مدخل الى فهم العقلية الأمنية
قراءة قانونية ناقدة في مسوّدة التحقيق مع الاصلاحيين
يمكن القول ابتداءً بأن كافة الاسئلة الواردة في التحقيق
مع الرموز الاصلاحية محل جدل ونقاش ليس من الوجهة القانونية
فحسب بل والسياسية والفكرية أيضاً، فصائغ الاسئلة لا يكاد
يدرك الا الجانب الامني في القضية التي أمامه ولكنه يفتعل
إدراكاً وإحاطة بباقي الجوانب الاخرى، ولذلك فهو لا يشعر
بالفارق الكبير والجوهري بين مواطن الخلل، وموارد الخطأ
والصح، كما يظهر من خلال عقد المقارنات المتكررة التي
يحاول المحقق الامني أن يوحي وكأنه شديد الالمام بالأبعاد
القانونية في المسائل التي يثيرها في عملية التحقيق والتي
يرجو الحصول فيها على إجابات حاسمة ومشبعة بالاقرارات
والادانات.
إن السؤال الأول مع الاصلاحيين يمثّل نقطة الافتراق
الرئيسية، حين يقرر المحقق الأمني بأن إصدار أو المشاركة
في أو تقديم بيانات علنية أو حتى السعي لاقناع أكبر عدد
ممكن من المؤيدين لمضامين البيانات تهمة يعاقب عليها صاحبها.
بالرغم من أن أسلوب العرائض والتوقيع عليها يعتبر تقليداً
سارياً وعرفاً جارياً في أرجاء البلاد منذ نشأتها، بفعل
غياب الوسائل الاخرى الديمقراطية التي يمكن التوسل بها
من أجل إيصال المطالب الى القيادة السياسية. مع التذكير
هنا بأن هذا الاسلوب المعمول به كان ومازال مقبولاً ولم
يصدر من الدولة نفسها ما يشير الى اعترض عليه بل إن الاستقبال
الودي الذي حظي به الموقعون على البينات ينطوي على اعتراف
ضمني بشرعية هذا الاسلوب.
ثمة سؤال آخر يهدف الى تقليص دائرة التأييد الذي حظيت
به العرائض والتشكيك في نزاهة الاصلاحيين، حيث أثار المحقق
سؤالاً حول صدقية توقيعات الاسماء الواردة في بياني (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله) و(نداء للقيادة والشعب معاً). وللفائدة
فإن خلفية السؤال تعود الى ما جرى في العريضة الثانية
حيث سحب الشيخ عبد الكريم الجهيمان توقيعه في آخر لحظة
بعد أن خضع تحت تأثير أحد الامراء، وقيل حينذاك بأن الشيخ
الجهيمان كتب رسالة للقائمين على العريضة، ولكن لم يطلع
أحد على الرسالة أو يعرف فحواها رغم ما قيل عنها بأنها
تتضمن سحب توقيعه من العريضة.
إن الاطناب الطويل حول انسحاب جهيمان كان استغله الامير
نايف في الجلسة الساخنة التي جرت بينه وبين عدد من الاصلاحيين
عقب صدور عريضة (نداء للقيادة والشعب معاً) والتي استعمل
فيها الامير نايف اللغة التقليدية المعهودة لوزير الداخلية
وأجهزة الامن، والتي أفاض فيها بالتهديد والوعيد لمن حضر
اللقاء، ثم نفّذ وعده بعد ذلك في منتصف مارس الماضي باعتقال
رهط من الاصلاحيين. إن قضية إنسحاب جهيمان كانت الخيط
الوهمي الذي تمسّك بها الامير نايف من أجل حياكة تهمة
ضد الاصلاحيين كيما يضفي شرعية هي الأخرى وهمية على قرار
اعتقالهم. وبالرغم من معرفة أجهزة الأمن التامة هوية من
سحب توقيعه الا أنها حاولت أن تنفخ في القضية كيما تجعل
منها محوّر الاتهام الرئيسي، على أساس أن الاصلاحيين المعتقلين
قد غرروا بآخرين أو أجبروهم على التوقيع على عريضة تمسّ
(الوحدة الوطنية)!! حسب ما جاء في البيان الصادر من وزارة
الداخلية عقب اعتقال الرموز الاصلاحيين. ومن الملفت للانتباه
والمثير للسخرية في آن أن يغرق المحقق الذي يتحدث بلسان
فصيح عن وزير الداخلية في مسألة هي ليست محظورة حتى يتمادى
المحقق في الدخول في التفاصيل الفنية المتصّلة بها، وخصوصاً
وأن ليس هناك من اشتكى بصورة رسمية الى الجهات القضائية
حول نشر إسمه بدون موافقته، فهذه قضية كان يجب أن تأخذ
مجراها الطبيعي والقانوني. إن إثارة هذه النقطة في التحقيق
يدل على الذراع الممتد لوزارة الداخلية وتدخلها السافر
في موضوعات ليست من اختصاصها في المقام الأول، بل على
العكس إن اثارة هذا الموضوع وكأنه من الصلاحيات المخوّلة
لوزارة الداخلية تكشف بصورة فاضحة ليس التداخل بين السلطات
بل هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين الأخريين التشريعية
والقضائية.
حين ينغمس المحقق في التفاصيل الفنية التي رافقت عملية
كتابة العرائض وحشد التأييد لها والدعوة للتوقيع عليها
وصولاً الى رفعها الى الجهات المعنية وبخاصة ولي العهد
وكبار الأمراء، يحال الموضوع كله الى المجال الأمني، وحينئذ
يصبح الحديث عن من وقّع ومن إنسحب قضية غير قانونية بل
أمنية بالدرجة الأولى، ولذلك يصبح التوقيع على عريضة تهمة
بحد ذاتها، وبالتالي فإن جميع الموقّعين على العرائض الصادرة
ليس منذ يناير العام الماضي بل وعلى امتداد تاريخ الدولة
السعودية هم من الناحية الأمنية متهمون ويجب اعتقالهم،
لأنهم يقتفون ذات الخطوات ويرفعون ذات النوعية من المطالب،
أي المطالب المتصلة بقضايا أخفقت الدولة في تحقيقها أو
تعارض تنجيزها لتقصير فيها أو لاستئثارها وفسادها.
من القضايا المثيرة للجدل والتي أتى عليها التحقيق
وكان يهدف من ورائها تثبت تهمة ضد الاصلاحيين هي الدعوة
الى إيجاد دستور مكتوب واضح ومحدد المعالم للبلاد. فقد
جاء الاحتجاج على المطالبة بالدستور بطريقة ملفتة ومستغربة،
حيث عدّ المحقق الامني بأن النظام الاساسي للحكم هو المكافىء
القانوني للدستور، مستعيراً من مواده ما يحسبه دليلاً
داعماً لدعواه، أي على أساس أن المادة الاولى من النظام
الاساسي للحكم نصّت على (أن دستور البلاد هو كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم). ولكن ما جهله المحقق
أن كلمة دستور مفرّغة المعنى الحقيقي ولا تحمل ذات الدلالة
لكلمة دستور بالمعنى المشاع والمستعمل في دول العالم،
كيف وأن الدولة والمؤسسة الدينية ترفضان بالقطع استعمال
الدستور، بما هو قانون وضعي بشري بحسب رأيها، وانما عنت
بكلمة دستور المرجعية، أي أن القرآن الكريم وسنة الرسول
(صلى الله عليه وسلم) هما المرجعية لكافة قوانين وأنظمة
الدولة. وأن إحجام العائلة المالكة عن استعمال لفظة دستور
كان للحيلولة دون الوقوع في مطب الشرعية الدينية، أو ضحالة
المضمون الحقوقي والقانوني بالمقارنة مع الدساتير العالمية
ولذلك اختارت الدولة مسمى مطاطاً مبهماً مثل النظام الاساسي
الذي يعفيها من المسؤولية والمحاسبة، ثم أضفت غطاءً دينياً
على هذا المسمى كيما تحصّن نفسها أمام العالم والقوى السياسية
المحلية التي تطالب بتوزيع عادل للسلطة والثروة، ووضع
نظام للشفافية والمحاسبة، وتقليص صلاحيات الملك، وفتح
المجال السياسي كيما يستوعب أكبر عدد من ممثلي المجتمع،
وتحقيق درجة فعّالة من الاندماج السياسي والاقتصادي والثقافي.
لاريب أن الاعتراض على مطلب الدستور تنقصه الخلفية
القانونية، والوعي الدستوري لأن ما أعلن عنه في مارس 1992
لم يكن دستوراً البته، بل كان هناك إرادة عليا وجماعية
داخل العائلة المالكة على عدم إسباغ صفة دستور على المواد
المعلن عنها بل الاصرار كان على أن تبقى تحت مسمى (النظام
الاساسي).
الى جانب ذلك، أن الدساتير المعمول بها في الدول الحديثة
والديمقراطية بخاصة تشدد على مجالين: الحقوق والواجبات،
أي حقوق المواطن وواجباته، من أجل ارساء العدل والمساواة
والحرية، كما يتضمن شرحاً لآلية الحكم وتداول السلطة أمداً
وحدّاً. إن ما ذكره النظام الاساسي كان أشبه ما يكون ترسيماً
وتشريعاً قانونياً للنظام الشمولي في السعودية كما تخبر
بذلك الصلاحيات المطلقة والواسعة والمتعددة للملك، فيما
تبقي على حقوق المواطن على محدوديتها غامضة وعرضة للتأويلات
المتضاربة.
في تواصل مع مسلسل التحقيق، ثمة محاولة لاستدراج الاصلاحيين
المعتقلين الى المنطقة التي تعتقد الحكومة بأنها قادرة
فيها على اصطياد فريستها وإثخان خصمها، وهي الشريعة. فكلما
أرادت الحكومة اسكات الاصوات المطالبة بالاصلاح قالت لهم
بأن خصوصيتا الدينية تملي علينا الامتثال لطريقة محددة
في الاصلاح، وكلما سمعت بمطلب تطوير النظم والتشريعات
قالت بأننا نحتكم الى الشريعة الاسلامية، وكلما واجهت
ضعوطات من أجل وضع نظام دستوري يكفل حقوق المواطنين ويسمح
بنمو نظام تمثيلي واسع، قالت بأن لنا نظامنا الخاص الذي
يعتمد على أحكام الشريعة الاسلامية.
إن هذه اللغة المدقعة الرامية الى الاستغلال البشع
للدين تؤول في نهاية المطاف الى تهرئة الخطاب الديني الرسمي
وتهزيله. إن محاولة المحقق الامني فبركة تهمة واعدادها
من قبيل غرس الاعتقاد بأن الاصلاحيين المعتقلين يدعون
الى علمنة الدولة، أو أنهم يشككون في تطبيق الدولة للشريعة
الاسلامية. إن كلا التهمتين تقع خارج حدود التحقيق وإمكانياته،
لأن التثبّت من تطبيق الدولة لأحكام الشريعة يفترض احاطة
جهة التحقيق الشامل بمجمل السجل القانوني والمدونات التشريعية
في البلاد بحيث تعرف هذه الجهة سلفاً الاساس القانوني
لكل تهمة توجهها ولكل موقف تتخذه. أما القول بأن الدولة
تطبّق الشريعة الاسلامية فهذا قول مثير للخلاف والجدل
الواسع، فليس هو بالقول الحائز على اجماع وطني وديني،
بل هناك دراسات قانونية وتشريعية تحدثت عن مخالفات صريحة
لنصوص دينية ثابتة وردت في النظام التشريعي السعودي، ليس
من بينها النظام المالي فحسب بل هناك القوانين التجارية
والقضائية وغيرها. من جهة ثانية، إن الاعتقاد بعدم تطبيق
الدولة لأحكام الشريعة الاسلامية لا يشكل بحد ذاته تهمة
يعاقب عليها القانون، تماماً كما ان الاعتقاد بعدم ديمقراطية
الدولة لا يعرّض معتنقه للسجن والتحقيق.
ولكن لأن المحقق يهمه حشد أدلة الادانة وليس استجلاء
الحقيقة والوصول اليها، فإنه يلجأ الى استعمال أقصى ما
لديه من تقنيات التحقيق من أجل الحصول على أقصى الاعترافات
وتالياً تنفيذ أقصى العقوبات. ولذلك، لا يبدو مستغرباً
حين تطرح مسائل من قبيل التشكيك في تطبيق الدولة للشريعة
الاسلامية أو أن الحكم فيها غير اسلامي، أو ان المُحَقَق
معه يدعو الى قلب نظام الحكم وإقامة حكومة إسلامية أو
علمانية، وهكذا الروابط مع جهات أجنبية معادية للمملكة
وحكومتها الى باقي القائمة الواردة في الاسطوانة الأمنية
المشروخة.
من المثير للسخرية أيضاً أن يثير المحقق سؤالاً حول
قضية يدرك تماماً كل تفاصيلها، مثل الاجتماع الذي عقد
في فندق الفهد كراون في 5/1/1415هـ، وهو اجتماع مفتوح
وكانت الاجهزة الأمنية تعلم بانعقاده قبل موعده حتى أنها
اتصلت في أحد المشاركين فيه وطلبت منه أن يبلغ زملاءه
بفض الاجتماع والا فإن أجهزة الامن ستتدخل للقيام بهذه
المهمة. أما لماذا يطرح السؤال، مع احتفاظ هذه الأجهزة
بكافة تفصيلات الاجتماع والموضوعات التي دارت فيه، وهناك
من حضر في هذا الاجتماع ممثلاً عن وزارة الداخلية، فهو
الاسلوب الأمني التقليدي الذي يهدف الى تثبت التهمة وتوجيه
الادانة وبالتالي امتلاك ورقة العقاب التي تجبر المعتقل
على الانصياع لاملاءات الجهات الأمنية مثل كتابة تعهد،
أو الحكم بالسجن عليه لسنوات طويلة.
ولعل من أغرب الاسئلة وأكثرها إثارة للازدراء هي التي
كانت تدور حول علاقة الاصلاحيين بجماعات العنف وظاهرة
الارهاب في البلاد. نعم، إن ثمة علاقة واحدة بينهم وهي
ثابتة فحسب في منظار وزارة الداخلية وفي العقاب الذي تفرضه.
وقد ذكرنا سابقاً على صفحات هذه المجلة بأن الداخلية والعائلة
المالكة بصورة عامة لا تفرّق بين من يدعوها للاصلاح وبين
من يحمل السلاح في وجهها، فكلا الطائفتين سواء من وجهة
نظرها، أي أنهما مصنّفتان في خانة الاعداء والخصوم والمنافسين
على سلطان العائلة المالكة.
أما الربط الميداني والعملي فهذا الجانب المفتعل والساخر
ولكنه في الوقت نفسه ليس مستبعداً وخصوصاً على وزارة اعتادت
ان ترى في كل قاطني هذا البلد مشبوهين محتملين قبل أن
يثبت العكس. إن ما فهمه المحقق وهو انعكاس لفهم وزارة
الداخلية والقائمين عليها من محتويات العرائض الاصلاحية
الوطنية سيما الدعوة الى أن المدخل الصحيح لمواجهة واحباط
موجة العنف يتم عن طريق تبني برنامج اصلاحي شامل وجوهري،
هي دعوة حسب فهم وزارة الداخلية تحرّض على العنف. وإذا
كانت باقي محتويات العرائض تُفهم بهذه الطريقة فلا بد
أن تستعين القيادة السياسية بمترجمين بنغاليين كيما يشرحوا
لغة الضاد لوزارة الداخلية.
|