يوسف بن عمرو يؤسس في مكة المكرمة
أول معمل للورق في البلاد العربية
بعد أن سقطت الحكومات العربية ضحية الاستبداد الداخلي
والاستعمار الاخارجي، دخلت بلاد الاسلام في عهد فترة من
الجهل يصعب على الانسان أن يجد له إسماً يطابق حالته ولكنه
على كل حال من أسوأ الأدوار التي مرت على الشعوب الاسلامية،
لأن البلاد كانت تسير من سيء الى أسوأ، وتراث الحضارة
الاسلامية التي خلّفها لنا الأوّلون تندثر شيئاً فشيئاً
والمدونات العلمية والتاريخية التي تركها لنا العلماء
العاملون أغرقت أيدي المستبدين قسماً كبيراً منها، وبدد
الأبناء قسماً آخر فضاع من جراء ذلك مؤلفات قيّمة ذكرها
أصحاب الفهارس ،ولم يقف أحد عليها وانحجبت عن عيوننا حقائق
وحوادث بقي مكانها خلواً من التاريخ في التاريخ.
وكان على أثر تبدد قسم من هذه الكتب أن انتقل السواد
منها الى أيدي الغربيين، فاستفادوا منها كثيراً، واطلعوا
عل حقائق وحادثات لا نزال نحن نجهلها فتيسر بهذه الوسائل
نشرها عن طريقهم وليت المسألة وقفت عند هذا الحد، بل كان
فريق منهم ينسب الى نفسه حق الأولية في الاختراع وصنع
بعض الآلات والأدوات وما شاكلها، في حين أن هذا من حق
العرب أنفسهم، ولكن ضياع هذه المؤلفات، واستقرارها في
الغرب حجبت عن الناس الحقيقة، وقد حمل ذلك بعض طلاب التجديد
على جحود فضل المسلمين وحضاراتهم الزاهية، واعتبارها المدنية
الحاضرة، إنها الاولى والأخيرة، وهذا إدِّعاء باطل لا
يقره من كان في رأسه ذرة من العقل.
ويزداد هذا الغموض في تاريخ جزيرة العرب، لأن الثورات
والفتن وعدم الاعتناء بأمرها في العصور الماضية، كل ذلك
أفضى الى ضياع تاريخها، بحيث يصعب على المؤرخ اليوم أن
يقوم بتدوين تاريخ هذه العصور الا بعد بذل الجهود العظيمة
يرافقها التؤدة والأناءة.
هذه المقدمة تشكل مفتتحاً للحديث عن أول عربي أدخل
صناعة الورق الى البلاد العربية، وأول معمل أسس لهذا الصناعة
نظراً لأهمية هذا الموضوع.
أدوات الكتابة
كانت الامم السابقة تكتب على المواد التي تصل اليها
أيديها من مواد بلادها، فكان أهل الهند يكتبون على خرق
الحرير، وأهل ايران يكتبون على الجلود المدبوغة، والمصريون
يكتبون على البردي، والبابليون على الطوب والخزف.
أما العرب، فأقدم ما كتب فيه العرب الرق وهي الجلود،
والعسب وهي جريدة النخل، واللخاف وهي حجارة بيضاء خفيفة
والخزف أو العظام أو الخشب، وكتبوا أيضاً على الأقمشة،
وقد قال صاحب الفهرست (والعرب تكتب في أكتاف الإبل واللخاف
وهي الحجارة الرقاق البيض وفي العسب).
وقال زيدان (ولما فتحوا ـ أي العرب ـ مصر اتخذوا البردي
فكان أكثر مكاتبات الأمويين على البابيروس والقباطي).
ولما كانت أيام الدولة العباسية اتخذوا الكاغذ، إذ ضاقت
الرقوق والجلود عن المكاتبات والمراسلات والسجلات فأشار
الفضل باصطناعه فأنشأوا له المعامل في بغداد والشام وغيرها
من عواصم الاسلام وكانوا الوسيلة الوحيدة في نشر صناعة
الورق في العالم.
صناعة الورق
الصينيون هم أول من اخترعوا الورق وذلك سنة 105 ميلادية
أي منذ ألفي سنة والمادة التي استعملوها في صناعة الورق
كانت ألياف الغاب وبعض أنواع من الحشائش والخرق البالية..
وقد وضعوا هذه المواد المختلفة في هاون ومزجوها بالماء
حتى جعلوها كالعجينة. وبعد ذلك وضعوا هذه العجينة في قوالب
لتحويلها الى ورق، وفي هذه القوالب توجد شبكة في القاع
مصنوعة من عصى الغاب وخيوط حريرية يصبِّون العجينة في
القالب ويهزونه حتى أن الألياف تلتصق ببعضها وتكون شبه
حصيرة والماء يجري خلال هذه الشبكة ويتحرك فرخ الورق الجاف،
ثم يجفف تحت أشعة الشمش الى أن يصير ورقاً، وأهل الصين
مازالوا يعملون هذه الطريقة اليدوية لصناعة الورق.
وانتقلت صناعة الورق من الصين الى سمرقند فالبلاد العربية
فالغرب، وقد قلنا أن العباسيين هم أول من استعملوا الورق
في المكاتبات نقلاً عن المؤرخين، فالتبست هذه الفقرة على
الناس وظنوا ان أول معمل أسس للورق في البلاد الاسلامية
كان في عهد هاروق الرشيد الخليفة العباسي. ولكن الحقيقة
تخالف ذلك، فإن أول معمل أسس للورق في البلاد العربية
كان في الحجاز أسسه يوسف بن عمرو المكي في أواخر القرن
الأول للهجرة.
انتقال صناعة الورق
اتفق الباحثون على أن هارون الرشيد (170 ـ 193) هو
أول من إتخذ الورق وصناعته حينما ضاقت الرقوق والجلود
عن المكاتب. على أن هنالك خلافاً في الرأي فيما يتعلق
بتاريخ انتقال صناعة الورق من الصين الى البلاد الاسلامية،
وكيفية انتشارها فيها، وهل هارون الرشيد هو أول من أسس
معامل صناعتها أم لا.
إذن نحن إزاء آراء مختلفة من حيث تاريخ انتشار صناعة
الورق في البلاد الاسلامية، فالرأي الاول يقول بأن هذه
الصناعة انتقلت الى البلاد الاسلامية في عهد العباسيين،
والرأي الثاني يقول بأن تاريخ الانتقال يرجع الى ما قبل
ذلك بمدة لا تقل عن خمسين سنة أو أكثر لذلك وجب علينا
استعراض رأي كل فريق على ضوء الحقيقة لنخرج منها الى النتيجة
القطعية الحاسمة.
ـ الرواية الاولى: قالت دائرة المعارف البريطانية في
مادة الورق وكيفية انتقال صناعتها الى البلاد الاسلامية
ما يلي:
إحتل العرب في أوائل القرن السابع للميلاد مدينة سمرقند،
وفي عام 715 غزي الصينيون العرب التخوم فاصطدم الفريقان
بمعركة أسفرت عن اندحار الصينيين، ووقع فريق منهم أسرى
بيد العرب، وكان بين هؤلاء الأسرى عمال يعرفون صناعة الورق،
فتعلم العرب منهم هذه الصناعة، وبهذه الواسطة انتشرت صناعة
الورق الى الممالك العربية.
ثم تأتي دائرة المعارف المذكورة على ذكر أسماء كتب
مخطوطة كتبت في القرن التاسع الميلادي أشارت الى أنه يوجد
في مكتبة جامعة ليدن نسخة من (غريب الحديث) كتب على الورق
عام 866.
وفي المتحف البريطاني نسخة من كتاب طبي كتب على الورق
عام 960م. وفي مكتبة بودلين نسخة من يدوان الآداب كتبت
عام 974 وفي سمرقند على الورق أيضاً.
وقال ابن النديم في كتاب الفهرست :(فإما الورق الخراساني
فيعمل من الكتان وقال إنه حدث في أيام بني أمية وقيل في
الدولة العباسية وقيل إنه قديم العمل وقيل إنه حديث وقيل
إنهم صناعاً من الصين).
وهناك أقوال لبعض المؤرخين تساير هذا الرأي ضربنا عن
نقلها صفحاً خشية التطويل.
ـ الرواية الثانية: قال سديو في كتابه خلاصة تاريخ
العرب (ص 264):
(وضع العرب الورق من الحرير سنة 650م في سمرقند وبخارى
ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة 706م الحرير بالقطن الذي منه
الورق الدشمقي المتكلم عليه مؤرخوا اليونان).
وقال الرياني في كتابه (وفيّات الاسلاف) ص 337: (اخترع
يوسف بن عمرو المكي اتخاذ الكاغذ من القطن في حدود ثمان
وثمانين من الهجرة بالحجاز وموسى بن نصير اتخذه من الكتان
والقنب في بلاد المغرب).
ونقل طاهر أفندي التركي صاحب مناظر الآثار عن ميشيل
كازيري المؤلف الفرنسي ما يلي (ص 47):
(كان الأروبيون مختلفين في كيفية انتشار الورق وصناعته
في أوروبا الى أن قام المؤلف ميتشيل كازيري بأبحاث قيمة
في مكتبة الأسكوريال بالأندلس واطلع على وثائق عربية تثبت
أن انتشار الورق في أوروبا كان على يد المسلمين أيضاً).
وقد ثبت لسكازيري ان الصينيين هم الذين اخترعوا الورق،
وأنهم كانوا يصنعونه من مادة حريرية ثم انتقلت صناعته
منها الى سمرقند فالحجاز، ومن الحجاز الى الاندلس فأوروبا.
ويقول علي بن محمد السمرقندي أنه تأسس في عام 34 للهجرة
مصنع للورق الحريري في سمرقند كما أن عز الدين أبو القاسم
البصري ذكر أن العرب لما فتحوا في عام 85 بعد الهجرة سمرقند
تعلموا هنالك صناعة الورق.
وأشار محمد الغزالي المؤرخ الى ذلك فقال: (بعد الفتح
بثلاث سنوات نقل يوسف بن عمر وأذاع صناعتها بين العرب،
وقد استنبط صناعتها من القطن بدلاً من الحرير نظراً لفقدان
الحرير في البلاد الحجازية).
ثم يذكر كازيري كيفية انتقال هذه الصناعة من الحجاز
على يد موسى بن نصير الى الاندس. وقد روى بعض المؤرخين
والكتاب تاريخ صناعة الورق بما يطابق هذه الرواية في الأساس
الا أنهم اختلفوا في بعض النقاط فقالوا: عرف الصنيون الورق
سنة 105 للميلاد، وبقيت صناعته سراً من أسرار الصين لا
يعرفه أحد من العالم.
في سنة 55 هجرية نزل سعيد بن عثمان والي خراسان على
سمرقند محاصرها لها مدة ثم انصرف عنها، فلما كانت سنة
87 عبر قتيبة بن مسلم النهر وغزا بخارى والشاسش ونزل على
سمرقند ثم سبع، فتم لقتيبة فتح هذه البلاد عام 94 هـ.
ولا يبعد أن يكون الاخصائيون في صناعة الورق كانوا جاءوا
الى سمرقند مع الوفد الصيني الذي قدم يحمل الهدايا الى
قتيبة بن مسلم. أو أن تكون صناعة الورق انتقلت الى سمرقند
قبل هذا التاريخ لقرب سمرقند من بلاد الصين. كما ذكر علي
بن محمد السمرقندي وهو العالم بأحوال بلاده بأن العرب
تعلموا هذه الصناعة بعد أن تم للجيش الاسلامي اخضاعها
لسلطان المسلمين، ويؤيد هذا الرأي رواية ميشيل كازيري
نقلاً عن الوثائق العربية التي وقفت عليها في بلاد الاندلس.
اما الرأي القائل بأن العباسيين هم الصانعون فرواية
مشوّشة. نعم أن العباسيين هم أول من استعملوا الورق في
المكاتبات ولا يبعد انهم أسسوا لذلك المصانع والمعامل
اللازمة لتأمين حاجة الحكومة وليس هذا يفيد عدم تأسيس
مصانع في البلاد الى حين قيام العباسيين بذلك، فقد ذكر
القلقشندي ذلك بصراحة في كتابه صبح الأعشى، وذكر ابن النديم
ذلك في روايات مختلفة. فهذه الاسباب والاسانيد كلها تميل
بنا للاعتقاد بأن تأسيس معامل الورق في البلاد الاسلامية
قد تم قبل أن يأمر هارون الرشيد استعماله، كما أن الرواة
الذين بحثوا في هذه المسألة أجمعوا على أن يوسف بن عمرو
هو الذي نقل صناعة الورق من سمرقند الى الحجاز وذلك في
أواخر القرن الأول للهجرة.
فمن هذه الايضاحات نستنتج أن صناعة الورق انتقلت في
منتصف القرن الأول الى سمرقند وأن يوسف بن عمرو تعلم هذه
الصناعة في معاملها ثم نقلها الى الحجاز.. وكان المعمل
الذي أسسه في هذه الديار هو أول معمل أسس في البلاد العربية
وأنه أول من صنع الورق من القطن بدلاً من الحرير، وأن
هذه الصناعة انتقلت بعد ذلك من الحجاز الى الأندلس فأوروبا.
من هو يوسف بن عمر
وليس من شك في أن يوسف بن عمرو من الشخصيات البارزة
الذين كان لهم القدح المعلى في وسائل الحضارة والعمران،
فبفضل الله تم بمساعيه تأسس أول معمل للورق في الحجاز
من القطن ثم انتقلت هذه الصناعة من هنا الى البلاد الأخرى،
ولكننا رغم تنقيبنا كتب التاريخ والتراجم فإننا لم نجد
له ترجمة غير هذه الاشارة البسيطة التي مر ذكرها هنا.
ومنها يتضح أنه كان من مواليد القرن الأول ولا يبعد أن
يكون من جنود المجاهدين الأبطال الذين حملوا لواء الاسلام
الى البلاد النائية.
|