ما بعد نصف الإنتخابات البلدية
(المخلّدون) في السلطة وفوائد مجلس الشورى المعيّن
لا نريد أن ندخل في الجدل الدائر بين مؤيدي الحكومة
وبين طلاب الإصلاح حول أيّهما أفضل: أن ينتخب الشعب ممثليه
في مجلس الشورى، أم أن تقوم العائلة المالكة بالإنتخاب
نيابة عن الشعب (أي تعيّنهم). فهذا الجدل عقيم لا فائدة
منه؛ وهو جدل مفتعل من أساسه ولا يقوم على مقارنة منطقية
أو أسس يحتكم إليها؛ وهو جدل قد تمّ تجاوزه لدى بعض الأمم
منذ قرون ولا نقول عقود، مثلما تجاوزه جيراننا الخليجيون
والعرب والمسلمون، سواء على أرضية الفهم الديني أو الممارسة
الواقعية. أيضاً فإن هذا الجدل قد أضعفته العائلة المالكة
نفسها حين أقرّت بوسيلة الإنتخاب ـ الجزئي ولو على مضض
في الإنتخابات البلدية، وبالتالي فإن مبررات عدم القبول
بالإنتخابات في مجلس الشورى يعدّ أمراً غريباً.
إن المفاضلة بين التعيين والإنتخاب، هي مفاضلة بين
قيم الحرية والإستبداد، وهي مفاضلة بين ممثلي الشعب، وممثلي
الحاكم، وهي مفاضلة في الأهداف بين إرضاء الحاكم وإرضاء
الشعب ومراعاة مصالحه وتلبية طموحاته وتطلعاته. وفي الغالب
فإن الطعن في أهلية الشعب بملايينه في اختيار الأصلح بين
ممثليه، يقتضي الطعن بالضرورة في الأقلية التي لا يتجاوز
عددها أصابع اليد الواحدة والتي ترى أنها أقدر على تشخيص
المصلحة وعلى الإختيار وعلى تمثيل المصالح العامة. وإذا
كان الجدل يدور حول أن الناس لن ينتخبوا الأصلح، بل الأقرب
الى العشيرة والمذهب والمنطقة، فإن هذا ما تفعله العائلة
المالكة نفسها، فهي لم تختر الأصلح بل الأقرب الى خلفيتها
المذهبية والمناطقية، مع خلل شديد في التمييز بين شرائح
المجتمع.
إن عودة الجدل حول التعيين والإنتخاب ـ كما قلنا ـ
مفتعل ولا قيمة كبيرة له، وقد فجّره من جديد تصريح الأمير
سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي، والذي أكد فيه
أن الحكومة بصدد زيادة أعضاء مجلس الشورى الى 150 عضواً،
وزعم بأن كل قبائل المنطقة ستمثل فيه! وكأنه هنا أراد
أن يصفع المدافعين عن وجهة نظر الحكومة بالتأكيد على أن
آل سعود لم يكونوا ليختاروا أفضل ممن يختارهم الناس. فهو
يقول: لن نسمح لكم بانتخاب ممثليكم القبليين، بل نحن أعرف
بشؤون قبائلكم منكم، وسنختار من بينكم من يمثلكم!
ترى أي وجه إيجابي بقي لمقولة التعيين؟
ولماذا الإصرار على التعيين في وقت تحبو فيه الحكومة
حبواً باتجاه نصف الإنتخابات البلدية التي بدأت في المنطقة
الوسطى وستستكمل في باقي مناطق المملكة خلال الأشهر القادمة؟
فإن كان التعيين أفضل، فليستمر آل سعود في برنامجهم
بتعيين (كل) أعضاء المجالس البلدية. وإن كان الإنتخاب
هو الوسيلة الفضلى من أجل زيادة المشاركة الشعبية، وهي
النغمة التي يرددها الإعلام السعودي، فلماذا لا ينطبق
الأمر على مجلس الشورى، المهتم بالأبعاد السياسية، والأكثر
خطورة في تقرير مصير الوطن وتمثيل إرادة شعبه.
وإن كان الأمراء ـ كما يزعمون ـ يرون الشعب غير مهيّأ
بما فيه الكفاية، وبالتالي فإن الوسيلتين (التعيين والإنتخاب)
ستستخدمان لأجل قصير أو طويل، كما فعلوا في الإنتخابات
البلدية، فلماذا لم يبدأوا بنصف مجلس شورى منتخب، بدل
أن يظهر علينا المسؤولون فيقرروا زيادة أعضاء مجلس الشورى
(بالتعيين)؟
واضح هنا أن الذرائع الحكومية تتساقط، فالهدف الأبعد
هو تأجيل مساهمة الشعب في صناعة القرار السياسي، وإبقاء
السلطة كاملة بيد حفنة من الأمراء يقررون مصير بلد كامل.
ولما كان الضغط الداخلي والخارجي شديداً، فإن العائلة
المالكة تحاول ما وسعها المحاولة وضع المصدّات الفكرية
والقانونية أمام زيادة المشاركة الشعبية التي تعهدت تلك
العائلة لواشنطن بتوسيعها، ولكن هذه الأخيرة ـ وحسب دعوات
بوش الأخيرة ـ لاتزال تضغط من أجل ذلك، على اعتبار أن
الإصلاح السعودي لم يعد اليوم مسألة محليّة فحسب، بل مسألة
أمنيّة أميركية. فأجواء العنف السعودي المتزايد والمنتشر
في كل الدنيا سببه غياب الإصلاحات وغياب دور الشعب عن
صناعة القرار.
ولأن الإصلاحيين في المملكة يعلمون بأن الهدف النهائي
للعائلة المالكة هو الإلتفاف على الإصلاحات، فإنهم لم
يروا في الإنتخابات البلدية سوى تضليل مقصود وتشويش للرأي
العام المحلي، ومجرد ماكياج باهت وسيء لتحسين وجه العائلة
المالكة القبيح في الخارج.
ولأن الإصلاحيين يدركون بأن العائلة المالكة تميل الى
التعيين، ولن تتنازل عنه في المدى القريب، خاصة في مجلس
الشورى، لهذا اقترح بعضهم إيجاد نظام تمثيلي في المملكة
من مجلسين: مجلس بالتعيين، على غرار التجربة البريطانية
(مجلس اللوردات) والتي استنسختها الى حد ما الأردن والبحرين،
ومجلس بالإنتخاب تكون له كامل الصلاحيات التي يتمتع بها
أي برلمان آخر.
بيد أن العائلة المالكة لا تريد أن تقول ماذا ستفعل
في المستقبل.
الإنتخابات البلدية: الجمع بين التعيين والإنتخاب
|
هل هي بصدد (سلسلة إصلاحات) تبدأ بمجالس البلديات،
وتنتهي بإصلاح سياسي شامل يشمل في النهاية انتخاب مجلس
الشورى ومشاركة المرأة فيه كعضو كامل الحقوق، أم أن ما
يجري اليوم من انتخابات مجرد حلقة منفصلة أملتها الظروف،
وليست ضمن مشروع أكبر؟
يبدو أن العائلة المالكة ـ ولأنها لا تريد الإصلاح
من أساسه ـ لن تكشف عن نواياها؛ لا تريد أن تتورط في وعود
تلزمها بإصلاح مجلس الشورى، وحتى الآن لم يقل مسؤول سعودي
واحد فضلا عن أمير كبير بأن الحكومة تضع ضمن أجندتها ـ
بعيدة أو قصيرة المدى ـ تأسيس برلمان منتخب، او نصف منتخب؛
ولا تريد أن توضح ما إذا كانت بصدد وضع دستور للبلاد،
فهي مصممة على التمسك بمزاعمها الفضفاضة بأنها تحكم بالشريعة،
شريعة الهوى والغلبة والإستئثار! وتشير الممارسات الحكومية
الى أنها تميل بشكل كبير الى إبقاء الوضع الراهن على ما
هو عليه، دون إغلاق الباب كاملاً، ودون تحطيم الآمال المتوقعة
منها داخلياً وخارجيا. فحسب تلك الضغوط وحجمها ستكون استجابة
العائلة المالكة لها.
بمعنى أن من يحرّك عجلة الإصلاح السياسي في المملكة،
ليست هي الإرادة الذاتية الملكية أو الأميرية، بل هي إرادة
الشعب، وإرادة الحليف الأميركي. اما العائلة المالكة فهي
بصدد الممانعة والمقاومة لكل الضغوط، اللهم إلا إذا كانت
شديدة، فحينها ستنفّس عنها ـ بعد عمر طويل ـ بصورة من
الصور. فاليوم هناك نصف انتخابات بلدية، وربما بعد أربع
أو ثمان سنوات، وإذا ما استمرت الضغوط، ستجعل الإنتخابات
البلدية كاملة بدون تعيين، وربما بعدها ببضع سنوات ستشرك
المرأة في انتخاب المجالس البلدية دون أن يحق لها الترشح،
وبعدها بسنوات أخرى، ستسمح لهن بالترشح. فإذا انتهى كل
هذا، يمكن حينئذ أن تبدأ بالدستور أو بمجلس الشورى، فتقطع
الزمن من جديد، كأن تبدأ الأمور بتعيين نصف أعضاء مجلس
الشورى، ثم بعد دورتين أو ثلاث يكون كامل الإنتخاب، ثم
بعدها يأتي دور المرأة.. الخ.
هذا مع افتراض أن هناك ضغوطاً مستمرة، وإلا فبدونها
لن يتحقق شيء!
إنه تقطيع الزمن أو تقطيره، وهذا يعني أن الإصلاح يحتاج
الى أربعين أو خمسين سنة قادمة! والأمراء يتحركون ويبنون
سياساتهم على أساس أنهم (مخلّدون) في السلطة، وعلى أساس
أن الشعب مجرد كتلة جامدة لا حراك فيها وستبقى كذلك الى
الأبد، وكذلك على أساس أن لدى صانع القرار السعودي الفسحة
المالية والشرعية والدعم الدولي لكي يديم استبداده وطغيانه.
إن الفلسفة السياسية السائدة لدى النخبة الحاكمة تتبنّى
وجهة نظر تصادمية مع الإصلاح السياسي ومفاهيمه، أي أنها
لا ترى فيه حلا لمشكلها الإقتصادي والأمني والسياسي، بل
هو ـ من وجهة نظر تلك النخبة ـ أمر دخيل يزيد من تلك المشاكل
بدل أن يكون عامل تصحيح لها. إن الإصلاحات نقيض ـ بهذا
المعنى ـ للسلطة، ولا يعمل على ديمومتها. وهذا الفهم الخاطئ
والمشوش هو الذي يؤدي الى استمرار الأزمة وتفجر العنف،
كنتيجة لذلك الفهم المعوّج.
إن مجلس شورى قوي، ينظر إليه من قبل الأمراء على أنه
خطر حقيقي من جهة تفتيت سلطة العائلة المالكة أو إضعافها؛
والصحيح أن وجود مجلس شورى منتخب قوي أفضل لتلك العائلة
من مجلس صوري معيّن. فمن جهة، إن الزمن لا يسير باتجاه
احتكار كلّي للسلطة بيد عائلة واحدة؛ لقد مضى هذا الزمن
وإن كانت الممارسة لم تنته. لم يعد مستساغاً اليوم لا
في المملكة ولا في أي بقعة في العالم أن تحتكر السلطة
والثروة على النحو المقزّز الذي نراه في المملكة؛ فالأجيال
الجديدة تبنّت مفاهيم أخرى لا يسع المنظومة الفكرية التقليدية
إلا الإنحناء أمامها. إن اتجاه العالم بأسره سياسياً ومفهومياً
يسير بعكس ما تتبناه العائلة المالكة من أفكار ومفاهيم
ديناصورية منقرضة أو شارفت على الإنقراض. وعلى هذا الأساس
فمن صالح العائلة المالكة ان تبادر ـ حتى من دون ضغط ـ
الى تقديم تنازلات اليوم قبل أن تجبر عليها غداً، وأن
تغير من سلوك أفرادها وممارستهم للسلطة. فهذا لو وقع سيديم
حكمها، بدل أن ينقضه، أما الإصرار على الإستمرار في سياسة
الإحتكار الشامل للسلطة والثروة، فإنه سيعجّل من حتفها.
لن تخسر العائلة المالكة كثيراً حين تتنازل عن ربع سلطتها
ـ مثلاً ـ ولكنها إن تأخرت وتنازلت تحت الضغط فإن الربع
لن يكون كافياً، بل سيكون التنازل مبرراً ودافعاً للطلب
بتنازلات أخرى.
ومن جهة ثانية، إن مجلس شورى حقيقي في المملكة يحلّ
عدداً من المعضلات المزمنة في الدولة لم تستطع العائلة
المالكة حلها؛ كالعنف وعدم الإستقرار السياسي والأمني
وتفشي الفساد وتحلل الدولة المؤدي الى تقسيمها، وعجز الدولة
عن الإيفاء بواجباتها تجاه مواطنيها. لا شك أن وجود مجلس
شورى صوري لا يحل هذه المشاكل، وفي الحقيقة فإن وجوده
يعزّزها، كما هو واضح، وإن غياب التمثيل الشعبي مع تفاقم
المشاكل يزيد النقمة على المجلس المعيّن وعلى صانعيه وعلى
سياساتهم. لذلك لا تعدم أن تجد من يطالب بحلّ المجلس،
فعدمه خير من وجوده، لا من جهة فشله في أداء مهماته التي
يفترض أن يقوم بها البرلمان الحقيقي فحسب، بل لأنه لم
يعد يفيد الحاكم حتى من جهة اعتباره أداة تضليل العامّة،
ولا مؤجلا للإصلاح الحقيقي، ولا هو بالمجلس الذي تستطيع
الحكومة السعودية تسويقه لدى حلفائها في الغرب.
|