رحيل السيد المالكي.. رمز الحجاز الديني
في التاسع والعشرين من أكتوبر الماضي فقد الحجاز شخصية
دينية طالما مثّلت عنواناً للخصوصية الدينية والاجتماعية
لهذه المنطقة التي أريد محو هويتها التاريخية والاجتماعية
وخصوصياتها الثقافية.. لقد خسر الحجاز رمزاً علمياً وأكبر
فقهائها بروزاً والذي تخرج من حلقات درسه عشرات من طالبي
العلم والمعرفة، وتزوّد من تراثه العلمي والادبي جمع كبير
من الناس في أرجاء عديدة من العالم الاسلامي.
فقيد الحجاز والأمة الإسلامية السيد المالكي
|
السيد محمد بن علوي بن عباس المالكي هو ابن مكة المكرمة
التي عاش في كنفها، وفيها يتحدر بيت علماء كرام من عائلته،
فأبوه من العلماء والمحدّثين البارزين في مكة المكرمة،
وكذلك جده الذي عرف باطلاعه الواسع على علوم الفقه والحديث،
وكذا حال كثير من عائلته الكريمة. وتعود السيرة العلمية
للعلاّمة الراحل بمكة المكرمة الى سنوات مبكرة من حياته
حيث التحق بحلقات العلم بالمسجد الحرام، وكذا في مدرسة
الفلاح التي تعتبر أول مدرسة نظامية حديثة تفتتح أبوابها
في مكة المكرمة، كما انتظم في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم.
وقد أكمل العلاّمة الراحل دراسته الجامعية بالأزهر الشريف،
وحصل فيها على شهادة الدكتوراه، وقد طاف أرجاء عديدة من
العالمين العربي والاسلامي من أجل طلب العلم، فرحل الى
المغرب والهند وباكستان وبلاد الشام، وأفاد كثيراً من
هذه الرحلات في جمع المخطوطات التاريخية والدينية والاطلاع
عن كثب على أحوال المسلمين في هذه الدول، وهكذا لقاء الشخصيات
الدينية والعلماء وعقد مجالس الفكر والنظر في المسائل
الدينية العامة والقضايا الاسلامية والفكرية المشتركة،
اضافة الى كتابة التجارب التي شهدها وعاشها في بعض البقاع
التي زارها او أقام فيها لبعض الوقت.
لقد جمع العلاّمة المالكي خلال فترات تحصيله العلمي زاداً
معرفياً وفيراً، وعاد الى مسقط رأسه لاستئناف مشروعه العلمي
الطموح، الذي كان قد دشّنه منذ أن كان صغيراً حين كان
يعقد حلقات الدرس وهو دون سن البلوغ وذلك بأمر وإشراف
والده المرحوم السيد علوي المالكي، حيث كان يدرّس الطلبة
كل كتاب يفرغ من تلقيّه على والده، وقد جمع الأسانيد على
المحدثين والفقهاء في شتى بقاع العالم الإسلامي حتى تحصّل
له أكثر من 200 شيخ، وقد ضمهم في كتاب منفرد.
وكان العلاّمة الراحل قد أتمّ القراءات السبع على شيخ
القرّاء بمدينة حمص بالشام الشيخ عبد العزيز عيون السود
الذي يرد إسمه في آخر مصحف الشام، وقد أجازه الشيخ بها،
وهذا ما أهّله لأن يكون عضواً فاعلاً في لجنة التحكيم
في مسابقة القرآن الكريم بمكة المكرمة لسنوات طويلة قبل
أن يعتذر عن الاستمرار احتجاجاً على تصرفات وسلوك المؤسسة
الدينية، كما تم تعيينه مدرّساً في كلية الشريعة بمكة
المكرمة سنة 1970 وبعد وفاة والده السيد علوي المالكي
بأيام قلائل اجتمع علماء مكة مكرمة في بيت والده السيد
علوي واتفقوا جميعاً على تكليف العلاّمة الراحل بالتدريس
في مقام والده في المسجد الحرام. ولكنه فيما بعد قدم استقالته
من التدريس في الجامعة من أجل التفرّغ للتأليف والتصنيف
واستئناف مشروعه الدعوي في مكة المكرمة وخارجها، وقد أتاح
له ذلك المشاركة في عدة مؤتمرات إسلامية عالمية قدم فيها
بحوثاً طبع أكثرها.
لقد ترك العلاّمة المالكي طائفة من المؤلفات القيّمة
التي تنمّ عن غزارة علمه وعلو كعبه في مضمار الفقه والتفسير
والحديث والسيرة النبوية، ومن مؤلفاته: دراسات حول الموطأ،
وفضل الموطأ وعناية الأمة الاسلامية به، ودراسة مقارنة
عن روايات موطأ الإمام مالك، وشبهات حول الموطأ وردها،
وإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وكتب في علم الحديث وأصوله
ومنها: أسماء الرجال، وعلم الأسانيد، والاثبات، والقواعد
الأساسية في علم مصطلح الحديث، والعقود اللؤلؤية في الأسانيد
العلوية، واتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنيّة،
والطالع السعيد المنتخب من المسلسلات والأسانيد، وكتب
في علوم القرآن الكريم منها: القواعد الأساسية في علوم
القرآن، والقواعد الأساسية في أصول الفقه، وزبدة الاتقان
في علوم القرآن، وكتب عن آثار مكة المكرمة منها: كتاب
في رحاب البيت الحرام، وصنف في الشمائل المحمدية وكتاب:
الانسان الكامل، وتاريخ الحوادث النبوية، ومؤلفات اخرى
عديدة في السيرة النبوية وفضائل المصطفى صلى الله عليه
وسلم مثل (الذخائر المحمدية)، وقد طبعت أغلب هذه الكتب
في مصر بفعل القرار الغاشم الذي أصدرته الدولة بوحي من
المؤسسة الدينية الرسمية التي أضفت شرعية دينية زائفة
على قرار حظر طباعة ونشر وتوزيع كتب العلاّمة المالكي
في الداخل.
وبحجم الخسارة الفادحة برحيله لدى سكان الحجاز، فإن
ثمة شماتة موازية عند الوهابيين النجديين الذين تحوّلت
لديهم الخصومة والعداوة غريزة ضارية، فقبل ان يوارى جثمانه
الورى في مقبرة المعلا، بدأت حناجر واقلام الكراهية الدينية
تقذف بكل ما هو قبيح وممقوت في الاندساس داخل الماضي بحثاً
عن كل ما يعتقده الوهابيون شركاً وضلالاً.
ومن المعلوم أن العلامة المالكي تعرّض لسنوات طويلة
لهجوم متواصل من قبل رموز التشدد الديني في المؤسسة الوهابية،
ونالته من سهام تكفيرهم وتضليلهم، بل تفنن بعضهم في إكالة
أقذع التهم وأقسى أنواع القذف وأقصاها، وكيف لا يكون كذلك،
وقد بنى هؤلاء الاستئصاليون عقيدتهم على نفي الآخر بما
في ذلك الآخر المسلم. لقد أوغر هؤلاء صدور رجال الحكم
السعودي من أجل تشديد قبضة الاستبداد الفكري على المخالفين
لتوجهاتهم الفكرية والعقدية، وقد نشأ عن ذلك منع كتب العلامة
المالكي من النشر والطباعة والتوزيع داخل المملكة، بل
وحتى في المناطق التي يقطنها أتباعه والمتزوّدون من مخزون
علمه في الحجاز. كما فرضت السلطات الدينية والسياسية قيوداً
متشددة على حلقات درسه، وكتبه، ونشاطه الفكري والاجتماعي،
لا لشيء سوى أنها لا تلتقي مع عقيدة المؤسسة الدينية.
وحين ضاقت عليه آفاق بلده وبلد آبائه وأجداده، اضطر لطباعة
كتبه خارج الحدود وبخاصة في مصر، وحيثما كانت لحرية الكلمة
والتعبير مساحة مسموحة.
بيد إن سياسة الاقصاء التي تواطىء السياسي والديني
على تنفيذها ضد العلاّمة المالكي لم تحل دون نشر فكره
وكتاباته، رغم الضجيج الذي أحدثته تلك الاصوات الاقصائية
ذات التوجّه الواحدي. لقد حرمته الدولة وبقرار رسمي غير
مكتوب كعادتها المتبّعة في سياسات الاقصاء والابعاد وتكميم
الافواه، فصار الخارج أوسع عليه من داخل بلده، وصار صيته
في الخارج أعزّ وأوسع من صيته في موطنه، لأن هناك من أراد
أن يخمد الاصوات المختلفة، ليبقي على صوت واحد ينطق به
الجميع كرعاع أتباع كل ناعق.
لقد انبرت أعلى مؤسسة دينية في هذا البلد ممثلة في
هيئة كبار العلماء لاصدار تحريمها الكنسي ضد العلاّمة
الراحل، وتفنّن معدّو البيانات وفتاوى التفكير في رص العبارات
الاقصائية مثل (نشر البدع والخرافات والدعوة الى الضلال
والوثنية). ولم يكتف هؤلاء بأحكام التكفير بل فرضوا حصاراً
فكرياً صارماً على نشاطه الدعوي والفكري، وضيّقوا الآفاق
على حركته، تحت ذرائع مختلفة لتبرير تلك النزعة التنزيهية
المقيته التي تحرم الآخر من حقه في التعبير عن رأيه بحرية.
وكانت هيئة كبار العلماء في السعودية أصدرت بيانا وصفت
العلاّمة الراحل بالعديد من الأوصاف المشينة، الى حد التساهل
في اصدار التهم جزافاً من قبيل دعوة مريديه بحلق اللحى
وعدم حضور المساجد وعقد موائد خاصة لمريديه وأتباعه، وهي
إتهامات عكف العلماء الوهابيون على توجيهها لتجريد من
هم على غير طريقتهم كل حق في التعبير عن الرأي بل والبقاء
البيولوجي، حتى توهّم هؤلاء، عن طريق التسلل الى النوايا
وتنطيق المعاني غير الواردة في نصوص كتب العلاّمة، بأن
ثمة انحرافات فكرية فيها من أجل تبرير أحكام جائرة ضده
كما في قراءة هيئة كبار العلماء لكتابه (الذخائر المحمدية)
الذي صوّره أعضاء هيئة كبار العلماء على غير مراد مصنّفه،
فعدّوه من كتاب الضلال كونه ينطوي زعماً على مبالغة في
توصيف شمائل المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقد أعدّ هؤلاء بياناً لمجلس الوزراء الذي يرأسه الملك
من أجل اتخاذ قرار منع طباعته ونشره بل وملاحقته حتى خارج
المملكة، بل طالبوا بأن تتدخل الحكومة لدى السلطات المصرية
من أجل وقف طباعة ونشر الكتاب باعتبار مصنّفه من (أعداء
الاسلام!) وتثبيت مكانه الكتب المشتملة على السنة الصحيحة
ونشر العقيدة الحق التي يراها الماسكون بزمام الجهاز الديني
الذي لا يضم سوى من هم على العقيدة الوهابية. لقد سمح
هؤلاء لأنفسهم التطاول على الرموز الدينية في الحجاز وتمادى
واضعو البيان في غيّهم الى حد وصف العلاّمة المالكي بأنه
(داعية سوء ويعمل على نشر الضلال والبدع) وأن كتبه تدعو
الى الشرك والوثنية! متغافلين عن حقيقة واحدة بأن العلاّمة
الراحل هو سليل عائلة علمية ودينية معروفة بالصلاح وتحظى
بالاحترام والتقدير من قبل أهل الحجاز، فكيف سمح هؤلاء
لأنفسهم بالنيل الرخيص من شخصية دينية واجتماعية جليلة،
سوى كونه يختلف مع اجتهادات علماء المؤسسة الدينية الرسمية.
إن جنوح علماء المؤسسة الدينية الرسمية الى منع المخالفين
لإجتهاداتهم من نشر مؤلفاتهم وأفكارهم في الداخل قد تجاوز
الحدود، فألحقوا ذلك بمحاكمة ما ينشر في الخارج، حتى أن
لجنة تشكّلت من علماء المؤسسة الدينية الرسمية مؤلفة من
رئيس مجلس القضاء الاعلى السابق الشيخ عبد الله بن حميد
والمفتي العام السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، والرئيس
العام السابق لشؤون الحرمين الشريفين الشيخ سليمان بن
عبيد من أجل عقد محكمة تفتيش عقائدي للعلاّمة المالكي
ومع ذلك فقد بدّد كافة اتهامات اللجنة التي استندت فيها
على (قيل لي) و(نقل لي ممن أثق به) و(أطلعني ممن لا يرقى
اليه الشك) وباقي الآليات المجروحة علماً وعقلاً، حيث
أن تلك الاسانيد ترجع الى أشخاص غير محايدين ومتشبعين
بالعداوة والخصومة للعلاّمة المالكي.
وحين رفض المالكي الاستجابة لشروط اللجنة الباعثة على
الازدراء والسخرية من قبيل التخلي عن معتقداته والاقرار
بارتكاب أمور شركية وبدعية في كتبه، بل وأن يتم الاعلان
عن ذلك في وسائل الاعلام، لجأ هؤلاء الى تطبيق العقوبات
من قبيل حظر جميع نشاطاته في المسجد الحرام، ومن الاذاعة
والتلفزيون، وفي الصحافة، والمنع من السفر للخارج. إن
تلك الوسائل الرخيصة في تجريد حق الآخر من التعبير عن
رأيه لا تختلف كثيراً عن محاكم التفتيش في أسبانيا في
العصور الوسطى، ولذلك كان من الطبيعي ان يرفض العلاّمة
الراحل وبشدة الخضوع لمثل تلك الأساليب الفجّة والهابطة،
وأن يتمسك بما صنّفه بيده، باعتباره مجهوداً ذاتياً مستقلاً،
بل ورفض كل ما جاء في رسالة الشيخ بن باز بما في ذلك اعلان
التوبة!
وقد بقيت العلاقة بين العلاّمة الراحل والدولة السعودية
مقطوعة بل ومتوترة تماماً كما هي حال العلاقة مع الرموز
الدينية في الحجاز وربما في المناطق الاخرى الذين حرموا
من حق مزاولة النشاط الفكري.. وقد خسرت الدولة بهذه السياسة
الاقصائية بقاء العلاّمة الراحل بعيداً عن دوائر تأثيرها
وخارج الفضاء الفكري والسياسي الذي أرادت احتواء الرموز
المحليين بداخله، فقد ضيّقت الدولة الشقة عليهم بنزعتها
الواحدية فضاقوا ذرعاً بالبقاء تحت نفوذها، ولم تكن تدرك
بأنها بهذه السياسة قد أسست لنزعات استقلالية وانفصالية
قابلة للتطوير في مراحل لاحقة، فليس هناك عاقل يمنح ولاءه
لجهة تمارس كافة أشكال النبذ ضده.
ولقد تنبّهت القيادة السياسية الى شناعة الاقصاء، ولكن
في فترة بدأت تشهد فيها الدولة تصدّعاً داخلياً خطيراً،
مما اضطرها لاحتضان من أدرجتهم على قائمة الخصوم العقائديين،
وقررت التكفير عن تكفيرها فدعتهم الى حضور مؤتمر الحوار
الوطني وأرخت حبل الاستبداد الفكري من أجل دفع الاتهامات
الباطلة التي انبثت في وسائل الاعلام الرسمي وغير الرسمي،
وأعادت لهم جزءا من حقهم المسلوب منذ أكثر من عقدين في
التعبير عن إجتهاداتهم ومجهوداتهم الذهنية المستقلة، والتي
لم ترق لمحتكري الحقيقة وأدعيائها.
|