قراءة في مسيرة المطالب الإصلاحية في المملكة (2001-
2004م)
تخطئ الحكومات، ومن منظور أمني بحت، حين تتعاطى بعنف
مع تجليات التعبير المطلبي السلمي، الذي تتوسل به الجماهير
والنخب المثقفة للتعبير عن آرائها. وذلك، لأن تشريع الحكومات
لأجهزتها الأمنية باستخدام أدوات القمع، تعمل من حيث تدري
أو لا تدري على تشريع العنف للجماهير، بل وأنها تدفعهم
إليه حين لا يبقى أمامهم باب للأمل سواه.
ولو أن هذه الحكومات وأجهزتها الأمنية قد أمعنت النظر
في رسائل المطالب السلمية لقرأت فيها ما يسكت النص عنه،
ألا وهو ما تضمره هذه الرسائل من انتماء وحب للوطن واعتراف
بشرعية الحكومات ذاتها. فالخطاب المطلبي ذو الصبغة العلنية
السلمية يستهدف إصلاح البيت من الداخل، ولا يضمر رسالة
(راديكالية) تسعى إلى إقامة نظام بديل، وإلا فإن منتجي
ذلك الخطاب سيعمدون إلى فاعلية العمل السري المنظم لحشد
المحازبين وإنتظار ساعة المواجهة.
وحين تغرق الحكومات في استخدام كافة وسائلها القمعية
لإسكات صوت المطالبة السلمية وتكميم أفواه ناشطيها، فإنها
تنشغل بالهامش الأمني المحدود عن النظر إلى البعد الاستراتيجي
الذي يتضمنه متن الخطاب المطلبي السلمي وهوامشه على السواء.
وأنها بذلك تركن إلى وهم أو استيهام المحافظة على الأمن
الاجتماعي والرضا الجماهيري الآنيين، وتغفل عن عمد أو
لقصر النظر، عن المخاطر البعيدة المدى المرافقة لعمليات
تحقيق ذلك الوهم، وتنسى أن تراكم الأزمات المعيشية، وتفشي
ظواهر الفساد والرشوة واستغلال المال العام، وتكميم الأفواه،
وغياب الحريات العامة والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار،
لا تجد في الزمن إلا عاملا مساعدا على تفاقمها بما يكفي
لسد باب الأمل، وتوتير الأوضاع، وإتاحة المجال للمشجعين
على رفع وتائر العنف والإرهاب، ودفع أصحاب المشاريع الراديكالية
لنيل مشروعية العمل على تغيير النظام ذاته.
إن المطالب السلمية التي يرفعها (دعاة المجتمع المدني
والإصلاح الدستوري) تنطلق من قراءة تحليلية لحاضر بلادنا،
ومن استشراف استراتيجي لمستقبلها، وترى أن الاستحقاقات
المتراكمة على صعيد الإصلاح السياسي، والأزمات الاقتصادية
والاجتماعية الخانقة، والتحديات الداخلية والخارجية التي
تهدد أمن الوطن ووحدته واستقراره، لا يمكن معالجتها بالحلول
الأمنية ولا باللعب على التأجيل، وإنما ينبغي مواجهتها
بكل شفافية وشجاعة، وتستدعي القيادة السياسية لاتخاذ المبادرة
الجريئة المرتقبة في مواجهة التحديات والبدء في عملية
الإصلاح السياسي الشامل التي تتصدى لمهام تشييد دولة القانون
والمؤسسات الدستورية.
وبطبيعة الحال فإن للإصلاح كلفته التي قد تكون مؤلمة
للقيادة والشعب أو لأحد منهما ولكن ضرورة البدء الفعلي
بتنفيذ مطالب الإصلاح واستحقاقاته، باتت في حكم الضرورة
التي لا مناص من الدخول عبر أبوابها، للتعاطي مع كل هذا
التراكم المعقد من الأزمات والذي ينذر – إن تباطأنا في
مواجهة متطلباته – بأعنف العواقب وأفدح التبعات.
لا تشهد بلادنا وحدها حراكا اجتماعياً مطلبياً، ولكنه
أصبح يشكل ظاهرة تسم مرحلة ما بعد انتهاء توازن القطبين،
بيد أنها تأخذ أهميتها بالنسبة لبلادنا كنتيجة (لخصوصية)
هبة الثروة النفطية ورمزية القداسة الدينية. وإذا كنا
سئمنا إفراغ مصطلح الخصوصية من محتواه حين يتم توظيفه
كذريعة لتكريس بقاء الأوضاع كما هي عليه، فإننا هنا سننظر
إلى الخصوصية من زاوية مغايرة، لتوضيح أنه وبسبب هذه الخصوصية
المعمرة ومن أجلها أيضاً، نحتاج لإجراء عمليات جراحية
أشد إيلاماً من غيرنا من الدول العربية، التي وضعت (الخصوصية)
كمرادف للقمع بحجة (أن لا صوت يعلو على صوت المعركة).
وقد نجح النظامان العربيان – صاحبا المشروع السياسي
الحداثي والمحافظ على السواء في توظيف هذين الصنمين لسنوات
طويلة، تم تبديد الثروة النفطية والقومية خلالها بدون
طائل، فيما تم تكريس مشروعية حرمان الشعوب من ممارسة حقوقها
في الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية البشرية. وقد
اكتشفنا معاً ـ حكاماً وشعوباً ـ بعد سنوات الخديعة والقمع
وتبديد الثروة، أن كلا الوجهين (المحافظ والحداثي) قد
فشل في تطبيق مفهوم (خصوصيته) وشعاراتها.
وحيث أن الحديث هنا يخص بلادنا وحسب، فسنقف أمام هذه
الخصوصية الدينية لنرى أنها قد قامت على العديد من المكونات
ذات الطابع المحافظ، والتي تشكلت من تحالف الديني المتشدد
مع السياسي الطامح إلى بناء دولة قوية تحت راية دينية
تعينه على القيام بمهام توحيد البلاد.
وقد لعبت البيئة الصحراوية القاسية والمعزولة دورها
الهام في تبني المتحالفين (الديني والسياسي) لقراءة فقهية
متشددة للدين وللأنظمة القيمية المرافقة لعادات وتقاليد
البيئات المحافظة، لتقوم بفرضها على بقية أرجاء الدولة
التي كانت تتميز بتعدد مذاهبها الفقهية، وبتنوع مكوناتها
الاجتماعية والثقافية، وانفتاحها وتعايشها مع الآخر مثل
مدن الحجاز، والأحساء والقطيف، وجازان.
وإذا كانت الظروف الموضوعية، قد استدعت توظيف قراءة
وحيدة متشددة للدين( في شقيه الشرعي والفقهي) لتوحيد القبائل
والحواضر المختلفة حول رؤية وحيدة (اسر) أحادية الخطاب
المذهبي المتشدد، ومن ربقة النظام القيمي الاجتماعي المحافظ،
إلى سعة تعددية المذاهب، والطوائف الدينية، والنظم الاجتماعية
والثقافية المتنوعة. إلا أنه، وباسم هذه(الخصوصية) تم
القضاء التدريجي على ذلك التعدد والتنوع المذهبي والثقافي
والاجتماعي والمدني، حيث تم تعطيل ما ورثته الحواضر المدنية
في الحجاز من مؤسسات سياسية ونقابية، وتم تغييب كافة مكونات
المجتمع عن المشاركة في التنمية السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وباسم هذه (الخصوصية) المبنية على أسلمة
السياسة والاجتماع، تم تكريس الطابع المحافظ والمتشدد
والإقصائي لمذهب فقهي وحيد بصيغته المتمترسة خلف (باب
سد الذرائع)، دون الأخذ بتأثير عوامل الزمان والمكان التي
كان الفقهاء المؤسسون للمذاهب المختلفة يأخذون بها.
وبالرغم من الحاجة التاريخية لقائد المشروع السياسي
الذي أنجز مفخرة الوحدة الوطنية لبلادنا، إلى عقيدة دينية
تسند طموحه في إقامة الدولة.إلا أن طابع ديكتاتورية الأيدولوجيا
الذي أحتكر الحقيقة والتأويل الديني، وأقصى ما عداه، قد
أسهم بشكل رئيسي في تنامي مشاعر الغبن لدى شرائح فقهية
وطائفية واجتماعية عديدة، وعمل على عرقلة تبلور الحس الوطني
ومشاعر الانتماء العميقة للوطن، ولكن الأخطر من ذلك يتمثل
في نتائج تبني السلطة السياسية لهذا التيار المتشدد ورعايتها
له، وإفساح المجال أمامه لاحتكار منابر الخطابة والإعلام
والمناهج وصياغة المحتوى الاجتماعي والثقافي والأيدلوجي
لعقول أبناء الوطن خلال رحلته الطويلة بل ومساندتها له
في حربه القاسية ضد كافة المذاهب الفقهية والطائفية، والثقافية
الأخرى.
وقد نجم عن ذلك ما تشهده بلادنا اليوم من نتائج ما
زرعناه طوال العقود الماضية من تديين قسري لكافة مظاهر
الحياة، ولنجني ثمرات التكفير والتبديع والتطرف والإرهاب
الذي عم الوطن من أدناه إلى أقصاه.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن بلادنا – في غياب
الاستراتيجية السياسية المتوازنة – قد فشلت في توظيف أهم
مقومين من مقوماتها، وهما: الثروة النفطية، والموقع الديني.
ويمكن القول بأنها قد أسرفت في توظيف الدين داخليا وخارجيا
للتغطية على كافة الاختلالات البنيوية التي نجم عنها العديد
من الأزمات التي تعيشها بلادنا، ومنها العجز عن الاستفادة
من الثروات النفطية الهائلة لوضع أسس التنمية البشرية
والاقتصادية المستدامة.
أما في جانب التوظيف الديني والموقع المقدس، فلم تستطع
قراءة المعنى الواقعي والرمزي لكون بلادنا مهبطا للوحي
وأرضا للحرمين الشريفين، ولم تلاحظ دلالة ما تنطوي عليه
مظاهر وفود حجاج بيت الله الحرام وزواره من تعدد وتنوع
واختلاف مذهبي وطائفي، لا يمكن التعبير عنه إلا باحترام
مكونات ذلك التعدد، وتعميق الإفادة منه في مختلف مجالات
الحياة، وتعميمه، للتدليل على تسامح (الخصوصية) وليس على
انغلاقها الذي عمل على الاستسلام لكوارث رؤية مذهبية أحادية
ومتطرفة.
لا ينبغي النظر إلى توقيت مبادرات الخطابات والبيانات
المطلبية إلى القيادة السياسية على أنه ضرب من انتهازية
نخبوية تستغل الظروف والتحديات الداخلية أو الخارجية التي
تواجهها البلاد أو تجابهها القيادة، وإنما يجب أن تتم
قراءتها ضمن شروطها المتشابكة، التي تطال بتأثيراتها وحدة
الوطن واستقلاله وسيادة قراره وحاضره ومستقبله والتي ينبغي
أن تشارك فيها كل الخبرات المتراكمة للفعاليات السياسية
والثقافية
المختلفة،وضمن هذه القراءة كان ينظر المهتمون بالشأن
العام، من المثقفين، والأكاديميين والكتاب والشخصيات الوطنية
من الرجال والنساء، إلى اعتبار تلك التحديات المتشعبة
مخاطر لا تستهدف القيادة السياسية وحدها، وإنما تمس الوطن
والمواطنين بنفس الدرجة، لأن ما سيتولد من رحم تلك اللحظات
المفصلية من خيارات قسرية سينال من الجميع، وسيفرض عليهم
تقاسم نتائجة المرة على حد سواء.
وقد تميز مثقفو الحجاز – المتحدرين من بيئات مدينية
ذات إرث ثقافي وسياسي عريق – بتقديم مبادراتهم الهامة
في اللحظات العصيبة، حيث يحفظ لهم التاريخ مبادرتهم التي
قام بها أحرار الحجاز وأعضاء الحزب الدستوري في العهد
الهاشمي، إذ تقدموا – خلال زحف جيش الملك عبدا لعزيز على
مكة المكرمة – بمطالبة الملك حسين بالتنازل عن العرش لابنه
علي، شريطة إقامة نظام ملكي دستوري، مقيد بدستور ومجلس
نيابي منتخب من المواطنين يشرف على شؤون البلاد الداخلية
والخارجية، ومن مجلس آخر لعموم المسلمين.
كما أنهم بادروا، في بداية حكم الملك عبدا لعزيز للحجاز،
وعقب القضاء على حركة ابن رفادة، إلى الإعلان عن تأكيد
التفافهم حول الكيان الجديد، وأبرقوا للملك عبدا لعزيز
بذلك مقترحين تسمية هذا الكيان باسم (المملكة العربية
السعودية). وقد استجاب لهم جلا لته وأطلق التسمية المقترحة
إيذانا بتوحيد البلاد ورفع راية الوطن الكبير بتاريخ 21
جمادى الأولى 1351هـ الموافق 1932م.
وقد استمر مثقفو الحجاز عبر صحفهم وكتاباتهم في بث
الوعي واستنهاض همم الأمة، والمطالبة بتطوير مؤسسات الدولة
التعليمية والصحية والإدارية.
وحين يتسع فضاء الحرية، فإن أساليب المطالبة السلمية
الساعية إلى استكمال مقومات النهضة تتبلور عبر برامج إصلاحية
تساند عمل الأجهزة الحكومية وتغني مساراتها.
وقد امتدت نسمات حرية التعبير من جدة ومكة إلى الرياض
والقصيم، وإلى الدمام والخبر، وانتشرت الصحافة (في عهد
الأفراد)، وانبرت الأقلام النيّرة أفراداً وجماعات في
لعب دور السلطة الرابعة.
ومن أبرز ما حفلت به مطالبات فترة الخمسينيات والستينيات
الميلادية، التوسع في نشر التعليم، والمطالبة بتعليم المرأة،
ورفع حصة الدولة من دخل البترول الذي احتكرته الشركات
الأمريكية، وإغلاق القواعد العسكرية الأمريكية، وبناء
جيش وطني قوي قادر على حماية البلاد، وتحسين أوضاع العمال
السعوديين العاملين في أرامكو وإتاحة المجال لهم للتدريب
والتطوير.
وقد أسهمت تلك الآراء والمطالب في انتشار التعليم،
وفي قيام عمال ارامكو السعوديين بإضرابات سلمية طويلة،
اضطرت معها أرامكو إلى الاستجابة لمطالبهم العادلة. ولعل
من أبرز ثمرات تلك الحركة المطلبية والنقابية – التي ضربتها
الحكومة بشدة – ما نراه اليوم من تحقق أفضل نماذج التدريب
والسعودة في بلادنا، حيث تدار أكبر أمبراطورية لإنتاج
النفط في العالم (أرامكو السعودية) بأيادي أبناء الوطن،
من أعلى كرسي إداري وتقني إلى أقل وظيفة.
وقد أدت مفاعيل تلك المطالبات العلنية والسلمية في
الخمسينيات إلى تبلور أول مشروع جذري للإصلاح السياسي
في المملكة، يقوم على وضع دستور دائم للبلاد يتضمن المشاركة
الشعبية في اتخاذ القرار، وصياغة نظام للحكم، وكذلك بحث
إمكانية الاستغناء عن القواعد العسكرية الأمريكية في بلادنا.
وقد اختمرت الظروف المناسبة لتنفيذ ذلك المشروع في فترة
تولي الوزارة الوطنية لمهامها برئاسة الأمير طلال بن عبدا
لعزيز، وفي عهد الملك سعود في أوائل الستينيات، ولكن الصراعات
داخل العائلة المالكة قضت على ذلك الحلم في مهده. تلك
هي مخرجات الحرية، أما مخرجات القمع فقد عبرت عنها ما
اتخذته الحكومة من إجراءات لاعتقال قيادات الحركة العمالية،
وجبهة الإصلاح الوطني، ودعاة تعليم المرأة مثل عبد الرحمن
البهيجان والشهيد محمد ربيع وعبدا لكريم الجهيمان، وسيد
علي العوامي،وعبد العزيز السنيد واضطرت شخصيات الحراك
المطلبي السلمي، أمام انسداد الأفق، إلى الانتقال إلى
العمل السري، كما خسرت البلاد جهود كوكبة إصلاحية مستنيرة
من أبناء الأسرة المالكة الذين دفعهم اليأس من إصلاح الأوضاع
إلى مغادرة المملكة إلى القاهرة وبيروت حيث عرفوا بعد
ذلك باسم (حركة الأمراء الأحرار) وكان على رأسهم الأمير
طلال بن عبد العزيز.
ومع الأسف، فإن طبيعة هذه السيرة السريعة للمطالب الإصلاحية،
لن تسمح لنا بالتوسع في التطرق إلى دور الحركات الوطنية
السرية (التي شملت طيفاً واسعاً من التيارات الثقافية
والفكرية والدينية تشمل الناصريين، والبعثيين، والقومين،
واليساريين والإسلامويين)، وما قدمته من شهداء وتضحيات،
وما تبنته من مواقف وأسهمت به من تحليلات وقراءات نقدية
لمظاهر القمع والتخلف، وما طرحته من برامج شاملة تمس الجوانب
السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية في بلادنا.
وقد اشتملت برامج معظم هذه التكوينات السياسية على ضرورة
وضع دستور دائم للبلاد، وكذلك على قيام المؤسسات الدستورية
والديمقراطية، والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وعلى
ضرورة كفالة حقوق المواطنين في الحرية وتطبيق نظام العدالة
الاجتماعية، والاهتمام بالفئات الفقيرة، والتوزيع العادل
للثروة، ومشروعية قيام المنظمات الجماهيرية والجمعيات
المهنية.
بيد أن القمع الذي طالها باستمرار، وغيب المئات من
كوادرها في المعتقلات والمنافي، قد أعاق تبلورها كحركة
جماهيرية واسعة وحرم البلاد من ثمرات خبرات وإخلاص كوادرها
الكبيرة.
واليوم... وحين نأتي إلى استعادة المثقفين والمهتمين
بالشأن العام، والشخصيات الوطنية لدورهم في التوسل بأساليب
المطالبة السلمية لتحقق الإصلاح السياسي، فإننا نصل إلى
مخاض (ربيع السعودية) الذي دشن لحظته التاريخية منذ أحداث
سبتمبر عام 2001م حين أصبح الوطن عرضة لمواجهة مصيره أمام
التحديات والأزمات الداخلية والخارجية الساعية إلى النيل
من وحدته وأمنه واستقراره حيث بلغت مؤشراته تهديد الوطن
من الداخل بحرب استنزاف إرهابية.
وقبل أن ندون سيرة الخطابات والبيانات المطلبية التي
أعقبت أحداث سبتمبر، يجدر بنا استعادة جنين هذا الحراك
المطلبي، والذي حملت به أحداث احتلال النظام العراقي للكويت
عام 90م، ونجم عنه تدفق مئات الآلاف من القوات الأمريكية
إلى المملكة في نهاية ذلك العام. وحين غدا الوطن مهدداً
من عدة جهات وبأكثر من أسلوب، فانه لا يبقى أمام عشاق
الوطن سوى تلمس جذور المشكلات والمبادرة إلى الإسهام بتقديم
المقترحات والحلول.
وقد أتضح بأن أبرز ما طرحته أزمة احتلال الكويت، وتداعياتها
يكمن في المرض العضال الذي أصاب الحكومات العربية التقليدية
والحديثة على السواء، والمتمثل في ديكتاتورية التفرد بالقرار
كنتيجة لتغييب المشاركة الشعبية في صناعة القرار المؤسساتي
في كل من العراق والمملكة معاً.
ونتيجة لكل تلك التداعيات والإشكالات الملازمة لبنية
هذه الأنظمة، بادر عدد من مثقفي المنطقة الغربية، ومنهم
احمد صلاح جمجوم، ومحمد سعيد طيب، والدكتور عبدالله مناع،
والدكتور محمد عبده يماني وآخرون معهم إلى صياغة خطاب
مفتوح إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، يطالبون فيه
بضرورة تشكيل مجلس شورى بالانتخاب، ووضع نظام للحكم يجنب
البلاد مخاطر تعدد مراكز القوى والخلافات الناجمة عنه
داخل العائلة المالكة، إضافة إلى المطالبة بالانفتاح على
المذاهب الفقهية الأربعة، وفتح باب الاجتهاد للتعاطي مع
مستجدات العصر وتحدياته.
كما تضمن الخطاب، المطالبة بضمان حرية التعبير وحرية
الصحافة ومواجهة الإشكالات المتفاقمة في المجالات الاقتصادية
والتعليمية والاجتماعية.
وقد شارك في الصياغة والتوقيع على هذا الخطاب نخبة
من الكتاب والمثقفين والشخصيات الوطنية في كل من المنطقتين
الوسطى والشرقية، مثل فهد العريفي والدكتور المديهيم،
وصالح الصالح، والدكتور راشد المبارك، ومحمد العلي، وإسحاق
الشيخ يعقوب، علي الدميني و نجيب الخنيزي وآخرون.
ومنذ الستينيات، يعتبر ذلك الخطاب خطوة تأسيسية وهامة
على صعيد بلورة العمل المطلبي السلمي في بلادنا، كما أنه
ضم ولأول مرة تنوعاً في الشخصيات الموقعة عليه تعبيراً
عن تنوع ألوان الطيف الثقافي والديني والمناطقي في المملكة،
وقد جرى تداوله بشكل محدود حرصا على وصوله إلى المقام
السامي.
وضمن حرص القائمين على فكرة الخطاب بأن يكون تعبيراً
رمزياً للإجماع الوطني، فقد تم عرضه على بعض الشخصيات
التي تمثل الصحوة الإسلامية في الرياض، مثل الدكتور أحمد
التويجري. لكنهم لم يتجاوبوا مع الدعوة للمشاركة في التوقيع
عليه و أبلغوا محاوريهم بأنهم سوف يعدون خطاباً يعبر عن
مشروعهم الخاص بهم. وبعد ذلك أقفل باب التوقيعات على الخطاب،
وتم تحديد أسماء الوفد الذي سيقدمه إلى خادم الحرمين،
غير أن الأجهزة الرسمية (إمارات المناطق، والمباحث) استدعت
عدداً من الموقعين عليه من كل المناطق، وأبلغتهم أن الرسالة
وصلت، وطلبت منهم عدم نشره أو تقديمه إلى المقام السامي.
ويبدو أن فكرة تقديم خطاب جماعي إلى المقام السامي
قد حفزت رموز الصحوة الإسلامية للتنادي لصياغة (مذكرة
النصيحة) الشهيرة والتي تحلى القائمون على إعدادها بالشجاعة
الكافية لنشرها في وسائل الإعلام الخارجية بعد أن تم رفض
استلامها من قبل الديوان الملكي.
وبالرغم من عدم ارتياح التيار الليبرالي والإسلامي
المستنير لهذه المذكرة لأنها لم تعرض عليهم أولاً، ثم
لأن برنامجها المطلبي ينطوي في كثير من منطلقاته واستهدافاته
على ترسيخ الأنموذج الديكتاتوري للدولة الدينية وأنظمتها
شديدة المحافظة والانعزال، إلا أن كل تلك الملاحظات لم
تحجب وهج التعاطف مع الخطوة الجريئة التي أقدموا عليها
بنشرها في الخارج، كما أن مشاعر التقدير والتضامن معهم
قد ارتفعت في أوساط الليبراليين جراء ما نال بعض كوادر
الصحوة من عقوبات، كالإحالة على التقاعد، أو الفصل من
العمل، أو المنع من السفر.
أما الخطوة الجريئة الثالثة في سياق الحراك المطلبي،
فقد تمثلت في إعلان تشكيل (لجنة حقوق الإنسان الشرعية)
في المملكة في مايو عام 1993م وقد ضمت قائمة المؤسسين
كلا من الشيخ عبدالله بن جبرين والشيخ عبدالله المسعري
والدكتور عبدالله الحامد والدكتورعبد الله محمد التويجري
والدكتور حمد الصليفيح والشيخ سليمان الرشودي وقد سوغت
اللجنة مشروعية عملها باعتباره من وظائف الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.ولكن آليات المساومة والقمع طالت عدداً
من مؤسسيها وأعضائها، وتم اعتقال البعض منهم مثل الدكتور
عبدالله الحامد، والدكتور محمد المسعري، والدكتور سعد
الفقيه،والشيخ سليملن الرشودي، والدكتور محسن العواجي،والدكتور
أحمد التويجري وغيرهم.
وبذلك تم القضاء على اللجنة منذ يومها الأول. وبالرغم
من أن عدداً من لجان حقوق الإنسان المرتبطة بأنشطة التيارات
الوطنية قد مارست عملها منذ السبعينات، إلا أن الظروف
القاسية التي كانت تعمل فيها تلك اللجان وأحزابها قد استدعت
إبقاء أسماء أعضائها داخل المملكة سرياً. ومن أجل ذلك
فإنه يمكن القول، بأن إعلان تشكيل (لجنة حقوق الإنسان
الشرعية) بالمملكة يعد من أبرز الأنشطة التي حاولت تدشين
مشروعية عمل جمعيات المجتمع المدني، كما أنها أول مشروع
علني للجان حقوق الإنسان في بلادنا.
ومثلما عبَّرَت الحربان العالميتان عن انعطافات تاريخية
في مسار الحياة البشرية، فإن انهيار المعسكر الاشتراكي
وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م قد شكلتا معاً مناخاً
جديداً يتجاوز في مفاعيله أعتى المنعطفات التاريخية السابقة.
وقد نتج عنه تطورات واصطفا فات سياسية تمحورت في أبعادها
الآنية والمنظورة على تبلور الأحادية القطبية للتفرد بالهيمنة
على العالم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وقيامها
بتنفيذ بعض بنود أجندتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وقد مكنتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، من
استعراض مكامن قواها والمضي منفردةً في نقل ما أسمته بالحرب
الاستباقية على الإرهاب إلى مواقعه الأمامية في الشرق
الأوسط الكبير.
وفي ضوء هذه المعطيات، أصبح الوطن العربي وثرواته البترولية،
ومصائر شعوبه، وخرائط أوطانه مسرحاً مفتوحاً لاحتمالات
تنفيذ المخططات الأمريكية الآنية والاستراتيجية، ومن ثم
اتسع المجال أمام إسرائيل لممارسة أقسى أشكال العنف والإرهاب
ضد الشعب الفلسطيني، كما تفردت أمريكا باتخاذ قرار الحرب
ضد العراق.
أما فيما يتعلق بالمملكة، فإن رمزية الخصوصية السعودية
(الموقع الديني والموقع النفطي) قد أصبحت عرضة للمواجهة
مع الحليف التاريخي (أمريكا) نظراً لما تنطوي عليه الحاضنة
الدينية المتطرفة التي اختطفت العقيدة الإسلامية في بلادنا
المملكة من إمكانيات لتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة،
لا سيما وأن بلادنا – وبالذات في المنطقة الشرقية – تنام
على أكبر خزان احتياطي للبترول في العالم، ولذلك فقد بدأت
التلويح – بعد أحداث سبتمبر – بتفكيك كيان وطننا إلى دويلات
صغيرة.
وبأخذ هذه العوامل (التي صادفت تدشين دخول العالم إلى
الألفية الثالثة) بالاعتبار، فإن المخلصين من أبناء الوطن
رأوا أن وحدة الكيان وتمتين جبهته الداخلية هو المهمة
المركزية لكل المهتمين بالشأن العام، وأن المدخل الصحيح
القادر على تعزيز التلاحم والالتفاف حول القيادة السياسية
لابد أن يبدأ بالإصلاح السياسي الشامل.
وانطلاقاً من هذه القناعات فقد تبلورت حركة مطلبيه
ذات طابع سلمي، رأت أن بلادنا تجابه عدداً كبيراً من المخاطر،
منها: تعدد مراكز صنع القرار السياسي، البطالة، الإرهاب،
والتهديدات الخارجية، وقد انتضمت الحركة مختلف الشرائح
الاجتماعية والثقافية والمناطقية، وأسهم في هذا النشاط
المطلبي مثقفون ينتمون إلى التيار الإسلامي المستنير (بتشكيلاته
المذهبية السنية، والطائفية الشيعية والإسماعيلية)، ومثقفون
ينتمون إلى قطاعات واسعة من التيار الليبرالي الذي يضم
في إطاره كتاباً وأكاديميين ورجال أعمال، وشخصيات منحدرة
من تجربة الحركة الوطنية كما شاركت فيه فعاليات نسائية
من الأكاديميات والطبيبات، والكاتبات والمهتمات بالشأن
العام، (وينتمي بعضهن إلى تجربة (فبراير) عام 1991م حيث
شاركن في تظاهرة شجاعة لقيادة السيارات في شوارع الرياض
إعلاناً عن مطالبتهن بتشريع ذلك الحق. وقد تم قمعهن وفصلهن
من أعمالهن ومنعهن من السفر، وبلغ الحد إلى درجة التشهير
بهن والتشكيك من قبل المسئولين في عقائدهن الدينية. وقد
استندت رؤية الحراك الاجتماعي المطلبي إلى المنطلقات التالية:
1 ـ أهمية قيام دولة المؤسسات الدستورية
2 ـ ضرورة التصدي للأزمات المعيشية المتفاقمة للمواطنين
3 ـ خطورة غياب الحريات العامة ومكونات المجتمع المدني
4 ـ مخاطر استمرار انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق المرأة
وحقوق الأقليات المذهبية والطائفية
ويمكن التوقف أمام ذلك العدد الكبير من البيانات والخطابات
السلمية التي عبرت عن آراء المهتمين بالشأن العام المرتبط
بأوضاع بلادنا، وأيضا بالشأن القومي في محيطه العربي،
وسوف نقسمها بحسب مركزية موضوعاتها إلى ثلاثة أقسام.
أولا: البيانات المساندة للقضايا العربية والقومية:
حفرت القضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية،
موقعها العميق في وجدان وثقافة وضمير الشعوب العربية،
وما برحت المظالم التي تعرضت لها تعمر وجدان المواطن والمثقف
من مختلف المنحدرات الثقافية والمناطق في المملكة، وقد
عبر الشعب السعودي وفعالياته الوطنية عن هذا الحس المتجذر،
وقامت عدة مظاهرات في عام 2002م، تضامناً مع انتفاضة الشعب
الفلسطيني الثانية، في بعض مدن المنطقة الشرقية واعتقل
على اثرها عدد كبير من منظميها.
كما عبرت البيانات ذات الصلة بالتضامن القومي عن مساندتها
للشعب الفلسطيني في استمرار انتفاضته، وفي نضاله العادل
لنيل حقه في إقامة دولته المستقلة على ثرى وطنه وعاصمتها
القدس الشريف.
كما أعلنت بعض هذه البيانات عن تضامنها مع الشعب العراقي
واستنكارها للمخططات الأمريكية الرامية إلى احتلال وطنه
وإذلاله، وذلك من خلال :
أ ) بيان استنكار انتهاك شارون للمسجد الأقصى: وقد
صدر هذا البيان المعبر عن إدانة شارون والحكومة الإسرائيلية
لانتهاك حرمات المسجد الأقصى في أكتوبر عام 2000م، ونشرته
جريدة الحياة، ويمكن اعتباره أول بيان تضامني علني يصدر
عن المثقفين والوطنين السعوديين في داخل المملكة. وقد
وقعه عدد من الشخصيات الوطنية التاريخية، مثل عبدالكريم
الجهيمان وعبدالعزيز السنيد وإسحق الشيخ يعقوب وعبدالله
الفاران وصالح الصالح وحمد الحمدان ونجيب الخنيزي.
ب ) بيان تضامني مع انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية:
تم التوقيع على هذا البيان في مناسبة مرور أربعين يوماً
على وفاة الرمز الوطني الكبير المرحوم سيد علي العوامي،
الذي أمضى في المعتقلات أكثر من عشر سنوات مستمرة، لمشاركته
في الحركة الوطنية. وقد حضر المناسبة المقامة في القطيف
عدد كبير من المثقفين والكتاب والشخصيات الوطنية من مختلف
أرجاء الوطن، ودشن البيان جماعية التوقيع، حيث ناف عدد
الموقعين على 150 شخصاً.
ج ) بيان يستنكر الإعلان الأمريكي عن الحرب على العراق،
وتم توقيعه من قبل عدد من الأدباء، والكتاب، وقد اعتقل
على أثر نشره القاص، زياد السالم، وطال الاعتقال الأديب
المعروف جارالله الحميد.
د ) بيان يعارض الحرب على الشعب العراقي: وقد وقعه
عدد كبير من الأكاديميين والمثقفين من مختلف أرجاء المملكة.
هـ ) رسالة إلى الرئيس بوش تعارض إعلانه الحرب على
العراق: وقد تضمنت الرسالة المكتوبة باللغة الإنجليزية
إدانة لانتهاكات أمريكا للأعراف والقوانين الدولية وطالبته
بعدم الاقدام على شن الحرب على العراق. وقد وقعه عدد كبير
من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في المملكة.
ثانيا : خطابات وبيانات تتضمن مطالب (دعاة المجتمع
المدني والإصلاح الدستوري) بضرورة الإصلاح السياسي الشامل،
وهي كالتالي:
أ ) (معاً.. في خندق الشرفاء):
وقد صدر البيان في 6/5/2003 مركزاً على تعرية الأطماع
الأمريكية في المنطقة، وفضح خططها الاستراتيجية لاحتلال
منابع النفط، ومخططاته الأخرى الهادفة إلى إعادة رسم خرائط
المنطقة ومنها بلادنا وقد عبر البيان عن رفضه لتلك الاستهدافات،
وعن تمسكه بوحدة وطنه والتفافه حول قيادته السياسية، ومطالبتها
بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل. ويعد
هذا البيان تدشيناً مؤسساً لما تلاه من خطابات وبيانات
علنية تطالب بالإصلاح بالطرق السلمية، حيث استفادت من
تجربته ومن العدد الكبير الذي وقع عليه الخطابات المطلبية
اللاحقة.
ب ) خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله):
ولدت فكرة الخطاب في مجلس ضم بعض الأصدقاء في المنطقة
الشرقية وحملوا الفكرة معهم لعرضها على عدد من المثقفين
والرموز الوطنية الذين شاركوا في جلسات (المؤتمر الشعبي
الثالث لدول الخليج العربي لمقاطعة إسرائيل) المنعقد في
البحرين، وتم تداول الرأي حول القضايا العامة التي يمكن
أن يتضمنها هذا الخطاب، ولكن الأمر بقى مفتوحاً للتأمل.
وقد بادر محمد سعيد طيب وبعض أصدقائه بكتابة مسودة لتلك
الفكرة، وقام بعرضها في الدمام خلال الاحتفاء بزيارته
للمنطقة الشرقية، وقد أعاد النظر فيها وأغناها علي الدميني
وآخرون في الدمام ثم عرضت على الدكتور عبدالله الحامد،
فأضاف لها بعض البنود، وأعد نسختها النهائية مع عدد من
أصدقائه في الرياض.وبناء على ذلك يمكن القول بأن ذلك الخطاب
كان نتاجاً متأنياً وجهداً توافقياً لحوارات معمقة بين
العديد من المهتمين بالشأن العام من مختلف المكونات الثقافية
والمناطقية بالمملكة.
وفي الواقع فإن الطريق لإنجاز هذه المهمة لم يكن سالكاً،
حيث تعاورته العديد من الصعاب، منها، الاستدعاءات الأمنية
المتكررة لمحمد سعيد طيب، ومنها اختلاف المكونات المرجعية
للأطراف المشاركة، ومنها قلَة عدد الموقعين عليه من التيار
الإسلامي المستنير. إضافة إلى عدم رضي بعض الليبراليين
من جهة، أو الإسلامويين من الجهة الأخرى عن عدد من الرؤى
والأطروحات، أو من رفض أحد الطرفين – وخاصة الإسلاموي
– توقيع بعض الأسماء الليبرالية المعروفة : ولكن الدكتور
الحامد، ومحمد سعيد طيب، ونجيب الخنيزي، قد لعبوا دوراً
كبيراً للتوفيق بين التعارضات المختلفة، والاتفاق على
تعزيز المشتركات وتأجيل عناصر الخلاف والاختلافات.
وقد أدَت نقاط الاختلاف إلى التأخر في اعتماد النسخة
النهائية، ويروي لي أحد الأصدقاء، بأنه قد احتاج لمدة
أسبوعين ليذلل بعض الصعوبات، وحين حمل النسخة المعدلة
معه إلى الرياض والتقى بالدكتور الحامد بادره قائلاً :
(ياخوي وين أنت... لك أسبوعين ما جيت مدانا نودي هذه للحكومة
ويسجنون مجموعة، ثم نجهز مجموعة ثانية للسجن). وقال صديقي
إنني ضحكت وقلت: يا دكتور (لسنا مستعجلين على السجن).
وحين أتذكر هذه المحاورة، فإنني أستطيع بكل وضوح أن أرى
اختلافاً في وتيرة العمل، واستهدافاته، ومع ذلك، ومع كثرة
تفاصيل نقاط الافتراق بين المجموعات، فإن الإخلاص الوطني
لدى الكثيرين كان كافياً لغرس بذور احترام الاختلاف والتعددية
والاتفاق على القوا سم المشتركة في الصيغة النهائية للخطاب.
ويتبقى بعد ذلك ترتيب الموعد الرسمي للقاء سمو ولي
العهد لتقديم الخطاب إليه... وقد بذل الدكتور الحامد والدكتور
متروك الفالح جهوداً كبيرة لطرق الأبواب القادرة على تهيئة
مثل ذلك الموعد، ولكن بعض مستشاري سمو ولي العهد، وبعض
أشقائه أيضاً، لم يستطيعوا المساعدة على ذلك. ولم يتبق
إلا الاستنجاد بالمتاح من خبرات السنين، فولدت فكرة إرسال
الخطاب ونسخه الثلاث عشرة بالبريد الممتاز، إلى سمو ولي
العهد وإلى أصحاب السمو الأمراء،... وهكذا كان القرار.
وفي المساء، وأنا أتساءل عن مصير الخطابات، جائني صوت
أحد الأصدقاء ملعلعا : لقد فُرجت حيث علمت أن سمو ولي
العهد قد استلم الخطاب ودعا كل الموقعين المائة والثلاثة
للالتقاء به في يناير 2003م وحين يتحدث الذين حضروا عن
تفاصيل اللقاء بسمو ولي العهد، فإنهم يقبضون بقوة على
تسمية سموه للخطاب (بالوثيقة)، وعلى ما ردده على مسامعهم
من تجاوب مع مطالبهم حيث قال : (إن مشروعكم هو مشروعي)،
وذلك ما عزز تفاؤل الوطن والمواطنين بأن القيادة تحمل
وعوداً صادقة، بالإصلاح السياسي الشامل.
ج ) (دفاعاً عن الوطن):
مضت ستة أشهر على تقديم خطاب (لرؤية) إلى سمو ولي العهد،
ولم يصدر عن القيادة أي خطوة عملية أو رمزية للتعبير عن
التزامها بالإصلاح السياسي المأمول، كما تلقت خلال هذه
الفترة بلادنا رسالة الإرهاب الأولى التي طالت تفجيراتها
ثلاثة مجمعات سكنية شرقي الرياض. وحين لم يكن مسئولو الأمن
في بلادنا قد اقتنعوا بعد بأن حطب (القاعدة) ونارها يصدر
من السعودية على صيغة فكر تكفيري، وكوادر جاهزة لتنفيذ
الأوامر، وأموال متدفقة لدعم انتشار الفكر والنهج الإرهابي
المنظم.
وكان المسئولون في مرحلة الشك حيث لم يتيقنوا بعد بأن
خمسة عشر شاباً من أبناء المملكة كانوا شركاء حقيقيين
في تفجيرات 11 سبتمبر. ولذا لم تستهدف تلك الرسالة أكثر
من التأكيد لمسئولي الأمن، بأن إصرارهم على القناعات الرغبوية
لن تحمي البلاد من مخاطر الإرهاب، ولن تعينهم على دراسة
الأسباب العميقة لتفجير تلك المخاطر.
ولذلك جرى الحوار ساخناً بين العديد من الأطراف والأطياف
الثقافية والدينية في بلادنا، حول ظاهرة الإرهاب، وأسبابها،
والموقف الصائب منها.وقد اتفقت الآراء على تحديد العديد
من العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة، وأنها نتاج بيئة
وتاريخ وتراث محلي، وليست وليدة مؤامرة خارجية، وأن أحد
أنجع الوسائل لمعالجتها يكمن في شجاعة الاعتراف بأسبابها
والمبادرة إلى تبني برنامج الإصلاح السياسي الجذري، القادر
على التخفف من حدة الظاهرة، والقضاء التدريجي على أسبابها
ومظاهرها مع مضي الوقت.
ولكن المواقف افترقت بعد ذلك حول الموقف من إدانة الإرهاب،
إلى ثلاثة مواقف. أولها ينطلق من أنه، حتى وإن كان الإرهاب
وليداً لغياب الحرية وتفاقم الأزمات المعيشية، فإن الموقف
الصائب ينبغي أن يلامس أسباب الظاهرة الكامنة في الواقع
المعاش، وإدانة الإرهاب من أي جهة كانت، والمطالبة بالإصلاح
السياسي، ولا سيما وأن هذا العنف الدموي لا يمتلك برنامجاً
إصلاحياً، ولا يعبر عن ثورة شعبية، وإنما يعبر عن مجموعة
مسلحة خارجة عن القانون، وتستحق الإدانة الواضحة والعقاب.
أما الرأي الثاني فقد رأي ضرورة الاهتمام بالبعد الخارجي
وتأثير المظالم الأمريكية في استثارة مشاعر الشعوب، ومن
ثم إدانة العنف المسلح للجماعات و العنف المضاد من الدولة.
أما الفريق الثالث ـ ويعبر عن الأقلية ـ فكانت لديه
أسباب مغايرة للطرفين الآنفين.
وفي مثل هذه الظروف صدر بيان (دفاعاً عن الوطن)، بعد
نقاشات لم تخل من حدة، عملت على توسيع الشقة بين بعض الأطراف،
إلا أن البيان قد تميز بالعدد الكبير من الموقعين عليه،
وبالمشاركة البارزة للمرأة وبكونه أول بيان يعبر عن التيار
الليبرالي العريض، حيث تجاوز عدد الموقعين عليه ثلاثمائة
إسماً.
وبالرغم مما انطوى عليه البيان من موقف وطني شجاع بادر
إلى إدانة العنف والإرهاب الذي تتعرض له بلادنا، إلا أن
الأمير سلطان بن عبدا لعزيز قام باستدعاء محمد سعيد طيب
والدكتور عبدا لعزيز الدخيل والدكتور تركي الحمد وطلب
منهم عدم نشر البيان؟!
لماذا؟ لأنه يتعرض لأسباب ظاهرة الإرهاب، ويطالب بالإصلاح،
ولكن الاستدعاء وصل متأخراً، حيث كان البيان قد أخذ طريقه
إلى وسائل الإعلام دون علم الوفد.
وهكذا يتم تضييق باب الأمل أمام المطالب السلمية ـ
وبقفاز حريري هذه المرة ـ ومن أعلى مستويات السلطة، وينطفئ
التفاؤل الذي خامر موقعي وثيقة (رؤية) عقب لقائهم بسمو
ولي العهد.
د ) (نداء إلى القيادة.. نداء إلى الشعب):
يعتبر هذا الخطاب واحداً من أهم أشكال تأصيل الجانب
الدستوري الوارد في وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)،
حيث رأى القائمون عليه بأن الدستور هو حجر الزاوية الذي
ينتظم قانونية الالتزام بكل العناوين الرئيسية الأخرى
الواردة في تلك الوثيقة.
وقد خطا الخطاب بتركيزه على أهمية الدستور خطوة على
طريق اعتباره قضية مركزية من ضمن القضايا التي ينبغي تأصيلها
وحشد طاقات (دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري) حولها.وقد
اشتمل الخطاب على المرتكزات الأساسية الخمسة للدستور،
والمطالبة بالملكية الدستورية.
وفي الواقع، فإن موضوع الملكية الدستورية، قد كان أحد
بنود وثيقة (رؤية)، ولكن الغالبية رأت تأجيله، لعدة أسباب
منها: أن هذا البند يمنح الأسرة المالكة حقا دستورياً
مطلقاً ودائماً، ولا يملك الموقعون على تلك (الوثيقة)
تخويلا قانونيا من الشعب، ومنها أيضا.. التخوف من أن تنظر
إليه القيادة السياسية كمطلب استفزازي، ولذا جرى استبعاده
من الوثيقة.
وقد ساعدت ظروف تفجر الإرهاب في الوطن، والافتراق حول
بيان (دفاعاً عن الوطن) في تعميق الاختلاف على الصيغة
النهائية لخطاب (نداء إلى القيادة.. نداء إلى الشعب) فامتنع
طيف واسع من الليبراليين عن التوقيع عليه إلا إذا تم الأخذ
ببعض ملاحظاتهم. وكان من ضمن الملاحظات : ضرورة تضمين
بنود الدستور نصاً صريحاً يتعلق بضمان العمل على نشر ثقافة
التسامح، وإقرار التعددية الثقافية، واحترام حقوق الإنسان،
وإقرار الحقوق الكاملة للمرأة ومن ضمنها حقها في المشاركة
السياسية. كما تضمنت المقترحات، التخفيف من الصبغة الدينية
للخطاب الذي قد يفسَّر على أنه يعبر عن القوى الأصولية
المتطرفة.
وحيث لم يتم الاتفاق على إجراء تلك التعديلات، فقد
مضى أصحاب المشروع الدكتور عبدالله الحامد ووالدكتورمتروك
الفالح في تجميع التواقيع عليه، وقد نجحا رغم الصعوبات
في حشد العدد الكافي لتقديم الخطاب، حيث وقع عليه أكثر
من 116 شخصا.
وبطبيعة الحال فإن الخطاب ـ كغيره من الخطابات المطلبية
– قد أثار استياء السلطة، وقام سمو الأمير نايف وزير الداخلية،
باستدعاء عشرين شخصا من الموقعين على الخطاب، إلى لقاء
في مبني وزارة الداخلية.
وقد عنفهم على ما جاء في الخطاب وانتقد المطالبة بالملكية
الدستورية بشدة. غير أن الموقعين أبدوا موقفاً متماسكاً
وشجاعاً وأوضحوا للأمير نايف حرصهم على وحدة الوطن وسلامته
وأمنه، وأن الخطابات المطلبية التي شاركوا فيها تعبر عن
ذلك الحرص والولاء للوطن. كما أوضحوا له بأن الملكية الدستورية
المقصودة ليست شبهاً بالأنموذج البريطاني الذي وصلت إليه
بريطانيا خلال أربعة قرون، وإنما يشبه الملكيات الدستورية
العربية في المغرب والأردن والبحرين. ولم يفوَت الأمير
نايف تلك المناسبة، دون أن يحذرهم مرتين من مغبَة الاستمرار
في إصدار تلك البيانات أو الخطابات المطلبية.
هـ ) (معا على طريق الإصلاح):
اتضح للمتابعين أن هناك اختلاف ـ ضمن إطار القيادة
السياسية ـ في أهمية التجاوب مع البيانات والخطابات المطلبية،
حيث يميل طرف للتعاطي بإيجابية مع مضمون تلك المطالب،
بينما لا يملك هذا الطرف القدرة على التفرد بقرار تبنى
المطالب الإصلاحية. أما الطرف الآخر الذي يمتلك آليات
القمع فإنه يرفض الإصلاح السياسي، بل وأنه لا يحتمل حتى
مجرد سماع هذه المفردة.
وعليه، فقد رأت بعض الأطياف الليبرالية أن الحكمة تستدعي
مساندة الطرف الأكثر قبولا بالإصلاح السياسي.
وفي خضم عدة حوارات جرت في أكثر من مدينة، تم التوصل
إلى إقرار صيغة خطاب (معا.. على طريق الإصلاح)، التي حافظت
على توازنات الدعم والمساندة للمبادرات الإصلاحية الرمزية،
وعلى المطالبة بتفعيل ما ورد في وثيقة (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله) والمطالبة بالبدء في تنفيذ بنود توصيات مؤتمر
الحوار الوطني الثاني المنعقد في مكة المكرمة، لا سيما
وأن الدولة هي التي ترعى ذلك النهج الحواري. وقد حظى الخطاب
باستجابة واسعة من المواطنين للتوقيع عليه، كما حظي بدعم
ومباركة العديد من الرموز الوطنية التي شاركت في مؤتمر
الحوار. أما عدد الموقعين على ذلك الخطاب فقد ناف لأول
مرة عن ألف شخص يعبرون عن مختلف أرجاء الوطن، وتعزر عبره
حضور المرأة، بل وحضور التيار الليبرالي بأطيافه المتعددة.
ثالثا: مطالب حقوق الإنسان، وحقوق المراة وحقوق الأقليات
أسهم نشاط (دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري)
الذي استمر على مدى عامين في رفع سقف الحرية، وفي تحفيز
القوى الاجتماعية الفاعلة للتعبير عن مطالبها الإنسانية
والمهنية والحقوقية والطائفية، من خلال المناشط التالية:
أ ) حقوق الإنسان:
حرص التيار الليبرالي على تضمين موضوعة (حقوق الإنسان)
في كافة الخطابات والفعاليات المطلبية، وفي هذا الصدد
تقدمت مجموعة من المهتمين بحقوق الإنسان والشأن العام،
من المحامين والمثقفين يزيد عددهم عن 53 مواطناً ومواطنة،
إلى الجهات الرسمية بطلب الترخيص بإنشاء (اللجنة الأهلية
السعودية لحقوق الإنسان) وذلك في مارس 2003م وقد أعدَّ
مسوّدة أهداف الجمعية ونظامها الداخلي علي الدميني وبعض
أصدقائه من المحامين والمهتمين بحقوق الإنسان، وتابعوا
تقديم الطلب ومراحل تنقله بين الجهات الحكومية مع وزير
العمل والشئون الاجتماعية الدكتور علي النملة، حتى قيل
لهم أن المطاف قد انتهى بالطلب عند (المقام السامي) وليس
أمامكم إلا الانتظار. بيد أن الانتظار قد تمخض عن إعلان
موافقة الجهات الرسمية في المملكة بالترخيص لعمل (الجمعية
الوطنية لحقوق الإنسان) في المملكة، ولم تضم تلك القائمة
أحدا من مؤسسي (اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان)
الأنفة الذكر ولعل من سوء طالع (الجمعية الوطنية لحقوق
الإنسان) المرخص لها أن تفشل مع أول أيام ولادتها، حيث
لم تستطع الوفاء بالحدود الدنيا للدور المناط بها حيال
قضايا المعتقلين السياسيين في المملكة، ولاسيما رموزه
الوطنية من (دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري) الذين
أعتقلوا في 16ـ3ـ2004م. وانكشف الغطاء عنها كواجهة حكومية
لحقوق الإنسان، هدفت الحكومة من إنشائها إلى تضليل الرأي
العام وخداع لجان حقوق الإنسان في العالم بمصداقية واستقلالية
تلك الجمعية!
ب ) حقوق المرأة:
تعاني المرأة في بلادنا من اضطهاد مزدوج تلعب فيه سلطوية
مفاهيم الذكورة المغلوطة، ومفاهيم العادات والتقاليد الملتبسة
بالدين أو المشرعنة – خطأ – باسمه، دوراً سلطوياً يكرس
استلاب كرامة المرأة وكينونتها.
وفي هذا الإطار، بادرت عدد من الأكاديميات والكاتبات
في صياغة خطاب يمثل مطالب المرأة في بلادنا وتقديمه إلى
سمو ولي العهد. وقد وقعته أكثر من 350 امرأة من مختلف
التخصصات والمناطق ولكنهن حرصن على عدم نشره في حينها،
إذ مضى على توقيعه أكثر من عام.
ج ) حقوق الأقليات الطائفية:
سعى الفكر الأحادي ألإقصائي إلى ضرب المختلفين عنه
في المذهب عقائدياً، ولم يكتف بذلك بل حاول التشكيك في
انتمائهم الوطني، استنادا على التعارض بين الانتماءات،
ولذلك فشلت كثير من المعالجات الحكومية للمشكلة الطائفية
بحكم وقوعها تحت تأثير ذلك الفكر ألإقصائي، ولو أن الحكومة
رفعت الحجاب عن العقل والمنطق لرأت أنه يمكن القضاء على
التعارض بين الهويات الفرعية والانتماء إلى الوطن إذا
ما تم تشريع الاعتراف بحق المنتمين إلى تلك الهويات بالوجود،
لأن أهم مقومات الوحدة تكمن في الاعتراف بالتنوع. لذلك
حرصت الشخصيات الفاعلة في تيار دعاة المجتمع المدني والإصلاح
الدستوري على إشراك كافة مكونات المجتمع في صياغة خطابات
الإصلاح السياسي، حيث أسهمت الفاعليات الدينية والثقافية
والاجتماعية من الطائفة الشيعية بالمنطقة الشرقية، والاسماعيلية
في نجران بنصيب وافر من الجهد البناء في صياغة المطالب
وتشجيع الهتمين بالشأن العام للتوقيع عليها.
وقد شجعت المناخات المطلبية الإيجابية رموز الطائفتين
إلى صياغة خطابين منفصلين يعبران عن المظالم الاجتماعية
والسياسية التي تعرض لها أبناء كل طائفة، ويطالبان القيادة
السياسية بتطبيق مفاهيم حقوق المواطنة والعدل والمساواة
على أبناء كل من الطائفتين.
وقد رفعت الفعاليات الشيعية في الشرقية خطابا بعنوان
(شركاء في الوطن) ووقعه أكثر من 450 شخصا ضمت كافة الرموز
والشخصيات الدينية والثقافية والاجتماعية من الرجال والنساء.
أما الطائفة الإسماعيلية في نجران فقد صاغت خطابا مطلبيا
شاملا مزوّداً بالحوادث والأسماء لتحديد مواطن القصور
والتجاوزات بحق أبناء الطائفة ويطالب برفع الحيف عنهم،
وتمكينهم من ممارسة حقوقهم الدينية والاجتماعية المكفولة
لهم حسب اتفاقهم مع جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز.
وقد وقع على هذا الخطاب عدد كبيرمن شخصيات ومشايخ الطائفة
الإسماعيلية بنجران.
في الختام.. رغم كل الظروف، لا ينبغي للمهتمين بالشأن
العام أن يملوا من طرق الأبواب أو الاستسلام لليأس والإحباط
جراء انسداد الأفق أو بسبب ممارسة أدوات القمع لبعض أدوارها
البسيطة. وعليهم الاستمرار في التعبير عن قناعاتهم الراسخة
من خلال تفعيل وتحفيز مكونات المجتمع المدني ألاجتماعيه
والثقافية والمهنية والسياسية، وإيصال صوت الجماهير إلى
القيادة، والتأكيد على أن المدخل الصائب والعملي للتعاطي
مع كافة الاختناقات والتحديات الخارجية ومظاهر العنف المسلح
التي يعيشها الوطن والمواطنون، لا يمكن اختزالها في تصنيع
وهم الأمن والاستقرار أو بسببه لاستخدام عصى القمع وتكميم
الأفواه، ولكن المخرج يكمن في اقتناع القيادة السياسية
بالمضي في طريق الإصلاح السياسي الشامل. وينبني هذا الطريق
الذهبي على قيام دولة المؤسسات والقانون والشفافية والمحاسبة
للسلطة التنفيذية، والعمل على إيجاد الحلول الناجعة للمعضلات
الخانقة التي يعانيها المواطنون، واستغلال مكامن قوة (الخصوصية)
في الموقع (الديني والنفطي) لتعزيز ثقافة الحوار والتسامح
واحترام الاختلاف، والإفادة القصوى من ريع الثروة النفطية
الزائلة لترسيخ بناء مقومات التنمية البشرية والتنمية
الاقتصادية المستدامة.
كما أن علينا معالجة ظاهرة العنف والإرهاب، لا بالشق
الأمني وحسب – رغم أهميته الآنية – ولكن بالقضاء على جذور
التشدد والتطرف الديني الذي تبنته ورعته الدولة – من حيث
تدري أو لا تدري بعواقبه – خلال عقود طويلة من تاريخها،عبر
إطلاق حريات التعبير والتفكير والإبداع لكل الشرائح المذهبية
والطائفية والثقافية والاجتماعية المختلفة، وبذل كل الجهود
لتشييد ثقافة الحوار والمصارحة والعلنية، والإقرار بالتعددية،
وحقوق الإنسان وبالمشاركة الشعبية الكاملة للرجال والنساء
على حد سواء في اتخاذ القرار الإداري والمهني والسياسي
في كافة المستويات.
ويبقى لنا في ختام هذه السيرة الطويلة، أن ندعوا قيادة
بلادنا برفع القيود عن حق التعبير في الشأن العام لأصدقائنا
الذين اعتقلوا واضطروا - للخروج من السجن - إلى التعهد
بعدم ممارسة ذلك الحق، كما نطالب القيادة بالإفراج الفوري
عن أصدقائنا المعتقلين منذ خمسة أشهر في سجن المباحث بالرياض،
وتمكينهم من ممارسة حقوقهم في التعبير عن آرائهم في الشأن
العام، وهم من رموز (دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري)
المعروفين : الدكتور عبدالله الحامد والشاعر علي الدميني
والدكتور متروك الفالح.
|