بأنهم أقدر على تأدية وظائف الشراكة
والحلف. وعليه، فقد بقي التيار الديني السلفي محتفظاً
بقوة شعبية وسياسية لا يستهان بها، فهو مازال القوة الأكثر
تأثيراً في الميدانين الشعبي والسياسي، فمازالت شبكة التوجيه
الديني تمثل إحدى قنوات التعبير الفاعلة في الجمهور العام،
حيث لم تقدم الدولة بالرغم من الخروقات المتكررة والخطيرة
التي اقترفها عناصر التيار الديني السلفي والتي أضرّت
بمكانة الدولة، على إحداث تغيير في هذه الشبكة. ويذكر
على سبيل المثال بأن عدداً كبيراً من أئمة المساجد في
نجد رفضوا مؤخراً الامتثال لتعميم يقضي بالقنوت ضد الجماعات
المتشددة، لأن الدولة حظرت عليهم القنوات ضد اسرائيل وقوات
الاحتلال في العراق!!
وهذا ينقلنا الى موقع الاحتدام الرئيسي، اي الموقع
الذي يمثل مصدر الهام ومشروعية للدولة والحليف الديني،
حيث تجري المنافسة على من يفرض سلطانه على المرجعية الدينية
والسيطرة على دفة قيادتها، خصوصاً مع التجاذب العنيف بين
قوى متعددة بما فيها الحكومة على إحتكار مصادر التوجيه
الديني، ولذات السبب هناك اعتصام جماعي بالوهابية كجزء
من عملية شرعنة الذات وتجريد الآخر.. ولذلك نرى بأن التيار
الجهادي المتشدد يستعمل النصوص الوهابية التي تستعملها
الحكومة ولكن بغرض هدم الدولة السعودية تماماً كما جرى
استعمال ذات النصوص في مراحل التكوين وبنفس الطريقة والقدر
لهدم الامارات القائمة في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية،
أي حين أُريد من تلك النصوص تبرير وشرعنة إقامة الدولة
السعودية.
وفي الخط العريض والعام، فإن نضال عناصر الجماعات الدينية
المتشددة يوظّف إرادياً أو عفوياً وسواء كان ذلك علنياً
أم ضمنياً لجهة التشكيك في المشروعية الدينية للدولة السعودية..
وهذه نقطة تصادم خطيرة ما يدفع بالحكومة الى إحباط الطاقة
التدميرية الهائلة التي بيد التيار الديني عموماً المعتدل
منه والمتشدد.. وقد يلزم القول بقدر من الجزم بأنه لم
يعد بإمكان العائلة المالكة تكرار نموذج المؤسس أو الملك
فيصل اللذين كانا الى حد كبير يمسكان بزمام السلطتين الدينية
والزمنية، فتنامي المجتمع الديني وبروز قيادات دينية كاريزمية
في مقابل فساد الطبقة السياسية قد أدى ذلك كله الى اضمحلال
فرص إجتماع القوتين الدينية والسياسية في يد شخص واحد
من العائلة المالكة.
ولعل هذا يعين على كشف حقيقة أخرى: إن غياب الكاريزما
في الدولة هو الذي يفسر فشل الدولة في استعمال النص الديني،
وانتقال الكاريزما الى المعارضة (الدينية تحديداً) والتي
باتت تملك ارضية تنازع فيها الدولة وتزيحها عن المخيال
الشعبي باعتبارها مصدراً للمشروعية الدينية.. فقد باتت
الجماعات الدينية المتشددة تملك من الرصيد الشعبي ما يجعلها
قادرة على سحب البساط جزئياً على الأقل من تحت أقدام الساسة،
فقد تحطمت المحظورات السياسية تحت أقدام القوى الدينية
منذ عقدين، وهاهم يملون على السلطة ما يجب عليها فعله
من أجل الحصول على جرعة المشروعية الضرورية من أجل البقاء
(انظر بيان علماء الدين حول تغيير المناهج).
لم يعد بإمكان الدولة السعودية الاحتفاظ طويلاً بورقة
المشروعية الدينية، لأنها باتت ورقة غير ثابته او مضمونة،
فقد تجرِّدها القوى الدينية المتشددة منها من خلال عملية
شديدة التعقيد من المواجهات على جبهات مختلفة: عسكرية،
فكرية، اعلامية، وسياسية.. وهو ما يجري حالياً وهي مواجهات
تصل ذروتها وعنفوانها لحظة وصول الدولة الى مرحلة ضعف
وانكشاف أمني حاد.. ففي المواجهة الشاملة لا يمكن التفريق
بين القلم والرصاص، فثمة هدف يراد تحقيقه بكافة الوسائل
وأن دوي الاقلام كدوي المدافع حين يراد ايصال مجتمع ديني
يشعر بالخداع كونه يخضع لمساومة واستغلال من أجل اغرض
السلطة.. ولذلك فإن ثمة مهمة أخرى يقوم بها التيار الجهادي
المتشدد على الضد من مهمة علماء الدين القدامى الذين انخرطوا
في مشروع الدولة وساهموا في إضفاء مشروعية على تكوينها
واستمرارها، إنها بحسب عقيدتهم مهمة تصحيحية تستهدف هدم
الدولة وإعادة بنائها، وبين بناء الاوائل وهدم الأواخر
تكمن حقيقة تطور العلاقة بين الدين والدولة على امتداد
أكثر من قرنين من الزمن.
الفاصل بين العنف السياسي
والجريمة
نجد من الضروري تسليط الضوء على نقطة جديرة بالاهتمام
بفعل الخلط الواضح الذي حصل بين التيار الديني العنفي
وغيره.. فهناك من يحاول الربط أو بالاحرى إدراج الجماعات
المتشددة وجماعات الجريمة في قائمة واحدة، متناسين أن
لكل جماعة معايير خاصة، وأهداف محددة.. إن عملية الربط
هذه تستهدف بدرجة أساسية الغاء الدافع السياسي أو بكلمة
أخرى إهمال متعمد لبعد رئيسي في تفكير وتخطيط الجماعات
المتشددة أي الاطاحة بالدولة واقامة البديل الديني، وبالتالي
تحويلها الى مجرد مجموعة من الافراد المجرمين أو عناصر
شاذّة أو منبوذة في عصابة مسلّحة.. بالرغم من أن افراد
هذه الجماعات هم من الملتزمين دينياً ومن غير ذوي السوابق،
بل هم ممن تلقى تعليمه في المدارس الدينية وتربى على الامتثال
لأحكام الشريعة في بعدها الصارم.. لا ينفي ذلك بالقطع
حالات معينة في الجماعات الدينية المتشددة في بعض المناطق
ووجود بعض الافراد من ذوي السوابق الاجتماعية والاخلاقية
الذين تبنوا مواقف راديكالية كرد فعل على أوضاعهم السابقة
وكتعبير عن التوبة بشكل تضحوي وعنيف، ولذلك كانت مشاريع
الشهادة بمثابة أشكال متطرفة لتطهير الذات وغسل الماضي
التعيس.
إن ما يكسب هذا الربط بين الجماعات المتشددة وجماعات
الجريمة زخماً هو ضياع الحد الفاصل بين العنف السياسي
والجريمة بالمعنى السيسيولوجي، حين يقدم فرد على تفجير
نفسه وسط أبرياء أو قتل أناس غير محاربين، فالقتل هنا
لا يترجم ولا يعكس بوضوح شديد الطبيعة السياسية والايديولوجية
لهذه الجماعات المتشددة، إذ الهدف هنا يضيع وسط أشلاء
الضحايا المتناثرة، ويؤول الى المماهاة بين العنف السياسي
والجريمة الامنية، وهو مالفت انتباه جماعات العنف في السعودية،
حيث أعادت النظر في الاسلوب الكارثي لابلاغ رسالتها السياسية
والدينية، فقد أظهرت التفجيرات الانتحارية وعدد الضحايا
الذين سقطوها فيها بأن ثمة تهوراً يطيش بهذه الجماعات
ما يجعلهم غير مكترثين بالابرياء الذين يقعوا قتلى او
جرحى في عملياتهم، ولعل هناك الآن وجاهة للتحليل القائل
بأن القيام بسلسلة اغتيالات للاجانب على مستوى فردي او
جماعي هي رسالة غير مباشرة لذوي الضحايا السابقين من العرب
والمسلمين وهكذا للرأي العام المحلي والخارجي تستهدف اعلان
التكفير عن اخطاء الماضي والتركيز على ما ينطوي على احتمالية
التعاطف او الحياد كما في في عمليات اغتيال الاجانب والتي
تكاد تكون رجع الصدى لعمليات مماثلة في العراق..
وعوداً الى سياق النقطة هذه، أي نقطة التمايز بين الجماعات
المتشددة وجماعات الجريمة فإن ثمة ما يجعل الفصل القطعي
قائماً هو الأيديولوجيا، التي تجعل الاهداف ذات طبيعة
جمعية وعامة وتتجاوز الاغراض الذاتية والشخصية.. واستطراداً
ايضاً يمكن القول بأن الايديولوجيا واستراتيجية التغيير
او التعبير عنها تعتبر المائز الرئيسي بين الافراد والجماعات
الناشطة في المضمار الاجتماعي،
إن الدوافع المحركّة كافية للتمييز بين الجماعات الدينية
المتشددة وجماعات الجريمة، فأفراد الجماعات المتشددة لم
يحرّكهم الوضع المعيشي (وإن كان له دور غير قليل ولكن
في الوقت نفسه ليس ذاتياً بل عاماً)، بل هو المحرّك الديني،
فهناك أجندة مستقبلية يراد انجازها من قبل الجماعات الدينية
المتشددة، بعكس جماعات الجريمة التي تنتهي أغراضها عند
حد تنفيذ ما عقدت العزم عليه في حينه، اي في حال وقوع
الجريمة في أشكالها المختلفة..
بالنسبة للجماعات الدينية المتشددة فإن الامر غير ذلك
بتاتاً، فهي تتحرك وفق رؤية كونية، وايديولوجية واضحة
واستراتيجية تغيير معينة، ولذلك فهي لم تقم بنشاطات مسلّحة
الا بعد استحكامها لرؤيتها الكوينية القائمة على اساس
ديني، والمعبّر في خلاصتها أولاً عن تكفير الدولة. ففي
رد أحد العناصر القيادية في الجماعات الجهادية المسلّحة
ما يعكس هذا البعد في تبرير العمليات الفدائية حيث يقول
(أما مسألة تكفير الحكام فهذه مسألة مفروغ منها عند عامة
الناس فضلا عن طلبة العلم والعلماء: لا يشك أحد بكفر هؤلاء
الحكام لظهور ذلك ووضوحه بحيث أصبح لا يحتاج إلى من يدلل
عليه أو يقيم عليه البراهين من الناحية الشرعية..).
وهذا يستدعي النص الشهير للشيخ سفر الحوالي الوارد
في كتابه (كشف الغمة عن علماء الأمة) الصادر إبان أزمة
الخليج الثانية 1990 ـ 1991. فقد ذكر ما نصه: (لقد ظهر
الكفر والإلحاد في صحفنا وفشا المنكر في نوادينا ودُعي
إلى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا واستبحنا الربا حتى أن
بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام إلا خطوات
معدودات. أما التحاكم إلى الشرع -تلك الدعوى القديمة-
فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا إلا ما يُسميه أصحاب الطاغوت
الوضعي الأحوال الشخصية وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن
(ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم)، ومع ذلك وضعنا
الأغلال الثقيلة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام
الخذلان وشدة الهوان ومن يُهِن الله فما له من مُكرم).
ومن جهة ثانية، فإن الرؤية الكونية تفضي تلقائياً لدى
هذه الجماعة الى انبثاق ايديولوجية محددة ترى بأن تكفير
الدولة يستدعي عملية هدم للكيان القائم وتشييد البديل
الديني، وهو بالتحديد ما عبّرت عنه عرائض التيار الديني
عموماً..
وفي الاخير يجدر ذكر فارق جوهري آخر هو أن الجماعات
المتشدّدة توجّه عنفها ضد الدولة وقد يصيب عنفها المجتمع
ولكنه غير مقصود بذاته وفي الوقت نفسه نادر، أما جماعات
الجريمة فعنفها موجّه بدرجة أساسية ضد المجتمع ونادراً
ما يكون ضد الجهاز الاداري في الدولة، ويمكن القول بأن
التعديات التي توجّهها هذه الجماعات ضد المصالح العامة
لا تنطوي على أبعاد سياسية بل هي اغرض اقتصادية محضة.
وخلاصة القول فإن الجماعات الجهادية المتشددة تعبّر
عن حركة تستهدف وتسعى عملياً الى الوصول إلى الحكم واقامة
دولة دينية يقودها العلماء، بناء على عقيدة كفر الدولة
وانتزاع المشروعية عنها.. ويمكن القول استطراداً بأن الجماعات
الجهادية هي التعبير الراديكالي لمشروع الدولة الواردة
في (مذكرة النصيحة) لدى التيار السلفي الصحوي الناشط عام
1992.
|