الـثـقـافـة وذهـنـيـّة الصـراع
محمد بن علي المحمود
يُفترض في الممارسة الثقافية التي تطمح إلى تحقيق الحد
الأدنى من شروط الفعل الثقافي، أن تكون ذات نفَس تقدمي
عما هو موجود في المتعين الاجتماعي، وأن تكون المتنفس
الحضاري لاحتقانات البدائي فيه، وأن يكون التعاطي مع أبجديات
الممارسة الديمقراطية ظاهرة تطبع الممارسة الثقافية بأكثر
مما هي عليه في الظواهر التي تتخذها تلك الممارسة الثقافية
موضوعاً لها، كجزء من طلائعية الثقافي الذي لا وجود له
- وجوداً ثقافياً - بدونها.
هذا التسامح الإنساني في الثقافي ليس شرطاً طارئاً
على الثقافي، وإنما هو أساس فيه، لا وجود له بدونه، لكون
الثقافة - كما أشرت في المقال السابق - ظاهرة إنسانية
بالدرجة الأولى. وليس المراد بكونها ظاهرة إنسانية أنها
موجودة كغيرها من الظواهر لدى الكائن الإنساني، وإنما
المراد أنها ظاهرة فارقة مميزة، يتجاوز بها الإنسان ما
سوى الإنسان فيه. وبهذا، فالثقافة الحقة - أي التي تمتلك
شرط الوجود الثقافي لا شرط كماله - هي الثقافة التي تنهض
بوظيفتها الأولى؛ من حيث محاصرة معاني التوحش في الإنساني،
وتعزيز الإنساني فيه.
ومن هنا فالثقافة ليست آلية صراع متوحش، يهدف إلى إقصاء
الإنسان وإلغائه ونفيه مادياً أو معنوياً، وإنما هي -
في جوهرها - على الضد من ذلك تماماً؛ آلية الإنسان لتأطير
هذا الصراع وتحجيمه، ونفيه - كقيمة على الأقل - خارج منظومة
القيم التي تعمل الثقافة في سياقاتها. وكون الثقافة ليست
آلية صراع في جوهرها، لا يعني أنها لم يتم توظيفها كآلية
صراع على أرض الواقع، وإنما يعني أن توظيفها في الصراع
تجاوزٌ بها لوظيفتها الأساس، تلك التي ينتفي وجودها بانتفائها،
إذ لا معنى لها دون وظيفتها، فوظيفتها جوهر فيها.
وتبعاً لهذا، يستحيل أن تكون (ثقافة الصراع) ثقافة،
كما يستحيل أن يكون المتطرف الاقصائي الذي يوظف مفاهيم
الثقافة وأدبياتها للصراع مثقفاً، وإن اشتبك مع الثقافي
بهذا الهمّ أو ذاك، أو دخل في مسارات الوظيفة الثقافية
لسبب أو لآخر، لأنه - بهذا العمل اللاثقافي - فرّغ الثقافة
من معناها، فلم تعد ثقافة، ولم يعد فاعلها مثقفاً، وإنما
أصبحت معركة مؤدلجة، عينها على المتعين المادي، وإن وظفت
اللامادي في سبيل احتوائه.
ولا يعني كل هذا غياب الجدلية الثقافية في أية واقعة
ثقافية يراد لها أن تكون متنامية، أو تحبيذ غيابها، وإنما
يعني أن الصراع الاقصائي (الملغي) للآخر المختلف عنه فعلٌ
تدميري، يصدر عن ما وراء الإنسان. ولهذا، فهذا الصراع
فعل إلغاء (إماتة) ضد الحياة والأحياء، يختلف جذرياً عن
الضدية الجدلية التي تكمن في عمقها تبادلية نفعية (إحيائية)
؛ تحفظ للثقافة - بتنويعاتها المتباينة - ديناميكيتها،
فضلاً عن احتفاظها بأفقها الإنساني.
وإذا كان الصراع الإقصائي في الثقافة يلغي المعنى الثقافي،
فما الذي يجعل هذا الصراع اللاثقافي ظاهرة تسم الخطاب
الثقافي العربي والمحلي، وخاصة ما تقاطع مع الديني الحركي
(الصحوي هنا)؟؛ كما كان يسم بشكل واضح مرجعيته العقائدية
(السلفية التقليدية) في معظم مساراتها، وكأن الممارسة
الفكرية - التي يفترض أنها سعي لحياة أفضل - ليست إلا
صراع حياة أو موت، لأحد طرفي الصراع، فلا بقاء لأحدهما
إلا بفناء الآخر. فما الذي وسم ثقافتنا بهذا الميسم؟.
لا شك أن الذهنية التي انفعلت بالأصولي الحركي وفعّلته،
وبالسلفي من قبله، ذهنية مشبعة بالصراع، لأنها ذهنية تمتاح
من عوالم اللاشعور الجمعي أنفاس الصراع القبلي، فهي ذهنية
قبلية قبل أن تكون - أو تتكون - ذهنية ثقافية، أو هكذا
تزعم أنها أصبحت. إنها تأخذ الثقافة بوعي انشطاري، لا
يؤمن بأن الحياة الإنسانية تزدهر بالتفاعل التكاملي، وإنما
هي - في وعيه - بالصراع على موارد الحياة الشحيحة في متاهات
الصحراء القاحلة.
ولأن المتعصب، أو المتطرف الديني، هو أشد الأطياف المتماسّة
مع الثقافي في المجتمع ماضوية؛ فإنه - تبعاً لذلك - أشدها
استغراقاً في عالم الصراع القبلي المنقرض، وأشدها احتراماً
لأعرافه وقوانينه، وإن بدا - على مستوى الشعور الواعي
- وكأنه قد تجاوز ذلك الماضي، واكتسب وعياً حديثاً من
وحي ثقافة هذا العصر. وبإيحاءات تلك المفاصلة والصراع
والكره و... إلخ. أصبح صاحب الذهنية الصراعية يفصل الفكري
والثقافي الحديث ؛حتى أصبح يعاين الآخر الثقافي بتلك الروح
التي تضع الفواصل بين المسارات الثقافية، فتشعبها ؛ لتكون
شعوباً وقبائل شتى، لا لتتعارف، وإنما لتتقاتل، فعل الجاهلي
بالجاهلي.
صحيح أن التضاد قانون طبيعي، في الاجتماع الإنساني
كما في الظاهرة الكونية، وصحيح أن محاولة الاستئثار بأكبر
قدر من الأدوار في الممارسة الثقافية أمر طبيعي، بل قد
يكون أحياناً من ضروريات الحراك الثقافي، وإحدى آليات
دفعه الحيوية، لكن، كل هذا لا ينفي أن شرطه كي يكون إيجابياً،
أن يؤمن بسلمية المحاولة تنظيراً وتطبيقاً، وأن حق (الوجود)
للآخر الثقافي المختلف محل اعتراف الجميع كدستور أولي.
وهذا الشرط يغيب عن مجمل الخطاب الديني المتطرف، فلا يعترف
إلا بحقه دون حقوق الآخرين. وهو ليس مجرد عدم اعتراف،
بل دعوة - تعلن عن نفسها أحياناً - لمنع الحقوق، فضلاً
عن الأشد تطرفاً، الداعي إلى النفي، أو الإلغاء والإبادة!
إن هذه الذهنية الصراعية التي يحكمها هوس الصراع في
تصرفاتها كافة، حتى الثقافي منها، أو ما تزعمه ثقافياً،
ذهنية تستقطب - على المستوى الشعوري واللاشعوري - مفردات
المعركة في خطابها، فهنا طابور خامس!، وهناك غزو ثقافي!،
وهنا هزيمة ونصر، واندحار وهيمنة، وتحصين و... إلخ. ونظرية
المؤامرة التي هتف بها السلفي منذ القدم، بوسائل شتى،
وطورها الإخواني بمهارة فائقة، بحيث أصبحت لدى أجنحة التطرف
(رهابا) لا تستطيع التخلص منه، ولو جنتها بكل آية!.
والذي يجعل من هذه النظرية (نظرية المؤامرة) أشد دلالة
في سياقها الراهن على النفَس الصراعي لدى المتطرف الديني،
أن التآمر الموهوم ليس صادراً من قبل الآخر اللاإسلامي
أو اللاوطني فحسب، بل أصبح الاتهام يطال - عن عمد - الآخر
الإسلامي والوطني، فترسانة الاتهامات لا تني عن قذف هذا
وذاك بالتآمر، لا لشيء إلا لأنه يرفض الخضوع المعنوي لايديولوجيا
التطرف والإرهاب التي تريد بسط نفوذها ولو على هذا المستوى،
فضلاً عن أنه تآمر لا بد أن نسأل - لو افترضنا وجوده -
على من يقع؟، أليس على قوى التطرف والإرهاب؟ أي لتحجيم
أثرها الإرهابي.
ولهذا ليس غريباً أن يخرج علينا بين الحين والآخر،
من يحاول قراءة الحراك الثقافي بنفس صراعي، لا يستطيع
الفكاك منه، لأنه قضى أكثر من عشرين سنة وهو يجمع ما يؤكد
المؤامرة المزعومة، وأدار عليها كل نتاجه الكسيح معرفياً،
وإن تعملق ورقاً ومداداً. وإذ يأتي الآن، بعد زمن الكاسيت
والحداثي؛ ليرفض حقوق التنوع الاجتماعي والثقافي، ويرى
فيها تآمر الأقليات على الأكثرية، كممارسة استعدائية،
لمجرد أنها تطلب أن تتساوى معه في الفرص المتاحة اجتماعياً،
وأن تفتح لها الأبواب التي تفتح له، وأن يحظى أبناؤها
بما يراه حقاً طبيعياً لأبنائه وذويه وبني ايديولوجيته،
وأن تعامل مشيختها بالتقدير الذي تعامل به مشيخته، لا
أقل ولا أكثر. أي لمجرد أن ما يسميها الأقلية تريد ألا
يتميز عنها في الحقوق، بمجرد الصفة الطائفية، يعد ذلك
تآمراً منها على أكثريته!.
هذا التوجس من أن تحضر الأقليات بتنوعها الثقافي، يقوم
على إحساس بالانتصار في الصراع، ذلك الذي لا يحتمل التنازل
للآخر، ولو عن حقوقه. إنه يرى أن الحالة بمجملها - الثقافي
منها وغير الثقافي - حالة حرب وصراع، وما دام أن الصراع
- كما يرى - بين أكثرية وأقلية، فلا معنى للقبول السلمي
بتسليم الحقوق، خاصة إبان مرحلة النصر الثقافي الحاسم
للأكثرية التي ينتمي إليها. الثقافة لديه لم تكن جدلية
تفاعل ولن تكون، بل هي صراع، وتؤخذ الدنيا - والدين هنا
- غلابا.
وهكذا يفصح التعصب والتطرف عن نفسه عند أول فرصة للتعبير،
ويكشف عن نفسه بجلاء عندما يوضع على محك التنظير، فلا
تدري - بعد أن تسمع وترى - أية وضعية اجتماعية يريد لها
أن تحكم الراهن الاجتماعي، ولا عند أية حدود يجب أن يقف
التنوع الثقافي الموجود أصلاً، أعند حدود هويته الثقافية
الحركية، أم أن هناك حدوداً أخرى لا نعلمها، وإن كنا نستشرف
ملامحها من هذا الطرح وذاك؟!. إنها - بكل وضوح - أضيق
الحدود، وأبعدها عن التسامح الإنساني وأقربها إلى الصراع
الدموي. ومن الغريب أن هذه السلفيات الصحوية - بإيحاء
من أصولها التقليدية - تمارس العداء العلني ضد الأقليات
اللامعادية، بل الداعية إلى الإخاء والتعاون المشترك،
وتصرح بالاقصاء والنفي ضد من ليس في سلوكه إقصاء ولا نفياً،
وتشيع في أوساطنا ثقافة اللاتسامح ضد الأقليات المتسامحة
تاريخاً وحاضراً، بينما هي تبكي - أو تتباكى - على الأقليات
الإسلامية في شرق الأرض وغربها في كل حين.
ومن المؤلم أن ذهنية الصراع، وروح العداء لمجرد العداء،
قد أصبحت وكأنها الهوية المميزة لكل ما هو إسلامي؛ بسبب
من إشاعة التيارات المتطرفة - وهي الأرفع صوتاً في الإسلامي
للأسف - لهذه الهوية (الإرهابية) وكأنها جزء لازم للإسلام
كدين، وللمسلمين كذوات حاملة له، ومفسرة للبعد التطبيقي
فيه، بل لم يبق أحد من الداخل الإسلامي أو من خارجه إلا
وقد رمته بعدائها في أدبياتها التي تصرح بها أحياناً،
وتلمح إليها في أحايين أخرى، حسب مقتضيات الحال.
إن لكل طيف اجتماعي، ولكل تيار ديني، ولكل توجه سياسي،
ولكل فكرة تنبعث في هذا التخصص العلمي أو ذاك، ولكل ظاهرة
مادية محايدة، تصنيفاً (غير بريء) في منظومتها (الشاملة
العادلة الوسطية... إلخ) بزعمها!، فلا شيء خارج التصنيف
الذي لا يكتفي بمعاينة الظواهر والأشياء كما هي في الواقع،
وإنما يفرض عليها تصوراته الخاصة، ويفسرها بها، وهي -
في هذه النماذج خاصة - تصورات عدائية صارخة العداء، وتفسيرات
متحاملة غاية التحامل، تجنح للصراع الدموي على مستويات
النشاط الإنساني كافة، وإن كانت الظروف تجبرها على الاكتفاء
بمستوى معين في ظرف معين، وهو المستوى الثقافي هنا، كجزء
من التمهيد للمستويات الأخرى التي تراها حتمية الوقوع،
كجزء من المد التبشيري فيها.
لقد ظهرت تيارات التعصب والتطرف - وأظهرت الإسلام بصورتها
المتماهية مع الإسلامي - وكأنها تعادي الجميع، وتقتات
في وجودها على روح العداء والكراهية وفيما بعد القتل.
وإذا كان من البديهي أنها بهذا السلوك تحارب الإسلام من
حيث تريد الانتصار له، وتضر به على المدى القريب، والبعيد
ضرراً بالغاً، إذ يلازمه في مستقبله كجزء من تاريخه، فإن
فضح هذه الذهنية في داخل الإسلامي وخارجه، ضرورة دينية
تقع على عاتق الديني أولاً، فضلاً عن كونها ضرورة ثقافية
إنسانية يفرضها الالتزام الثقافي.
ولهذا، فلا يجوز أن تصبح الثقافة المتأنسنة بالطبع
ميدان الصراع الأولى لهذه التيارات المتأدلجة بعصبيات
الفرق الماضوية، ولا أن يسمح للنفس الصراعي اللاتفاعلي
أن يكتسح منظومة الثقافة المحلية، لأنها - في هذه الحال
- لن تعدو أن تكون جهداً بائساً في التنظير لتحزبات وصراعات،
تخلخل الاجتماعي وتصدع بنيانه وتنهك قواه، وتكون ثمرتها
الأخيرة تخلفاً وانحطاطاً، هذا إن لم تكن أشد بؤساً من
ذلك، وهو ما ينطق بها الشاهد التاريخي في أكثر من مكان.
عن الرياض، 14/10/2004
|