أفكار أولية لتطوير النظام الأساسي للحكم في المملكة
إلى (دستور)
علي الدميني
من داخل سجني الذي أمضيت فيه مع زميليّ ما يقارب العام
ـ على خلفية اشتراكنا مع المئات من المواطنين في المطالبة
بضرورة الإصلاح السياسي ـ ما زلت أقبض على كثير من الأمل
والتفاؤل بأن ما يجري من خطوات إصلاحية أولية، وما تتضمنه
أحاديث أركان القيادة السياسية في بلادنا، يشير إلى تفهم
وتوافق للتعاطي مع متطلبات المرحلة ومطالب الشعب بالإصلاح
السياسي.
وأستذكر هنا ما ورد في خطاب خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبدالعزيز، في دورة مجلس الشورى السابقة،
من إشارة واضحة إلى ضرورة المضي في طريق الإصلاح والمشاركة
الشعبية في القرار السياسي والإداري، كما أستعيد حديث
سمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز لمجموعة
من الموقعين على خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) الذي
قدِّم إلى سموه وقوله لهم (إن رؤيتكم هي مشروعي)، كما
أن ما ورد في حديث منشور لسمو النائب الثاني الأمير سلطان
بن عبد العزيز، ما يدعم هذا التوجه، حيث أشار سموه إلى
الحاجة إلى حياة ديمقراطية، وانتخابات يشارك فيها المواطنون
لمصلحة الوطن والأمة.
وفي هذا المناخ، التوافقي، يغدوا الأمل كبيراً في أن
يتم تحويل هذه الأفكار والتوجهات إلى آليات عملية ملموسة
تدشن مرحلة التحديث السياسي والمشاركة الشعبية في صناعة
القرار، ويغدو الاستمرار في تقديم المقترحات والاجتهادات
بشأن مضامين هذا التحديث والإصلاح الشامل فضاءً مفتوحا
أمام القيادة وأمام المهتمين بالشأن العام على السواء.
ويهمني أن أؤكد هنا، على أنني كالكثيرين أمثالي، لا
أدعو إلى حرق المراحل، بل أنني أؤمن بالحكمة في اعتماد
منهج الإصلاح السياسي المتدرج، وفق برنامج مدروس مصحوب
بجدول زمني محدد بدقه،ويتم تنفيذه على مراحل.ولكن يجب
أن تكتسب تلك الوعود مصداقيتها من خلال الوفاء بمواعيد
التطبيق المتدرج للإصلاح السياسي الشامل، وألا يتحول هدف
التدرج المرحلي إلى وسيله لكسب الوقت، انتظارا لظروف أفضل
وتوقيت مناسب للتنصل من دعوة الإصلاح أو إلغاءها.
إن الإصلاح السياسي في عصرنا الراهن، قد أصبح مطلباً
لا مناص من التعاطي معه، لأنه لا يمدنا بالوسائل الناجعة
لمواجهة الأزمات الداخلية والتحديات الخارجية الآنية وحسب،
ولكنه يعيننا على تجنب معارك مرتقبة في الفضاء السياسي
والاجتماعي على السواء. وموضوع الإصلاح أو التحديث السياسي
(لإقامة دولة القانون والمؤسسات الدستورية) في تجليه الأبرز
هو موضوع تدبير المصالح المرسلة للبشر داخل المجتمعات
في التاريخ،لأنه يوسع دائرة المشاركة ،ويرسخ التعاقد الاجتماعي
في صناعة حاضر ومستقبل المجتمعات.
وفي هذا السياق، أصبح أمر ابتكار وسائل وآليات جديدة
تستجيب لطموحات الشعوب، شأنا ملحا لأعانتها على أن تجد
ذاتها، وتحقق فاعليتها في التاريخ بحيث يتم توظيف تلك
الآليات على ضوء الخصوصيات والثوابت المحلية من جهة، وفي
ضوء ضرورة معالجة الإشكالات المستجدة في الشأن الاجتماعي
والسياسي،لأن من شأن ذلك أن يعين الشعوب والدول على التفاعل
مع دول العالم،ومراجعة مصيرها التاريخي بأساليب من العمل
السياسي أكثر مطابقة لحاجتها التاريخية،بحيث تصبح قراراتها
وخياراتها مستفيدة وفاعله من وفي رقي تراكم الخبرة الإنسانية
التي تنتجها الشعوب في مسار التاريخ ومسيرة الحياة.
ولضخامة المسؤولية، فإن واجب التأمل والتفكير والاجتهاد
في ما يصلح حال الأمة، وفي توصيف مسارات خياراتها المستقبلية،
للبحث عن منهج فعال ومقبول للتغيير والإصلاح السياسي لم
يعد حكراً على الحكومات وحدها، وإنما يقع على عاتق قوى
المجتمع المدني وفعالياته المختلفة، وأن البدء في عملية
الإصلاح السياسي لم تعد موكولة أو مرتبطة بخيارات الحكومة
وتوقيتاتها، وإنما أصبح ضرورة يتطلبها واقع وحاجيات الوطن
والمواطنين، وعلى الحكومات ألا تحتكر التفكير وتحرمه على
مواطنيها، وأن تتعفف عن إطلاق صفات التخوين والعمالة والطابور
الخامس على أبناء الوطن المنادين بالإصلاح والتحديث السياسي.
وعليه يجب إرساء دعائم الشراكة بين الحكومة والشعوب
في سياق عمليات التحديث، بحيث لا ينحصر دور الإصلاح في
تجديد وتعزيز بنية السلطة وحدها بهدف تأهيلها للمزيد من
ضبط مجتمعها وإبقاء الشعب خارج المجال السياسي والشأن
العام، وإنما يجب أن تتخطى ذلك إلى تبني الخيارات الكفيلة
بتجاوز واقع التهميش السياسي والاقتصادي للشعوب لكي يكونوا
محور عملية الإصلاح وهدفها في آن معاً.
ويجب أن نتذكر دائماً أن الاستئثار بالسلطة والثروة
الوطنية، والاستمرار في توزيعها بنفس الأساليب القديمة
التي تعيد إنتاج الوضع القائم، سوف تعمل على مفاقمة الأزمات
القائمة، وتسهم في استشراء بذور الغضب والنقمة والعنف
والإرهاب، وأن المدخل الصحيح للخروج من ذلك المأزق يكمن
في البدء في عملية إصلاح عميق، يعمل على توطيد العلاقة
بين السلطة/الدولة، والمجتمع، ونقلها من مستوى القطيعة
إلى آفاق التواصل والتكامل، وإقامة الجسر الذهبي الكفيل
بتجديد الشرعية، والثقة بين الحاكم والمحكوم، من خلال
الحوار الحر، واحترام حقوق المواطنة، وإيقاف كافة أشكال
القهر ومصادرة الحريات، والإكراه، لكي ينهض المواطن من
موقعه الراهن الذي يقبع فيه كتابع، إلى موقع المواطن الحر
المسئول، والشريك الكامل في الحقوق والواجبات.
إن الدولة بشكل عام هي مؤسسة المؤسسات، ومتى اختصرت
وظيفتها في سلطة واحدة متفردة، أدى ذلك إلى التخلف السياسي
في جميع صوره، وأصبحت الدولة تعمل ضد الأمة، ولذا فإن
تعزيز دولة المؤسسات هو في نفس الوقت تعزيز لدولة القانون
الكفيلة بتحقيق قيم العدالة والحرية والمساواة، والقادرة
على غرس ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتسامح والحوار
والتعددية، وتعميق معنى المواطنة والولاء والانتماء في
حياة المواطن وضميره.
وبالرغم من كثرة مفردات الإصلاح السياسي وموضوعاته،
واختلافنا حول أولوياته، إلا أن الخطوة الأساسية لتدشين
مشروع التحديث السياسي، تبدأ من المرتكز القانوني التعاقدي
الذي يجسد شروط البيعة بين الحاكم والمحكوم، وذلك بتطوير
النظام الأساسي للحكم في المملكة إلى (دستور) دائم للبلاد،
يقوم على تبني مرجعية الشريعة الإسلامية في كل ما يصدر
عنه من أحكام، ويأخذ بآليات بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها
الدستورية.
فالدستور هو الميثاق الأساسي الذي يتضمن تحديد طبيعة
السلطة ودورها، وكذلك مجموع الحقوق والواجبات الأساسية
للمواطنين، ويضبط نمط ممارسة السيادة أو تخويلها، أي شكل
الحكم والحكومة، واختصاصاتها، ويضمن الفصل بين السلطات
الثلاث للدولة (النيابية، والتنفيذية، والقضائية) وعمل
وظائفها، ويكفل استقلال سلطة القضاء، ويضمن الحقوق والحريات
السياسية للأفراد والجماعات وحقهم في تكوين جمعيات المجتمع
المدني، ومشاركة المواطنين في ممارسة السلطة بواسطة الانتخاب.
والدستور يصبح بذلك بمثابة، الناظم الرئيسي لعملية
التحديث السياسي الشامل، القادر على تلبية مطالب المجتمع
السياسية والاقتصادية والثقافية والإبداعية، باعتباره
ميثاقا قانونياً ملزما للحاكم والمحكوم، وهذا ما تعلمناه
من الحقائق الإنسانية والاجتماعية التي حققتها الأمم والشعوب
الأخرى التي كتبت دساتيرها وفق ثوابته، وأقامت مؤسساتها
الدستورية، مما ساعد على ترسيخ سلامها الاجتماعي ورقيها
الحضاري عبر المئتي عام المنصرمة.
وقد قمت مع زميلي، الدكتور عبد الله الحامد، والدكتور
متروك الفالح، بإعداد أفكار أوليه حول مفهوم الدستور،
وآليات عمله، وقد هدفنا من ذالك إلى أمرين، أولهما: كشف
الالتباس وسوء الفهم حول ما ورد في الخطابات ألمطلبيه
المرفوعة للقيادة من حديث حول ضرورة الفصل بين السلطات
الثلاث، واستقلال القضاء، وسلطة الأمة ودولة القانون والمؤسسات
الدستورية، وثانيهما يهدف إلى طرح سؤال الدستور، واختصاصاته
في حقلنا السياسي المحلي الراهن.
وفي هذا السياق اطلعنا على العديد من الدساتير العربية
والعالمية، وبعض المراجع النظرية للدستور، وتوقفنا أمام
دساتير الدول العربية، وخاصة الدستور المصري الذي يعد
أباً للدساتير العربية، بيد أننا قد أفدنا بصفة خاصة من
دساتير الدول العربية التي تتشابه أنظمة حكمها وظروفها
الاجتماعية مع ظروف بلادنا، مثل الكويت والبحرين والأردن
والمغرب. وقد تحاورنا ـ داخل السجن ـ طويلاً حول كافة
البنود وخلصنا إلى وضع هذه الصيغة التي حرصنا فيها على
تمثل تعددية مرجعياتنا الثقافية، لتعبر بأكبر قدر ممكن
عن تعددية مكونات مجتمعنا مذهبياً وطائفيا وثقافياً والتزمنا
بشكل واضح وبقناعة تامة بالمنهج الإصلاحي السلمي وثوابته
واستهدافاته التي شاركنا فيها مع المئات من المهتمين بالشأن
العام في بلادنا رجالا ونساءً، والتي عبرت عنها الخطابات
المرفوعة للقيادة، والتي تنطلق من الثوابت التالية:
أ ـ مرجعية الشريعة الإسلامية
ب ـ التمسك بالوحدة الوطنية
ج ـ تثمين الدور التاريخي الذي قامت به الأسرة المالكة
في إقامة الدولة والحفاظ على وحدتها وازدهارها، والنص
في الدستور على استمرارية الحكم في الصالحين من سلالة
الملك عبد العزيز.
ولا نزعم إن هذا الجهد استكمل شروطه النموذجية، أو
إننا قد اخترعنا شيئا لا يستطيعه الآخرون، بل إننا نعتبره
مجرد نموذج أو مثال تطبيقي بسيط على نظرية الدستور، يشبه
ما يقوم به مؤلفو الكتب المدرسية حين يوردون بعض الأمثلة
المحلولة لشرح نظريه رياضية أو هندسية بغرض التوضيح، كما
أننا نعلم أن المجال مفتوح أمام مئات الأمثلة التي سيجد
أصحابها أفقأ مفتوحا لإمكانية ومشروعية التجريب، وكل ذالك
سوف يغني سؤال الدستور ويدشن باب الحوار للجميع حول أهمية
الدستور ومكوناته، وحول موقعه المركزي في عملية الإصلاح
السياسي. واعتقد إن هذا النموذج، قد أوفى المرجعية الإسلامية
في الدستور، ووظائف ومهام السلطات الثلاث للدولة حقها،
وبقي بعد ذالك الكثير أمام العلماء والفقهاء ورجال القانون
والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، لإغناء جوانب أخرى
لم تأخذ حقها في مجال المواءمة بين الثوابت المذكورة وبين
مفاهيم الحرية والتعددية وقبول الأقلية بقرار الأغلبية
مع احتفاظ الأقلية (المذهبية، الطائفية.والسياسية) بحقها
في الموجود وحق التعبير السلمي عن قناعتها ورؤاها، وهو
ما آمل أن تسعفنا به مناخات الحوار المفتوح لتتبلور على
الطريق الإصلاحي الشامل في السنوات القادمة بإذن الله.
ويتبقى بعد ذالك، الإشارة إلى أنني أعددت هذه المقدمة
المختصرة، لا للتعارض مع المقدمة الضافية المؤصلة على
الشريعة الإسلامية التي أعدها الدكتور عبد الله الحامد،
والدكتور متروك الفالح، وإنما لتضيف على ذالك بعداً آخر
لسؤال الدستور، تنطلق من قراءة تجارب مكتوبة وحقائق معاشه
وناجحة في دول العالم، ومنها الدول الإسلامية والعربية،
أثمرت عن قيام دولة القانون والمؤسسات الدستورية والمشاركة
الشعبية في القرار، والتي أثبتت نجاعتها على مدى عشرات
السنين، وذلك ما يفتح المجال أمامنا للإفادة منها كآليات
يمكن أن نعمل لتبيئة عملها ضمن حقلنا السياسي وفي ذلك
سعي في دائرة المصالح المرسلة للناس، بما لا يتعارض مع
عقيدتنا الإسلامية السمحاء، وبما يسهم في تعزيز مبادئ
العدالة والشورى، وتفعيل أداء السلطات الثلاث
بالفصل بين وظائفها واختصاصاتها، وتمكين ممثلي الشعب
من ممارسة حد الرقابة والمحاسبة على أعمال السلطة التنفيذية
للحد من الفساد الإداري والمالي وللعمل على ضمانة التوزيع
العادل للثروة والمشاريع.
واختم كلمتي في هذا المجال، بالتذكير بمثال حي من تاريخ
بلادنا، تمثل في استيعاب المغفور له جلالة الملك المؤسس
عبدالعزيز آل سعود لضرورة تبني هذه الآليات منذ خمسين
عاماً، حيث قال في كلمته التاريخية أمام مجلس الشورى المنتخب
في مكة المكرمة (إن أمامكم اليوم أعمالا كثيرة من موازنة
لدوائر الحكومة، ونظم من اجل مشاريع عامه، والأمة تنتظر
منكم ما هو مأمول في هممكم.. ولقد أمرت إلا يسن نظام في
البلاد ويجري العمل به قبل إن يعرض على مجلسكم من قبل
النيابة العامة، وتنقحونه بمنتهى حرية الرأي) رحم الله
القائد المؤسس. وألهمنا الإقتداء بسيرته وعمق بصيرته،
وأعاننا جميعاً على مواجهة التحديات والبدء بعملية التحديث
السياسي المأمول.
|