من يمثّل الأمة ويصنع خطابها السياسي والفكري؟
الخطاب الديني في المرحلة القادمة
ثمة تحوّلات سريعة الايقاع في الخطاب الديني منذ بداية
الالفية الجديدة، زاد في تغوّلها وجنوحها زلزال الحادي
عشر من سبتمبر الذي جرف معه خطابات فكرية وسياسية كانت
تراهن على النهوض الحضاري بالأمة، ولكن ما لبثت أن وجدت
نفسها في أتون مواجهة ايديولوجية من نوع آخر، كانت اطرافها
المحلية تعيش على هامش الحراك الفكري وربما السياسي لفترات
طويلة، واذا بها وبقدرة قادر تتحول الى حاملة لواء المواجهة
الحضارية وتعتلى سنام تمثيل الامة، لتظهر على حين غفلة
وجوه جديدة ورموز كاريزمية كانت غير مؤهلة ولا مهيأة للتربع
على عرش تمثيل أمة يربو تعداد افرادها على المليار ونصف
المليار مسلم. متى جرى ذلك سؤال باتت إجابته معلومة، ولكن
كيف ولماذا جرى ذلك، هما السؤالان الجوهريان اللذان تظل
الاجابة عليهما ملحّة.
يمكن القول ابتداءً، بأن تصادم الخطابات كمقدمة مفتعلة
لتحقيق نبوءة صدام الحضارات لم يكن تسلسلاً طبيعياً داخلياً،
فلم تقرر قوى التنوير الديني المحلية في الشرق الاوسط
تلك المنازلة، فقد حسمت المواجهات الايديولوجية في فترة
مبكّرة من القرن الماضي حين توصّل رواد النهضة الاسلاميين
الى أن البداية الصحيحة للنهوض الحضاري تكمن في مراجعة
الذات ونقدها للعثور على أسباب التخلف والتأخر ومن ثم
سبل النهوض والترقي، وقد نجح هؤلاء الروّاد في استيعاب
الصدمة الحضارية التي أحدثها الغرب في بلاد المسلمين عن
طريق إعادة قراءة النص الاسلامي وتطوير آليات تفسير مناسبة
من أجل انتاج معارف جديدة مستمدة من المصادر الدينية الاولى،
أي ممارسة عملية تأصيل لمفاهيم دينية كانت بحاجة الى فهم
متقدم، مع الاقرار بالتقدم الغربي على الاقل التكنولوجي
منه والذي فرض على المسلمين الأخذ بأسبابه الفكرية، اي
اعادة تشييد البنى الفكرية التحتية للخطاب الاسلامي..
لقد عمل رواد النهضة الاسلاميين على تنمية خطاب ديني
منفتح على العصر، سعياً من أجل مواكبة التطور وتحدياته
دون أن يفقدهم نشاطهم الاجتهادي الشجاعة في الاقرار بالنقص
والقصور في حركة الاجتهاد الديني، فقد اعترف الرواد الأوائل
مثل السيد جمال الديني الافغاني والشيخ محمد عبده والشيخ
رشيد رضا والكواكبي ومن جاء بعدهم بأن ثمة ضرورة شديدة
لاعادة قراءة النص الديني للعثور على مكامن القصور في
حركة الامة نحو النهضة، فقد حدد الافغاني أزمة الامة في
الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وحدد الشيخ محمد
عبده الازمة في المسألة الثقافية وانصرف الى اصلاح التعليم
الديني، وسار الشيخ رضا على هديهما وعاب على من اعتبر
الشورى مبدأ الحكم في الاسلام قبل ان ينبّه الغرب الى
المعاني المغفول عنها في هذا المبدأ من خلال الديمقراطية،
وشنّ الكواكبي حملة على نوعين من الاستبداد: الديني والسياسي
واعتبر الاستبداد الديني أشد خطراً على الامة، وكتب الشيخ
علي عبد الرازق في أصول الحكم في الاسلام ونفى تلك الصيغة
التي حظيت بقبول السابقين واللاحقين والتي جرى استعمالها
في العهد الراشدي وتأمّل انبعاثها من عاشوا او افتتنوا
بسقوط الخلافة العباسية ثم الخلافة العثمانية.
لقد قدّم رواد النهضة الاسلاميين تراثاً ناضجاً وشهدت
الساحة مراكمات فكرية عميقة ونافذة، بحيث فرضت نفسها على
النشاطات الفكرية اللاحقة، في عواصم عربية واسلامية عديدة..
ولذلك نجد أن أغلب المنجزات السياسية والفكرية اللاحقة
مدينة للنشاط الفكري الراشد الذي قاده رواد النهضة الاوائل.
قد يقال بأن الجماعات الراديكالية انشقت من باطن التيار
النهضوي العريض في الامة، وهذا صحيح جزئياً ولكنه لم يكن
في يوم ما يمثل القاعدة ولم يكن يشكل ظاهرة جماهيرية فقد
ظل التطرف حبيس فئات معزولة نشأت كرد فعل على أوضاع سياسية
قاهرة كالتي سادت مصر وبلاد الشام وبعض الأجزاء من الشمال
الافريقي.. وصحيح ايضاً أن بعض منتجات الجماعات المتطرفة
قد تسرَّبت الى الاجيال الجديدة، ولكن الصحيح أيضاً أن
هذه المنتجات لم تغمر خط الاعتدال العريض الذي ساد الامة
منذ مطالع القرن الماضي وحتى السبعينيات.
ومع التحفظ على القراءة الراديكالية للنص القطبي، الذي
أضفي عليه لاحقاً (وفي ظل اجواء متشنجة وعدائية) معان
ودلالات إضافية في فترة توترات سياسية ودينية في الثمانينيات
والتسعينيات، الا أن الخطاب الاسلامي العام كان راشداً
وعصرياً ومتحصناً بصورة شبه تامة أمام أية محاولات الاختطاف
التي يقوم بها بعض المتشددين، فقد سعت القوى الاسلامية
المعتدلة لأن تشارك في عملية التحول السياسي الداخلي أسوة
بباقي القوى السياسية الاخرى لما تراه حقاً عاماً، ولم
يمنعها قرار الاقصاء والاستبعاد عن الاصرار على التمسك
بخطاب ديني معتدل، وعلى حقها في المشاركة في الانتقال
السلمي بالامة نحو الحرية والعدالة والمساواة.
في الثمانينات، كان الخطاب الثوري الايراني بلونه الشيعي
قد ترك تأثيرات ذات طابع سياسي على الخطاب الاسلامي العام
الا أنه لم يستدرجه الى التشدد فقد بقي الاعتدال في حيزه
الفكري سائداً.. ومن الملاحظات الهامة في عقد الثمانينات
أن الخطاب الثوري الايراني لم يزعزع خطاب الاعتدال الاسلامي
العام، رغم ان المناخ الثوري جارف ويدفع نحو الانغماس
في العصر الجماهيري الذي أحياه الحدث الايراني.. فقد صنّف
صانعو الصحوة الاسلامية مؤلفات رصينة تنم عن وعي شامل
بالتحديات المعاصرة وصاغوا خطاباً اسلامياً راقياً، كما
ساهموا في تأصيل منظومة مفاهيم اسلامية.
سفر الحوالي وبن لادن: لماذا ساد خطابهما
المتشدد؟
|
وهكذا نرى في التسعينيات أصبح الاعتدال سمة عامة للفكر
الاسلامي الحركي والسياسي العام، فقد تراجع تأثير اللهجة
الثورية الايرانية، وبات التأكيد على مبادىء الاعتدال
والتسامح الديني والتعددية والحرية الفكرية وحكم القانون
والمساوة واشاعة السلام هي المبادىء التي يتسابق المفكّرون
الاسلاميون من كافة المدارس الفكرية والاتجاهات السياسية
الى انضاجها وتعميمها، الى الحد الذي باتت معه مقولة صدام
الحضارات متهافتة. لقد أثبت المفكّرون الاسلاميون بأن
نظرية صدام الحضارات لم تكن سوى ذريعة مفبركة لانقاذ الغرب
والولايات المتحدة من مأزق الخصم الذي باتت صناعته ضرورة
بقاء وتفوق، وربما كان ذلك مخيّباً لآمال واضعي هذه النظرية
والمستفيدين منها كونها لم تحرّك نزعة الصراع لدى المعنين
بها. ولهذا السبب، كان البحث عن طرف جديد وإن كان مهملاً
يتولى تمثيل الطرف الآخر من أجل تحقيق فكرة الخصم، ولاشك
أن العبث بالمنجزات النهضوية الفكرية في منطقة بات التحكم
في القوى الفاعلة فيها ممكناً، خصوصاً وأن هذه القوى بقيت
مستبعدة عن المسرح السياسي بقرار رسمي عربي.
كانت هجمات سبتمبر خطاً فاصلاً لتحوّل درامي انقلابي
في حركتي الافكار والاحداث في الشرق الاوسط وفي العالم
بأسره، فمنذ الحادي عشر من سبتمبر بدأت أكبر عملية اختطاف
للخطاب الديني الاسلامي أدى أولاً وأخيراً الى اقصاء رموز
وثقافة الاعتدال في الامة الاسلامية لصالح قوى التشدد
والتطرف.. وهنا بدأ تفعيل التركة الافغانية والتيار السلفي
المتصل بها، حيث أُنتهب الاهتمام من الفكر الاسلامي الاعتدالي،
وانتقل الى الفكر السلفي الجهادي في شكله التسطيحي، الذي
غمر الساحة بخطاب يتميز بالفورانية والانفعالية وفي الوقت
نفسه بالاكتساحية.
ومن التوافقات المثيرة للغرابة أن يكون التسطيح والانفعالية
سمات لخطاب ديني جديد ينبعث من أفغانستان مركز قيادة تنظيم
القاعدة، ومن العراق في وقت لاحق مع ظهور تيار الزعيم
الشيعي الشاب مقتدى الصدر في العراق الذي صادر معه تراث
السيد محمد باقر الصدر صاحب المؤلف المشهور (اقتصادنا)،
وصادر معه شخصيات العراق السياسية والفكرية والحزبية،
وأعاد الى السطح شخصيات شبابية أفرزها انقطاع الصلة بين
الداخل والخارج الذي سمح لشخصيات مثل مقتدى الصدر والمتحلقين
حوله باستثمار محن الناس وحرمانهم الاقتصادي في مشاريع
سياسية جماهيرية.
ما يظهر حتى الآن، ان خطاباً راديكالياً تسطيحياً يكتسح
الساحة ويكاد يرسم صورة الاسلام في العالم، فيما يذوى
الخطاب الديني المعتدل الذي بات مغموراً، باهتاً.. من
المفارقات الخطيرة أن يسود الخطاب الديني الراديكالي في
مرحلة رشد الامة، فهذا الخطاب لا يجسّد على الاطلاق وعي
الامة ولا يعكس منسوب الرشد الذي بلغته، فهذا الخطاب يفصح
عن خلل عميق في المسيرة العامة للأمة، لأن ثمة قرصنة خطابية
تمت منذ سنوات قليلة تحاول فرض انموذج ما بصورة قهرية
واحتساب ذلك الصيغة التمثيلية التي لابد من تسييدها واكراه
الامة على القبول بها.. بكلمات أخرى ان الخطاب الديني
الراديكالي هو تعبير عن تطور في داخل جماعات تتبنى هذا
الخطاب وليس عن تطور في وعي الامة، ومن المؤسف القول بأن
هذا الخطاب بات مطلوباً شعبياً واعلامياً.
فمن الملاحظ بوضوح شديد، أن الخطاب الديني الراديكالي
بات يحظى بتغطية اعلامية واسعة ضمن معارك وسائل الاعلام
العربية والعالمية من أجل المعلومة والصوت والصورة وتلبية
لأجندة خاصة، بينما يفقد الخطاب الديني المعتدل وسائل
التعبير عن نفسه، لأنه بات غير مطلوب في الحرب الباردة
والساخنة بين الولايات المتحدة والغرب والخصوم المحليين..
نجد أن رموز وأنصار الخطاب الديني الراديكالي ينالون من
الاهتمام الاعلامي والفضائي منه ما لا يناله كبار المفكرين
والعلماء، بل إن تصريحات هؤلاء تتحول الى خبر عاجل ومدوّي..
بصراحة أشد أن الفضائيات العربية بات ضالعة في عملية تسطيح
ثقافي من خلال انكبابها وملاحقتها لأنباء رموز التشدد
الديني، المغطى بذريعة أن البقاء على قيد الحياة الاعلامية
يتطلب جرعة عالية من الاثارة. إن ألادلجة التي تصبغ نشاط
الاعلام العربي والتي تعكس الانقسام الداخلي والتوجهات
السياسية والفكرية المتنافرة داخل المؤسسات الاعلامية
العربية، كانت لصالح الخطاب الديني الراديكالي الذي بات
المشيدون به والمناصرون له هم من مخازن حزبية قديمة يسارية
وقومية واشتراكية. ثم جاء الالتحام بين أيتام البعث والمقاومة
العراقية بصنفيها السني والشيعي لتؤكد الزواج السياسي
بين فريقين متنافرين حد الدموية في مراحل سابقة، ليسفر
الزواج عن اعلان وثيقة شرف منتهكة تضطلع وسائل اعلام عربية
معروفة الاهداف والتوجهات بالترويج لها ومباركة ابرام
العقد الراديكالي.
ونعود للمولعين بالصراعات الكونية غير المتكافئة القوى
ونقول بدون شك أن المواجهات الدامية في افغانستان والعراق
جنباً الى جنب العبث الاسرائيلي بأرواح الفلسطينيين ومساكنهم
تزوّد مناصري اطروحة صدام الحضارات بأدلة قوية، بصرف النظر
عن خلفيات تلك المواجهات والاهداف الفعلية من ورائها..
وفي مثل هذه الحالة، يصبح انصياع رموز الاعتدال لقوى التشدد
أو تخفيضهم خيارات مفتوحة فهؤلاء باتوا بصلاحية منتهية
في ظل معركة يصبح الأكثر تشدداً هو الحائز على التمثيل
الشعبي الأوسع بل وصاحب الكاريزما الذي تناط به مهام ميتافيزيقية
موعودة.. فلم يعد لعمق الفكر ورشده سوق كبير فقد احتلت
مكانه النشاطية السياسية والعسكرية كمعوّض فاعل ونهائي
عن التأهيل العلمي، فليست الكاريزما في زماننا الشرقي
تتطلب مستوى علمياً رفيعاً بقدر ما يتطلب مواصفات نفسية
وشخصية فريدة، وهذا من رزايا استبدادنا الشرقي أن يتولى
على أهله من يدنوهم علماً ويعلوهم صوتاً.
إن ما ظهر حتى الآن هو انتقال مراكز الجاذبية من العواصم
العربية والاسلامية التي كانت تحتضن صانعي الخطاب الاسلامي
المعتدل الى الرياض، التي باتت تلعب دوراً محوّرياً في
صياغة الخطاب الاسلامي وتوجيه القوى الجهادية سواء في
افغانستان او العراق، وبلدان اخرى تشهد أنوية حركات جهادية
تستلهم من شبكة القاعدة، ومؤدلجيها المحليين أفكاراً في
المقاومة ورؤية في اصلاح الكون.
والسؤال هنا: لماذا يسود الخطاب الراديكالي؟
إن من أهم أسباب تفوق الخطاب الديني المتشدد هي على
النحو الاجمالي:
1 ـ فشل الخطاب المعتدل في تلبية طموحات القطاع الكبير
من الجمهور، سيما في ظل تغوّل وفساد وانحطاط النظام الرسمي
العربي بل والاسلامي، بما سمح لخطاب صدامي متشدد بالبزوغ
من أحياء الفقراء والمحرومين والتعبير عن تطلعاتهم وأهدافهم
المشروعة.
2 ـ أن الخطاب المعتدل بات ينظر اليه بوصفه متواطئاً
مع أنظمة الحكم بل ومبرراً لأفعالها واقترافاتها بما في
ذلك تلك التي تخص هموم ومحن الناس.
3 ـ الخطاب المعتدل خالٍ من المفعول السياسي ولا يرتقي
الى التحديات الكونية، فهو خطاب يكاد يكون قطرياً أما
الخطاب الراديكالي فهو خطاب عابر للحدود ويقارع أكبر قوة
في العالم.
|