المأزق السعودي
منذ أعلن الامير عبد الله في الثالث والعشرين من يونيو
الماضي عن مهلة شهر كيما يسلّم أفراد تنظيم القاعدة في
الجزير العربية أنفسهم للأجهزة الامنية، والأنظار تتجه
الى قمة الجبل بانتظار ظهور الهابطين منها الى أسفل الوادي
وهم رافعين الرايات البيضاء. ولكن هذا الأمل في طريقه
للتبدد، وقد طال الانتظار وطال حتى بدأ اليأس يتسلل الى
القصور الملكية، حيث لحظنا في الثلث الأخير من المهلة
وكأن استنفاراً جديداً من أجل تنشيط المبادرة، وتكثّفت
الاتصالات مع عوائل المطلوبين أملاً في أن يقنعوا ذويهم
بالاستسلام، بل أن العامل العاطفي كان حاضراً هو الآخر
من أجل كسر العناد لدى الجماعات الجهادية، حتى أن أحدهم
ناشد أخاه بإسم والدته المريضة كيما يسلّم نفسه.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد أعيد التذكير بالمهلة
مرة أخرى في الثاني عشر من يوليو، وافتعلت الحكومة محفّزات
جديدة، وقيل بأن أجهزة الاستخبارات الايرانية والسعودية
اتفقتا على تبادل بعض اعضاء تنظيم القاعدة من أجل تحفيز
المطلوبين على تسليم أنفسهم، فأعلن التلفزيون السعودي
عن وصول خالد الحربي (ابو سليمان المكي) احد أعضاء تنظيم
القاعدة من طهران على كرسي متحرك الى السعودية، أي أن
التسليم كان لأسباب إنسانية محضة، ولم يكن استسلاماً كما
حاول البيان الرسمي إيهام الناس قبل المطلوبين.
ورغم أن المبادرة التي أطلقها الأمير عبد الله أريد
منها أن تكتسب زخماً معنوياً كبيراً وحشداً واسعاً ولذلك
اعتبرت المبادرة بإسم الملك العليل نفسه باعتباره القيادة
السياسية العليا في البلاد، الا أن مع اقتراب نهاية المهلة
بدأ التصدّع في الموقف العائلي الذي يترشح لخلاف كبير،
لأن نهاية المهلة تتطلب اجراءً عملياً آخر، من أجل تثبيت
المصداقية المتأرجحة للدولة بالرغم من الانكسار العسكري
الجزئي الذي أصاب تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية منذ
مقتل قائد التنظيم عبد العزيز المقرن في يونيو الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن نهاية المهلة تعني أيضاً نهاية
خيار التفاوض الذي بدأه عدد من المشايخ السلفيين المقرّبين
من التيار الجهادي الذي استلهم بعضاً من أفكارهم الجهادية
ومارسها في ميدان القتال ضد المشركين والمتواطئين معهم.
صحيح أن الامير نايف كعادته الكريمة ينفي وجود شفعاء بينه
وبين خصومه من أفراد التنظيم الجهادي باعتبار أن لا فضل
لأحد على الدولة الا ما أسبغت هي عليه من فضلها، ولكن
بات معروفاً بأن الشيخ سفر الحوالي والشيخ محسن العواجي
والشيخ عايض القرني وآخرين يلعبون دوراً مركزياً في إنجاح
مبادرة ولي العهد من خلال إجراء إتصالات مكثفة مع مقرّبين
من المطلوبين من أجل اقناعهم بالاستسلام وطمأنتهم للعواقب.
وكان الشيخ الحوالي قد أعلن عن إتصالات مكثّفة يجريها
مع المطلوبين أمنياً في قائمة الـ 26 وغيرهم، وقد بدا
مطمئناً الى أن جهوده ستثمر عن استسلام العشرات من المطلوبين،
تماماً كما أثمرت أفكاره المتشددة سابقاً في تفجير الوضع
الامني. وكان الحوالي قد أطلق مبادرة في رمضان الماضي
بأن تعفو الدولة عن المطلوبين مقابل نبذ العنف، الا أن
الدولة رفضت المبادرة لأنها تنطوي على تنازل للمطلوبين
أمنياً. وقال الحوالي (كنت أرجو لو أن الدولة كانت قد
أعلنت العفو في ذلك الوقت) وهو قول فيه إتهام للدولة بأن
التصعيد الأمني اللاحق والهجمات المسلّحة التي قام بها
أفراد التنظيم هي رد فعل على فشل الحكومة في تبني اطروحة
الشيخ الحوالي تلك.
السؤال المركزي الآن كيف سيكون موقف العائلة المالكة
بعد انتهاء المهلة، خصوصاً وأن ثمة تعويلاً كبيراً عليها
في أن تسوّي المشكلة المفزعة للبلاد منذ أكثر من عام.
فمبادرة الامير عبد الله جاءت عقب مجهودات كبيرة بذلها
رجال دين مثل الحوالي والعواجي وآخرين من أجل إقناع ولي
العهد بنجاح مبادرة العفو التي يقترحونها، وقد آلوا على
أنفسهم أن يكرسّوا جهودهم وعلمهم وهكذا تكثيف الاتصالات
مع المطلوبين كيما يستفيدوا من المبادرة مع التعهّد لهم
بأن لا تطال رقابهم السيف، بل سيخفف عنهم العقاب. وقيل
بأن حتى الحكم بالسجن سيلغى عنهم وسيوضع قيادات التنظيم
تحت الاقامة الجبرية في مساكن معزولة ريثما تستكمل مدد
الاعتقال.
إن المئات الذين تحدث الامير نايف في مؤتمر صحافي في
الثاني عشر من يوليو الماضي عن اعتقالهم أو ايقافهم أسقطوا
رواية القوائم المعلنة بأعدادها الـ 19 أو الـ 26، فالذين
انخرطوا في نشاطات التنظيم الجهادي العنفي هم بأعداد كبيرة.
وعليه، فإن فشل المبادرة الأخيرة، سيعني أن دورة عنف جديدة
في الطريق قد تدفع المقيمين الاجانب الى مغادرة البلاد،
كما أنها ستبعث القلق لدى المواطنين، وفي كل الاحوال هو
مأزق الحكومة.
|