نقطة نظام في قضية وطن
مذبحة الكلمة أم القضاء
قضية الدكتور والكاتب حمزة المزيني مع الدكتور عبد
الله صالح البراك التي تفجّرت الشهر الفائت عقب صدور حكم
قضائي بالجلد والسجن على الاستاذ المزيني تطرح مرة أخرى
مصير حرية الكلمة والحدود المرسومة لها والقيود المفروضة
عليها، وجهة الاختصاص المسؤولة عن التعامل معها. إن ما
يظهر من تجربة السعودية في مجال حرية التعبير أن ثمة جنوحاً
رسمياً وشبه رسمي من أجل خنق نطاق الكلمة عن طريق اخضاعها
تحت سلطة السياسة والدين. ولذلك فإن أصحاب الكلمة يتطلعون
الى حرية الكلمة وتوفير الضمانات الكفيلة بصيانتها وليس
الافتراض الابتدائي بوجود كلمة منحرفة يلزم محاصرتها وإنزال
أقصى العقوبات بأصحابها.
سنحاول هنا مقاربة قضية المزيني ـ البراك من زاوية
التشابك القضائي من أجل الوقوف على الحدود الفاصلة بين
ما هو حرية وما هو قيد، ومن المسؤول عن رسم تلك الحدود.
كما سنسّلط الضوء على المقالات مورد الاشكالية والتي أسست
للحكم القضائي.
جدلية القضاء الشرعي والقضاء
المدني
من الناحية المبدئية والقانونية، فإن حرية التعبير
وباقي الحريات الفردية والعامة تندرج في المجال المدني
والاهلي، وبالتالي فإن التعامل معها يجب أن يكون من سنخها
كيما يتطابق الفعل والموقف منه. ولكون الحريات تلك جزءا
من العملية الدولتية الشاملة فإن دورة الحريات تندرج في
سياق الفعل الدولتي بدرجة أساسية بما يجعل تدخّل جهات
أخرى أو مضاهية لسلطة الدولة عملاً ناشزاً لا تستقيم معه
سيرورة الدولة. للتمثيل على ذلك يمكن القول بأن إقحام
الشرع في شؤون الحياة المدنية يحيله الى كتلة من الاحكام
ذات الطابع الزجري التي لا تسمح بمجرد مزاولة أدنى الحرية
المتاحة لصاحب الرأي والقلم، في قضايا هي واقعة في الفضاء
الدولتي وإن إقحام الشرع يعد ابتذالاً له واستغلالاً سيئاً
لروح الاسلام وقيمه السمحه التي لا يجب إخضاعها للتفسيرات
الخاصة ذات الاغراض السياسية هذا أولاً.
وثانياً، لقد كشفت قضية المزيني عن خلل عميق في السياسة
الاعلامية للدولة، حين رهنتها للقضاء الرسمي بعد افتضاح
فساده، فضلاً عن افتراض أن هذه القضية تندرج في مجال اختصاص
الشرع ليقول كلمة الفصل فيها، بصرف النظر عن التطابق وعدمه
مع المواصفات الشرعية بحسب وجهة النظر الرسمية والدينية
السلفية. إن تطبيق المعايير الشرعية بالمفهوم الرسمي والسلفي
على قضية المزيني يجعل النتيجة محسومة ابتداءً، والسبب
في ذلك أن الطريقة التي يجري التعامل فيها مع هذه القضية
لا تسمح بالتوسل بمعايير أخرى سواء كانت شرعية مختلفة
ام مدنية. يعين على ذلك الحكم الغاشم نظام وزارة الاعلام
الذي يشتمل على مواد تشكل، بالقطع، أرضية صالحة لتنفيذ
أقصى العقوبات بحق الكتّاب والصحافيين. ففي هذا النظام
ما يلزم الكتاب والصحافيين بالامتثال للشريعة الاسلامية
بحسب التفسير الرسمي، وما يلزمهم بمحاربة الايديولوجيات
الاخرى التي لا تتوافق مع الشريعة بحسب التفسير الرسمي،
مما يقلل من أهمية حرية التعبير ويجعلها مرهونة دائماً
بالسلطة في شكليها السياسي والديني.
من المؤسف أن ينبري من داخل المجتمع من يطالب بفرض
رقابة على الكلمة وحرية التعبير، بدعوى الانتصار لشريعة
الاسلام ومحاربة الالحاد، لينفلق الوطن الى جبهتين: أهل
هدى وأهل ضلال. لقد أعاد البعض انتاج الدعوة السابقة التي
أطلقها قبل سنوات بعض الناشطين من رجال الدين السلفيين
في مراقبة الصحافة جنباً الى جنب وزارة الداخلية ووزارة
الاعلام وأجهزة المؤسسة الدينية. وقد قرأت مقطعاً في موقع
الساحات يبعث على الغرابة والسخرية، حيث يقدّم أحدهم دعوة
لـ (التعاون ضد أخطاء كتاب الصحافة) ويبدأ مرحلته الاولى
بـ (جمع الاخطاء). ويفسّر دعوته هذه بما نصه:(لدى الكثير
منا ما ينتقده على الكثير من كتاب الصحافة والإعلام بوجه
عام، ولا شك أن التعاون مبدأ معروف بين المسلمين، وقد
عزم أحد طلاب العلم وهو الشيخ عبد العزيز الريس حفظه الله
على أن يولي جانب الرد على هذا النوع من الناس اهتماما
كبيرا في الفترة الحالية ، فمن كان لديه شيء ينتقده على
بعض المقالات التي تم نشرها فليفدنا، ولا يفوتني التأكيد
على أن الشيخ عبد العزيز الريس قد رد على بعض المخالفين
ردودا قوية وطيبة وقد نفع الله بها، مثل: الرد على: تركي
الحمد ، منصور النقيدان ، الرافضة ، الليبراليين، وغيرهم).
من المؤلم حقاً أن يظهر في عصر الانفتاح الاعلامي والعولمة
الاتصالية من يحمل دعوة يائسة بائسة كهذه، أو أن يخشى
الكلمة التي باتت نافذة الى كل بيت عبر الشاشة الصغيرة
(الانترنت والتلفزيون)، وأن يغفل صاحب الدعوة قيمة الوسيلة
التي أرسل عبرها دعوته، ثم يطالب باستعمال ذات الوسيلة
من أجل رصد ما يصفه بأخطاء الصحافة وصولاً الى فرض طوق
صارم على الكلمة ومعاقبة أصحابها.
في ضوء ما سبق نحاول فيما يلي استعراض تطوّر قضية الدكتور
حمزة المزيني والدكتور عبد الله البراك من خلال المقالات
المنشورة في الصحافة المحلية وتحديداً في صحيفتي (الوطن)
و(المدينة).
القضية: جامعة الملك سعود
نموذجاً
بدأت القضية بمقالة نشرته جريدة (الوطن) في الثالث
والعشرين من مايو في العام الماضي للدكتور والكاتب علي
سعد الموسى بعنوان (التنوير: جامعة الملك سعود أنموذجاً)،
حيث يعتقد الكاتب بأن الجامعة فقدت دورها التنويري ولم
تعد (منارة فكر وطنية كان يفترض أن تقود حركة التنوير
وأن تكون المبادر الى تحديد شكل ووجهة هذه الحركة الاجتماعية).
ويرى الدكتور الموسى بأن الجامعة تخلَّت عن منهجها التنويري
واستبدلته بنهج مختلف (رضخ أخيرا لسلطة العوام). وقد لفتت
انتباهه لوحة إعلانات داخل الجامعة والتي عكست التحوّل
المنهجي في حركة الجامعة (في جامعة الملك سعود تبدلت المواقع
فصار أستاذ (الصحة) مبرمجاً لغوياً والفيزيائي داعية إصلاح
وأستاذ الزراعة خطيبا وإعلاميا لامعا..). ويعتقد الموسى
بأن هذا التبدّل هو (نتاج تلقائي لخطأ تربوي فادح حين
قسمنا الجامعات إلى قسمين: أسبغنا على قسم لقب (الإسلامي)
وجردنا الأخرى من اللقب رغم أن منهجها لم يتعارض مع الثوابت
في شيء). وتحت تأثير ضغط الحراك الاجتماعي، وجد الكثير
أن لقب (الأستاذ الجامعي) مهما كانت ندرة ومهنية التخصص,
لا يجلب شيئا من (الشعبوية) التي تضمن الانتشار استثماراً
لما فات من العمر في الجد والتحصيل ليجد هذا الأستاذ (العلمي)
النادر نفسه محصورا في قاعة دراسية محدودة أو في مختبر
تفوح منه رائحة المحاليل والتحاليل فخرج عن النص نحو رائحة
(العود) والمجالس المكتظة. هنا, مرة أخرى على لوحة الإعلانات,
جراح سعودي يركب الموجة في محاضرة عن (الطب الشعبي البديل)
وهو الذي أفنى عمره في دراسة (صدر الإنسان) وجراحته ثم
عاد ليدرك بكل بساطة أن (النفاذ) الحقيقي إلى هذا الصدر
لا يكون بالمشرط تحت تأثير المخدر. والعامل الآخر، بحسب
الموسى، هو رغبة تيار في إسكات تيار آخر، بما ينم عن تحوّل
او ربما خضوع أيديولوجي حيث انسحاب الرعيل الاول الذي
كان يمارس مهنة التدريس وفق رؤية أكاديمية محضة، وإذا
بجيل جديد من الاساتذة يحملون الى جنب الرسالة الاكاديمية
رسالة أخرى أيديولوجية بمزايا وأزياء خاصة. فقد عاد المبتعثون
من الخارج أشد التصاقاً بأصولهم الثقافية، وعاشوا عزلة
إغترابية في أماكن ابتعاثهم، ليعودوا مؤهلين بإمتياز لركب
الواحديين القدامى، ولكن هذه المرة في مواقع أخرى لم يتسن
لحراس العقيدة في الداخل الوصول اليها او اختراقها.
تعقيب المزيني
وفي 26 من يونيو من العام الماضي عقّب الدكتور حمزة
بن قبلان المزيني في مقال حمل عنوان (انحسر التنوير مثلما
اختفت البسمة من عسير)، وكان عبارة عن رجع الصدى لمقالة
الموسى، حيث احتسب المزيني المقالة أشبه ما تكون بمثار
أشجان وبعثاً لما توارى من ذكريات له داخل الحرم الجامعي،
وتحديداً جامعة الملك سعود.
وتنطلق مقالة المزيني من فكرة النشأة التنويرية لجامعة
الملك سعود، والتي جاءت أول مرة لتكسر حاجز الصوت التقليدي،
ثم لتؤسس لسياق ثقافي محلي مختلف، في مقابل سياق ثقافي
يتسم بالمحافظة الدينية والاجتماعية الشديدة. وبحسب المزيني
فإن الانفتاح الثقافي الذي دشّنت أساساته جامعة الملك
سعود لم يكن منفلتاً من الحدود الشرعية ولكن في الوقت
ذاته لم يكن خروجاً على النمط الاجتماعي والثقافي التقليدي
السائد. وقد أورد المزيني مثالاً على التجاذب بين نمطين
ثقافيين داخل المجتمع عاشته جامعة الملك سعود، وكان عليها
لانجاح توجهها التحديثي الصمود أمام تيار الثقافة التقليدية
السلفية المتزمتة، وذكر المزيني تخصص الآثار مثالاً على
تلك المواجهة، وهو تخصص ممقوت لدى المؤسسة التقليدية لأسباب
عقدية خاصة.
كما أورد المزيني من الذاكرة بعضاً من النشاطات الثقافية
والفكرية والادبية التي كانت تتم تحت رعاية واشراف جامعة
الملك سعود، كعقد أمسيات لشعراء من داخل المملكة وخارجها،
وتنظيم المحاضرات العلمية والثقافية العامة بحضور عدد
من العلماء والمثقفين من الداخل والخارج، الى جانب النشاطات
الاكاديمية المتنوعة والتي ساهمت في إعداد أجيال مؤهلة
بدرجة كافية للاضطلاع بمهام علمية وتخصصية مختلفة ومعقدة.
يعتقد المزيني، في سياق تأكيده على ما ورد في مقالة
الموسى، أن الاختراق السلفي او الصحوى للحقل الاكاديمي
كان عاملاً رئيسياً في انحسار الدور التنويري لجامعة الملك
سعود. ويعلّق المزيني على هذا التحوّل بما نصه:
لقد كان تخلي جامعة الملك سعود عن دورها التنويري حصيلة
لازمة للجو الفكري والاجتماعي الذي فرض نفسه بتأثير الحركات
الإسلامية السياسية التي هربت من بلدانها ووجدت ملجأ لها
في المملكة في الستينيات والسبعينيات من القرن الميلادي
العشرين، وهي التي أخذت تنفِّذ مخططاتها في المملكة لما
أتيح لها من فرص التمكين في مجال التعليم العام والتعليم
الجامعي خاصة. ومما زاد في أثرها تلاقيها مع التيار الديني
المحافظ مما أنتج مزيجا استطاع في نهاية الأمر أن يكتسح
تلك الموجة التنويرية المتفتحة.
لقد بدأت مرحلة انحسار التنوير بالتزامن مع إدخال بعض
المواد الدراسية الإلزامية لطلاب الجامعة. ومن أهمها ما
يسمى بـ (الثقافة الإسلامية) التي تستحوذ الآن على ثماني
ساعات دراسية. والناظر في مسميات هذه المواد الأربع يجد
أنها، فعلا، مأخوذة بشكل مباشر من برامج الحركات الإسلامية
السياسية ومخططاتها، ومنها مخططات الإخوان المسلمين، وهي:
(مدخل إلى الثقافة الإسلامية)، (النظام السياسي في الإسلام)،
(النظام الاقتصادي في الإسلام)، (الإسلام وبناء المجتمع).
أما محتوى هذه المواد فغائم جدا: ذلك أن هناك خطوطاً
عامة يلتزم بها مدرسو هذه المواد أحيانا، وهي كما قلت
مأخوذة من برامج الإخوان المسلمين أساساً، وكان أكثر من
يدرِّسها من المتعاقدين ينتمي إلى التيارات الحركية. لكن
ازدياد عدد الطلاب في السنوات الأخيرة اضطر قسم الثقافة
الإسلامية إلى الاستعانة ببعض المدرسين المتعاونين من
خارج الجامعة. وينتمي كثير من هؤلاء إلى التيار التقليدي
المتشدد. لذلك نجد بعض هؤلاء لا يدرِّس ما يدرسه المنتمون
إلى التيار الحركي بل يدرسون موضوعات تنبع من الاختيارات
الدينية المحلية المتشددة، ومن أشهرها موضوعان: الحجاب،
والموقف المعادي لبعض الطوائف الأخرى.
ومن أعجب المظاهر التي سادت أن بعض أعضاء هيئة التدريس
المتميزين في تخصصاتهم العلمية كالفيزياء والعلوم الأخرى
صاروا يتعاونون مع قسم الثقافة الإسلامية، لا لتوعية الطلاب
بأهمية تخصصاتهم لنهضة البلاد، بل ليدرسوهم برامج الحركات
الإسلامية السياسية التي تسعى إلى تغيير الأوضاع في البدان
الإسلامية ومنها المملكة.
أما النشاط الثقافي فقد انحسر إلى أبعد الحدود: ومن
أهم أسبابه استحواذ بعض (الصحويين) المؤدلجين من أعضاء
التدريس في كلية التربية خاصة على إدارة النشاطات الطلابية
وتوجيهها. ونتج عن هذا أنه قلما يسمح بمحاضرة ثقافية أو
فكرية. إذ اقتصرت النشاطات الثقافية بشكل يكاد يكون كاملا
في السنين الأخيرة على بعض المحاضرات الدينية. ومن أهم
الشخصيات التي حاضرت في الجامعة آنذاك الغنوشي وحسن الترابي
وغيرهما. وتلبست الأيديولوجية النشاطات المسرحية والمسابقات
الشعرية والأدبية الأخرى كالخطابة وغيرها.
ولا أدل على ذلك مما أشار إليه الزميل الدكتور عبد
الله الفوزان في سلسلة من المقالات عن النشاط الثقافي
الذي صاحب معرض الكتاب الذي أقامته الجامعة قبل سنتين.
إذ لم تشرك الجامعة أحداً من أعضاء التدريس فيها في أي
نوع من ذلك النشاط. وربما كان ذلك اعترافاً أخيرا منها
بانتهاء دورها التنويري، أو أنها صارت لا تعرف ما (التنوير)،
أو أنها لا تعرف أعضاء التدريس فيها، وكثير منهم له من
النشاط الفكري والثقافي والاجتماعي ما يؤهله للمشاركة
في ذلك النشاط. أو ربما أنها صارت الآن مشاركا فاعلا في
وأد التنوير، وكان ما فعلته إثباتا لـ (حسن نيتها وتصميمها
على ذلك).
ومن أهم العوامل التي عجلت بوأد التنوير في الجامعة
تعرضها وتعرض أعضاء التدريس فيها إلى فيض من الاتهامات
الباطلة التي كانت تشنع على أعضاء التدريس فيها وتصفهم
بالعلمانية والليبرالية أو بما هو أسوأ. بل لقد تجاوز
الأمر إلى قذف طالبات الجامعة وعضوات التدريس في أعراضهن
من على بعض منابر الجمعة.
ومن شواهد هذا التغيير أن تدريس طالبات الدراسات العليا
صار عن طريق الشبكة التلفزيونية وهو ما دعا كثيرا من أعضاء
التدريس إلى الاعتذار عن تدريسهن؛ ذلك أن هذه الطريقة
توحي بأن عضو هيئة التدريس مجنون يكلم أشباحا في غرفة
صغيرة مغلقة، وعيون الرقباء تترصده لتحصي عليه كلماته.
نعم لقد تخلت جامعة الملك سعود عن دورها التنويري الذي
عرفت به لفترة طويلة. لقد تحولت إلى بيئة طاردة للفكر
والثقافة والنشاطات الترويحية).
لقد أثار الموضوع حفيظة التيار السلفي الصحوي الذي
انبرى للرد على ما كتبه المزيني، وكان من أبرز ما نشر
مقال للدكتور عبد الله صالح البراك بعنوان (د. عبد الله
البراك مدافعاً عن جامعة الملك سعود) نشرته جريدة المدينة
في عددها 15094 الصادر بتاريخ 4/7/1425هـ.
وقد اتسمت المقالة ـ الرد بلغة دفاعية تبريرية، مبرئاً
جامعة الملك سعود مما يقال عنها حالياً بل زاد على ذلك
بأن عدّ ما هي عليه الآن عودة حميدة للجذور وتمسكاً بالمبادىء
الدينية وإخلاصاً، والمقالة في مجملها ردود ونفي لكل ما
ذكره المزيني. على سبيل المثال، علّق البراك على ما وصفه
بالحكم الجائر للمزيني ( أن الجامعة أصبحت طاردة للفكر
والثقافة والنشاطات )، ورد قائلاً:(وأنا أقول تفاءل بالخير
وقل: أصبحت جالبة لكل منصف ومخلص ومجتهد لدينه ووطنه).
وقد رد المزيني في جريدة الوطن على البراك في مقالة
(مفاهيم الدكتور البراك المغلوطة) بتاريخ 17 رجب 1425هـ.
وقد اعتبر المزيني تعقيب البراك على مقالته (نموذجا لفكر
(الصحوة) المتطرف الذي ازدهر في فترة صرنا نشكو نتائجها
الآن، ونجني مرَّ ثمارها. فهو يتصف بنزعة حادة لإقصاء
الآخرين، وادعاء الوصاية الدينية عليهم، وإشاعة الخصام
والتنابذ. كما يشهد بأن الدكتور البراك لم يقرأ المقال
الذي كان يعقب عليه قراءة صحيحة ولم يفهمه حق الفهم، وأنه
بحاجة إلى من يصحح له مشكلاته المفاهيمية التي كشف عنها
(مقاله) هذا). ويعتقد المزيني بأن البراك أراد من مقالته
محاكمة إجمالية لكافة كتابات المزيني، وبالتالي لم يجد
ما يعينه على الكشف عن نقاط التقاء مع المزيني في مقالته
التي عقّب البراك عليها.
ردّ المزيني على البراك في تعقيبه التهكمي على استعمال
المزيني لمصطلح (التنوير) حيث حصر الفعل التنويري في (مشاهدة
افلام وتدريس الطالبات مباشرة) ليقدح في وعي المزيني لمفهوم
التنوير ولسلوكه أيضاً، فيما كان استعمال الامثلة خارج
سياقها وعلى الضد مما قصده المزيني في سياق قراءة مرحلة
ذات ميزات مختلفة، في مقابل تبدّلات سلوكية ومنهجية جرت
داخل الجامعة يعبّر عنها دخول طاقم تدريسي تقليدي من الخارج
والداخل الى صالات المحاضرات يحاضرون في موضوعات دينية
متشددة مثل الحجاب.
وحق للمزيني أن يعيب على البراك اسباغه على تعقيبه
طابعاً شخصياً يقترب كثيراً من النيل والتعريض بالشخص
أكثر مما يرتقي الى مستوى التعاطي مع الافكار بعقلية مجردة،
كيف وأن البراك يكاد يحرَّض في تعقيبه على المزيني كونه
يسخر من حرّاس الفضيلة وأنه يخض فيما لا يحس، وأنه يتحدث
في كل شي.
إن المقطع الملتهب في مقالة المزيني وهو ما يحسب عليه
قوله مايلي:
إن مضمون ما كتبه الدكتور البراك شاهد واضح على ما
كنت قد اتهمت الجامعة به من انحسار التنوير فيها؛ ذلك
أن واحدا من منسوبيها يأتي الآن بهذه الأغاليط المفاهيمية
التي تمثل دليلا آخر على أن مستوى بعض منسوبيها صار لا
يرقى إلى المستوى الذي يصلح أن يكون قدوة للطلاب من حيث
النضج المعرفي. أضف إلى هذا أن هذا (المقال!) ببنيته المتهالكة
وجمله الركيكة وبعض تعبيراته الخاطئة ومظاهر العجز عن
التعبير فيه شاهد على المستوى اللغوي غير المقبول من أستاذ
ينتمي إلى جامعة كانت منارا للفكر النير واللغة المشرقة.
وأخيرا فإن صورة الدكتور البراك المرفقة بـ (مقاله) شاهد
دقيق آخر على مدى التغير الذي حدث لجامعة الملك سعود في
السنوات الأخيرة وكان من أسباب انحسار التنوير فيها. ذلك
أن لأعضاء هيئة التدريس فيها سمتا ومظهرا معروفين لا تمثلهما
صورته تلك.
وقد أثار هذا المقطع حفيظة البعض كون المزيني تجاوز
حد النقد العلمي الى المعاملة بالمثل، حيث هبط الى مستوى
من الاسفاف والنيل من شخص البراك، فقد جاء في مقالة للدكتور
سليمان العيد في مقالة في جريدة المدينة بعنوان (وهل أخطأ
الدكتور البراك بثنائه على جامعة الملك سعود؟):(ولفت نظري
ذلك الهجوم الشنيع في المقال الذي ابتدأ بالتهمة بالتطرف
وانتهى بالسخرية من الصورة)، وبذلك فإن (الدكتور حمزة
المزيني انتقد الدكتور البراك في أمور هو نفسه وقع فيها).
كنا نأمل لو أن الدكتور المزيني لم يهبط الى حيث هبطت
لغة البراك في تعقيبه الأول، وإن النيل الشخصي كان مدخلاً
وذريعة لتصفية حسابات قديمة مع الدكتور المزيني الذي أتقن
بإحسان نقد المناهج التربوية الرسمية التي ساهمت في التشجيع
على العنف والتطرف.. ويبقى أن القضية تؤسس لسابقة خطيرة
في تاريخ حرية التعبير، ولكنها في الوقت نفسه ستفتح باب
الجدل على مصراعية من أجل حسم قضية خلافية حول الكلمة
والاوصياء عليها.
|