الإصلاحات ستشهد مزيداً من التأجيل
الحياة تدبّ مجدداً في الدولة الريعية السعودية
بارتفاع أسعار النفط الى مستويات غير مسبوقة، قاربت
الـ 45 دولاراً في الأسواق الأميركية، تحصلت الحكومة السعودية
على مزيد من الموارد التي منحتها فرصة حلحلة القضايا الإقتصادية
المتأزمة كالبطالة والفقر وسوء الخدمات الصحية والإجتماعية
الأخرى.. والتي جاء منها أو بسببها جزء كبير من السخط
الشعبي العام، وتحوّل المواطنين الى غرماء سياسيين للعائلة
المالكة.
تدهور الأحوال الإقتصادية قاد البلاد الى المزيد من
الأزمات السياسية، وفتح الباب أمام إمكانية الإصلاح السياسي
كطريق أساس لحل المعضل الإقتصادي الذي بات يشكل قلقاً
بالغاً لدى أكثرية المواطنين. وقد وجدت الحكومة السعودية
نفسها أمام ضغوط شعبية كبيرة لتصلح أداءها وتحسّن من الأحوال
المعيشية للأكثرية الضائعة في زحمة الإخفاقات الحكومية
متعددة المسارات.
ارتفاع أسعار النفط، هل يحل الأزمة الإقتصادية؟
|
الطاقم الحاكم من الأمراء لم يكن مهيئاً ـ ولازال ـ
لتقديم تنازلات سياسية تزيد من حجم المشاركة السياسية
الشعبية. وإذ فوجئ الطاقم الحاكم بحجم السخط الشعبي إزاء
الأحوال الإقتصادية المتردية، وبانعكاساتها السلبية على
شكل تصاعد الجريمة وتفجّر العنف وتفشّي التطرف الديني
الوهابي، فإن الأمراء قد اكتشفوا بأن التنازل الذي يستطيعونه
لا يعدو الجوانب الإقتصادية، كما كانوا يفعلون من ذي قبل.
بيد أن تراجع أسعار النفط في الثمانينات الميلادية
من القرن الماضي، وتصاعد عدد السكان بنسب مخيفة (قيل أنها
تصل الى 8% سنوياً، وهي الأعلى في العالم كلّه) فاقم الأزمة
حتى مع عودة أسعار النفط الى الإنتعاش من جديد.
الفلسفة الحكومية قائمة على أساس لا يخلو من وجاهة
وصحّة. ومفادها أن الدولة السعودية بمجملها ستكون في مأمن
إذا ما توفرت المداخيل النفطية المناسبة، وعادت الدولة
الى وضعها القديم، كدولة ريعية، تنفق وتسترضي الجمهور
بالخدمات والأموال. فالدولة الريعية السعودية، شأنها شأن
كل الدول الريعية في التاريخ، توفّرت لها مداخيل ضخمة
لم تتأتّى من الضرائب، ولكنها ـ خلاف نظيراتها ـ لم تحسن
استخدامها إلا بشكل محدود، فكان أن تفجرت الأزمات، وتعوّقت
خطط الدولة، وصارت أجهزتها غير قادرة على توفير مقعد الدراسة
المناسب حتى لطلاب الإبتدائية، فضلاً عن الجامعة، ووصلت
نسبة البطالة الى 30%، فيما لم تعترف الحكومة إلا بنسبة
9% وهي على كل حال نسبة مرتفعة في بلد يضم سبعة ملايين
عامل أجنبي ويستقدم سنوياً نحو نصف مليون عامل جديد!
الموارد التي أُتيحت للدولة السعودية كانت في فترة
السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، عنصر الأمان من التحولات
السياسية، ومن الإصلاحات السياسية. وقد لعبت الدولة الريعية
دوراً كبيراً في تأجيل الإصلاحات السياسية، وصارت الإصلاحات
بالنسبة للبعض مجرد ترف زائد عن الحاجة، وأعمت عيون المواطنين
والمسؤولين على السواء عن مواطن التقصير والقصور المميتة
في استراتيجياتها. ولهذا، تفاجأ المواطن بأنه لا يمتلك
داراً ولا لأطفاله مستشفى، ولا مقعداً للدراسة، ولا عملاً
أو وظيفة لا في القطاع العام ولا الخاص. تفاجأ الجميع
بعد زوال فقاعات الطفرة النفطية في السبعينيات، أن مخلفات
الدولة الريعية كان مجرد أجهزة عاجزة مشلولة وفاسدة حتى
النخاع، وأن إصلاحها يحتاج الى عمليات قيصرية كي يخرج
المواطن والدولة معاً من محنتهما.
انطلقت الألسن تنتقد، بعد طول تكميم، وطالت الإنتقادات
رموز الحكم الذين كانوا بمنأى عن النقد يوم كان الحال
غير الحال.. وصارت تهمة الفساد واللصوصية ملاصقة لكل أمير
وأميرة. لم تكن العصا كافية لإغلاق الأفواه، ولم تعد الأجيال
الجديدة التي ولدت أو ترعرعت في عصر ما بعد الطفرة تخشى
العقوبات السياسية، إذ لم يعد لديها مستقبل ولا حاضر تخسره.
لم تأتِ محاولات الإصلاح الإقتصادي الا متأخرة، ولكنها
كلها عادت بالفشل المريع. إذ تبّين أن مداخيل النفط حتى
مع ازديادها، بالكاد تكفي مصاريف الدولة وموظفيها، دون
مشاريع جديدة، أو مؤسسات قادرة على انتشال الوضع من الحطام.
وتبين أيضاً أن جهاز الدولة الذي يراد منه النهوض، غارق
حتى أُذنيه في أوحال الفساد والبيروقراطية وبالتالي لا
يمكن الإعتماد عليه في النهوض، بل هو غير قادر أن ينهض
من تلقاء نفسه بدون محفزات خارجية وضغوط شعبية، وهذه لا
تأتي إلا من خلال هامش الحريات والمشاركة الشعبية في صنع
القرارات وقيام نظام للمحاسبة يكاد يكون غائباً عن أجهزة
الدولة جميعها.
بارتفاع اسعار النفط من جديد الى مستويات غير مسبوقة،
تدبّ الحياة في أوصال الدولة الريعية، ولكنها نصف استيقاظة،
فالأموال قد تذهب كما ذهب غيرها، إن لم يجرِ التحكّم بها
ومنع نهبها، وإن لم توضع الخطط بعيدة المدى لتلبية حاجات
المواطنين في العقود القادمة، قبل أن تأتي شرارة أخرى
تعيد أسعار النفط الى وضعه المتدني. في الوقت الحالي،
تنفتح شهية الكثير من الأمراء والسماسرة لنهب مداخيل النفط،
فالرجال هم الرجال، والعقول لم تتغير، والضوابط تكاد تكون
معدومة، والمحاسبة غائبة، والبلاد وخيراتها مجرد مزرعة
للأمراء وحاشياتهم. وهذا ما يجعل الآمال بإصلاح الوضع
الإقتصادي مشكوكاً فيها.
حين أسس ولي العهد المجلس الإقتصادي الأعلى، ضاع في
زحمة ومتاهات البيروقراطية وتعديات الأمراء. وانتهت مشاريع
مكافحة الفقر.. وفي كل الأحوال لم تكن أزمة السعودية أزمة
وفرة مالية بقدر ما هي أزمة ضوابط وأخلاق. فالمال في كل
السنين الماضية كان كافياً لو تم ترشيد الإنفاق ومنع السرقات
الكبيرة التي تأتي من الأمراء الكبار قبل الصغار.
من المرجح أن تكون هناك فقاعات انتعاش اقتصادي بسبب
ضخ الحكومة المال في السوق، ولكنها فقاعات ستتلاشى دون
ان تحل جذور المشكلات.. والى أن يتبين ذلك فمن المرجح
أن فقاعات الإنتعاش التي يسببها ارتفاع أسعار النفط ستضلل
الكثيرين، وستقعد مجاميع من الجمهور عن المطالبة بالتغيير
السياسي، هذا في حال نجحت الحكومة ـ ولو مؤقتاً ـ في إحداث
تلك الفقاعات التي نتحدث عنها، مثل استحداث بعض الوظائف،
وتحسين وضع الخدمات العامة.
العنف الذي تصاعد في المملكة، وزيادة المداخيل النفطية،
وفرا فرصاً سياسية واقتصادية للخروج من الأزمات بدون تقديم
تنازلات سياسية، أي بدون اللجوء الى الإصلاحات السياسية
وتوسيع المشاركة الشعبية في السلطة. وفي كلتا الحالتين،
فإن الحكومة قد تسيء التصرف، بل من المرجح أنها ستسيء
التصرف، وتعتبر ما تحقق انتصاراً استراتيجياً، ولكنه في
الحقيقة تكتيكي ومرهون بظروف متقلبة اقتصادية وسياسية.
تستطيع العائلة المالكة أن تؤجل الإصلاحات ولكنها لن تستطيع
أن تلغيها الى الأبد، فهذا مخالف للفطرة البشرية، ومخالف
لسنن الكون.
وفي كل حالة هناك نقيض لها. فانتهاء العنف غير المرجح
بالحل الأمني وحده، واذا ما افترض حدوث ذلك، فإن مبررات
تأجيل الإصلاحات بحجة المواجهة مع الإرهاب تنتفي. والآن
فإن وفرة المداخيل النفطية تفرض على الحكومة تحديات صعبة،
فهي تعطي مبررات للجمهور بأن الدولة فاشلة وقياداتها فاسدة
في حال لم تحقق هذه المداخيل تغييرات على الأرض، تحسن
أوضاع الملايين من المواطنين السعوديين، العاطلين عن العمل
والفقراء والمرضى.
ومع افتراض النجاح الباهر لأداء الدولة الإقتصادي،
فإن ميكانزم الدولة الريعية، يفضي الى تحولات لا يدركها
كثير من الأمراء، وهي أن الدولة الريعية في مبتداها قد
تعطل التنمية السياسية والتغيير السياسي، ولكنها في نهايتها
تدفع بالتغيير السياسي، نظراً لنشوء طبقات متعلّمة، ومطامح
جديدة للطبقة الوسطى التي تتوسع وتنمو معها تطلعاتها السياسية.
ولقد مضى على الدولة الريعية نحو ثلاثة عقود، انتهت حقبتها
ـ بالنسبة لبعض المحللين ـ بمعنى أنه لا وجود لدولة ريعية،
أو أن عصرها في السعودية قد شارف على النهاية، وأن الحقن
الجديدة من المداخيل النفطية هي ظاهرة مؤقتة لا تلغي حقيقة
انتهائها، أو الإقتراب الأخير من نهايتها.
|