الشيخ صالح اللحيدان والتحريض على العنف
شرف لا يدعيه وتهمة واردة
في البرنامج الحواري الذي بثته محطة إم إس (مايكروسوفت)
إن بي سي ـ الأميركية خلال زيارة الامير عبد الله الى
الولايات المتحدة لعقد قمة كروفورد الثانية مع الرئيس
الاميركي جورج دبليو بوش جرى بث فقرات من حديث على شريط
فيديو للشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى يتضمن
تحريضاً على القتال في العراق. وقد اتصلت القناة بالشيخ
اللحيدان في السعودية وأسمعته الشريط فأكد بأنها كلماته
وقال بالعربية: (نعم هذا صوتي). وقد أثار الشريط ردود
فعل واسعة في الساحة الاميركية حيث اعتبر ذلك من الادلة
المادية على تورط مسؤولين في الدولة ممن يتبنون العنف
ويحرّضون على مقاتلة الاميركيين في العراق، بما يشكل خرقاً
للمهمة التي جاء من اجلها الامير عبد الله لترميم العلاقات
المتدهورة بين الولايات المتحدة والسعودية منذ أحداث الحادي
عشر من سبتمبر.
ألم يكن داعية لفكر العنف والإرهاب؟
|
شريط اللحيدان الذي تم تسجيله حسب القناة بصورة سرية
في أحد المساجد التابعة للحكومة في شهر أكتوبر الماضي
صار المادة الخبرية الأبرز في كبريات الصحف الاميركية
مثل الواشنطن بوست ونيويورك تايمز الى جانب المنتديات
الحوارية في الولايات المتحدة. الشريط الذي حمل صوت وصورة
اللحيدان ينقل دعوة الاخير للجهاد في العراق، وقد قامت
القناة الاميركية امتثالاً لقواعد المهنة الاعلامية بالاتصال
باللحيدان في مكتبه وسألته عن رأيه في الشريط كما طلبت
رأيه في الشريط المسجل فأكد للقناة بأنه صوته وأن الفتوى
له وهذا مصدر الاحرج الشديد للحكومة السعودية ولولي العهد
الامير عبد الله والوفد المرافق له، الامر الذي جعل من
الرد الفوري على الحملة الاعلامية شديد الالحاح درءا لتداعيات
ذلك على نتائج الزيارة المهمة لولي العهد الى امريكا.
اعتبرت بعض وسائل الاعلام السعودية تسليط الصحافة الاميركية
على الخطاب التحريضي لدى اللحيدان جزءا من حملة جهات متشددة
وربما صهيونية تستهدف إفشال قمة كروفود الثانية بين الامير
عبد الله والرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، وأن هذه الجهات
ترى في المصالحة وإعادة بناء التحالف الاستراتيجي بين
الرياض وواشنطن ضرباً لمصالحها. ومع صحة هذا الرأي نسبياً،
الا أن من الانصاف أيضاً التأكد من صحة المزاعم المنسوبة
الى اللحيدان، فالتشدد والدعوات المضمرة وشبه العلنية
أحياناً على العنف لم تعد شيئاً استثنائياً، فهناك عدد
من الخطابات والبيانات التحريضية التي صدرت خلال العامين
الماضيين تحرّض بصورة غير مباشرة على الجهاد في العراق
ليس ضد الاميركيين فحسب بل وضد المصالح العراقية، وليست
المجموعات السعودية التي تتسلل عبر الحدود الشمالية قد
اختارت بملء ارادتها طريق ذات الشوكة، لولا وجود محرضين
في الداخل على هذا الأمر.
على اية حال لقد شكّل شريط اللحيدان مادة دسمة للطعن
في نوايا الحكومة السعودية وخطتها في مكافحة الارهاب،
وان العائلة المالكة تتبنى خطاباً مزدوجاً فهي في العلن
تدين وتقاوم الارهاب ولكنها في السر تحرّض عليه.
إن الضجة التي أعقبت بث فقرات من حديث اللحيدان لابد
أنها تركت أثراً بالغاً على الحكومة السعودية، وهو ما
دفع بالشيخ اللحيدان كيما يصدر، وبطلب من جهات في العائلة
المالكة، بيان نفي وتكذيب بلغة مفرطة في الحدة والدفاعية.
لقد وصف أحد المعلقين بيان اللحيدان بأنه بيان مكتوب بدقة
(وكأنه كتب في مكاتب وزارة الخارجية)، إشارة الى أن ثمة
جهة في العائلة المالكة تقف وراء البيان.
البيان كان ينضح بالانفعالية واللاتوازن وقد استعاض
اللحيدان عن رد التهمة بأدلة مماثلة فقد اكتفى بترديد
مفردات قديمة توحي وكأن معدها كان يقصد تبرئة العائلة
المالكة من التورط في اعمال العنف في العراق او التحريض
عليها. لم يكن البيان الصادر في الاول من مايو متوازناً
في لغته ولا أسلوبه، رغم البداية المنطقية المفتعلة التي
أضفيت على مقدمته، فقد كان المراد نفي ما ورد دون حاجة
للدخول في التفاصيل دفعاً لضرورة الانشغال بتقديم الادلة.
لقد اعتبر اللحيدان ما نسب اليه من تحريض على الارهاب
ودعم الارهابيين في العراق والسعودية مجرد (أمر ودعوى
لا صحة لها جازما أن وراء هذه التهمة أهل إجرام ومريدي
إساءة).
وفي محاولة للتراجع عن تصريحه للقناة، فقد عمد اللحيدان
الى تحميل العاملين في التقنية الصوتية مسؤولية ذلك على
اعتبار ان عبارة التحريض خرجت من غير حنجرته وأن الصوت
ليس بصوته (ما قيل عن شريط فيه صوتي وأنني قلت نعم هذا
صوتي فأنا لست ممن له تسجيلات سرية وأخرى علنية على الإطلاق
وعملية التلفيق وإدخال كلام في كلام في دبلجة تسجيلية
أمر معلوم وقطع ما لا يراد وإبقاء ما يظن أنه يحقق الأهداف
الخبيثة أمر لا يخفى على كل عاقل عارف بأحوال التسجيلات).
إذن الامر ليس اعلامياً بحتاً بحسب اللحيدان بل هناك ثمة
أهداف اخرى يراد تحقيقها من وراء بث الحديث المنسوب اليه.
من اللافت أيضاً في بيان اللحيدان أنه يعكس أغراض السياسة
بدرجة أساسية فيما تختفي أو لنقل يتخفض فيه البعد القضائي،
ففي حالة كهذه ينتظر منه استناده المتكرر الى المرجعية
القضائية، باعتبار أن حديثاً مزعوماً كهذا حسب رأيه يندرج
في سياق التشهير والافتراء والقذف، وهو العارف بأمور القضاء
حسب زعمه، وكان مؤملاً بعد ذلك أن يعلن عن رفعه قضية تشهير
وقذف ضد القناة، ولا يعدم اللحيدان بوصفه رئيساً لمجلس
القضاء الاعلى في البلاد الوسائل المناسبة والقنوات السريعة
في ذلك. لكنه لم يفعل ذلك، وتعامل مع القضية من منظور
سياسي خالص، واكتفى بالتظّلم الذي باتت لغة مكرورة للحكومة
منذ الحادي عشر من سبتمبر، مشيراً بأصابع الاتهام الى
جهات غير معلومة تستهدف النيل من سمعة المملكة وأهلها
وولاة امرها (إنني أجزم أن وراء هذه التهمة أهل إجرام
ومريدي إساءة ليس لي وحدي بل إلى دولة لم يعرف عنها إلا
الخير وحب الإحسان والمشاركة في تفتيت المخاطر عن كل متضرر
أو مظلوم إن اتهامي بما قيل جرم وظلم وعدوان وقد يكون
وراء هذا التلفيق واختلاق معان لا أتحمل اعتناقها ولا
أرضى لأحد بالاتصاف بها لأنها لا تليق بمن يتقي الله ويخشاه
وينفر من الظلم ويمقت العدوان).
يؤكد اللحيدان على موقعيته الحساسة وكونه يحمل في كفه
ميزان العدل الذي يلزمه بالنصفة من نفسه ومن غيره، وهذا
يجعله حارساً أميناً على ما يصدر عنه من قول وفعل (إنني
قاض أعرف دلالات الكلام إن مايحدث في العراق من خطف للأبرياء
وأخذ رهائن أو تفجيرات لايرضى به عاقل ولا يقره مؤمن ولكن
إذا كان وراء الإشاعات واختلاق المواقف ورمي الأبرياء
بما ليس فيهم مجرمون حاقدون جريئون على الكذب). ولكن هل
مجرد كونه قاضياً وعارفاً بدلالات الاحكام كافياً لاثبات
نزاهته، فكم قاضٍ نقض حكماً شرعياً واتبع الشهوات وسقط
تحت بريق الدرهم والدينار وخالف أوامر الله وأطاع أوامر
حكام الجور. وأين اللحيدان من الاتهامات الباطلة التي
وجهها القضاء الذي يرأسه ضد الدكتور ربيع صادق دحلان مثلاً
من بين عشرات الابرياء من أمثاله وقد أثبتت الادلة الموثّقة
براءته من تلك التهم، فيما تواطىء القضاء والامراء الكبار
على تلفيقها ولصقها به. وكان الامير ماجد أمير مكة السابق
قد بعث برسالة توضيحية موثّقة الى اللحيدان ينفي كل الاتهامات
المنسوبة الى الدكتور ربيع دحلان ويطلب منه (إتخاذ ما
يرونه مناسباً لصرف النظر عن هذه الدعوى لعدم الاختصاص)،
ولكن اللحيدان أشاح بوجهه عن الحقيقة واتبع ما يمليه عليه
الامير نايف وزير الداخلية، بل أقرّ بالظلم ولم يغيّر
ما على الظالم من قول ولا فعل، بل شارك في اللعبة السديرية
الهادفة الى عزل الامير ماجد رحمه الله من الامارة عن
طريق اقتلاع وكيله الدكتور دحلان واصدار قرار باعتقاله
رغم محاولات يائسة قام بها عدد من وجهاء الحجاز للتوسط
لدى الامير عبد الله الذي استقبلهم اسوأ استقبال ورجع
الوفد منكسراً خائباً، بل وتم اصدار قرار بإحالة الدكتور
دحلان الى التقاعد ابتداءً من اليوم الاول لاعتقاله الى
أن انتهى به الحال للغربة عن وطنه بفعل جور القضاة.
نقطة القوة الوحيدة التي يستند عليها بيان النفي الذي
أصدره اللحيدان هي خلو أحاديثه من التحريض على العنف داخل
السعودية وهو محق في ذلك، فهو معروف بولائه الشديد لولاة
أمره وطاعته لأوامراهم ونواهيهم حتى في مجال القضاء، ومن
الخطأ الخلط بين رفضه بل وإنكاره العنف في الداخل وبين
تشجيعه المقاتلين ان ينأوا بعملياتهم الجهادية عن بلاد
الحرمين وليجدوا في القوات الاميركية ودماء العراقيين
عوضاً كافياً وأجراً جزيلاً في الآخرة. نعم يسجل له قوله
(إنني أتحدى كل مدع يزعم أنني أحرض السعوديين أو غيرهم
بأن يسافروا للعراق لتقتيل الأمريكان والعراقيين بأن يأتي
على ذلك بدليل يصلح للاعتماد عليه وأسوأ من ذلك اتهامي
بالتحريض على الإرهاب والتفجير في السعودية كأني لست الذي
يؤيد قتل هؤلاء الإرهابيين).
إن اللغة الدفاعية التي أبداها اللحيدان في بيانه تصدر
عن إحساس مفرط بالخطأ، يتلوه مبالغة مفرطة في تبرئة الذات،
فهو لم يقصر بيانه على الشريط المنسوب اليه، بل تجاوزه
الى الانخراط في الممانعة الرسمية للاتهامات المتصاعدة
ضد الحكومة السعودية في الغرب والولايات المتحدة. فهو
يقول (إنني وحكومتي بحول الله في غاية البراءة من أن تكون
لنا مواقف معلنة تدعي البراءة وضدها مواقف سرية تدعو للفساد
فلم تكن هذه تربيتنا بل نحن وولاة أمرنا أهل صدق وصراحة
وأهل عدل ووفاء). وهذه الفقرة من البيان تشي بأكثر من
تحمّل مسؤولية الدفاع عن العائلة المالكة إزاء وصمة الازدواجية
التي لحقت بها منذ سنوات، وهي وصمّة عزّزها وزير الداخلية
بدرجة أساسية الذي عقد اتفاقاً مقدساً مع رجال دين متشددين
لحث المقاتلين في الداخل على الهجرة الى العراق وممارسة
العمل الجهادي خارج حدود المملكة، بل أكثر من ذلك، فإن
هذه الفقرة تشي بعودة غير حميدة الى الخطاب الرسمي التقليدي
المستعمل ما قبل التسعينيات، أي قبل سقوط أوراق التوت
من شجرة العائلة المالكة التي باتت تصنّف في الادبيات
السلفية الجهادية بوصفها من العوائل الدنيوية التي أظهرت
الكفر البواح. لم يكن اللحيدان بحاجة الى هذا النوع من
الخطاب التبريئي، فالخطاب الديني السلفي يختزن كمية هائلة
من التحريض على العنف وليس ذلك من الاسرار الخافية التي
تتطلب جهداً خارقاً أو ربما نشاطاً سرياً من أجل الكشف
عنه، فالمكتبات العامة والجوامع والمدارس فيها ما يكفي
من الكتب والمحاضرات الناضحة بتوجيهات جهادية مباشرة،
وهي كفيلة بتجنيد العشرات من الشباب غير الراشدين ذهنياً
ودينياً للانخراط في مشاريع تضحوية جاهزة. فمئات الافراد
من مواطني هذا البلد الذين تم القبض عليهم في سوريا والعراق
لم يسقطوا من كوكب آخر على العراق، ولم يقرروا الهجرة
والجهاد بمحض الصدفة أو بوحي من حلم رأوه في المنام وإنما
لأن هناك شبكة توجيه ديني صنعت وعياً جهادياً بصبغة دامية،
فوجدوا أن تلبية النداء يتم عبر تمزيق أجسادهم وضحاياهم.
وبصرف النظر عما قيل عن حديث اللحيدان وبيان النفي
الصادر عنه، فإن هناك كثيرين في المملكة يدركون تماماً
بان مثل هذه الاحاديث المحرّضة على التطرف في الداخل والخارج
وتشجيع جماعات العنف على نقل عملياتها الى العراق واردة
بل وشائعة. ولعل كلمة الامير عبد الله الى العلماء قبل
سنتين مازالت حاضرة في الاذهان حين دعى العلماء وبالذات
المبلّغين الدينيين الضالعين في توجيه الخطاب المتشدد
الى عدم احراج الدولة والنظر بعين الحكمة الى الاوضاع.
وقد جاءت الكلمة بعد أن كثّفت وسائل الاعلام الغربية والاميركية
على وجه الخصوص اهتماماً خاصاً بمكوّنات الخطاب الديني
المنتشر في السعودية عبر الكاسيتات والكتيبات الصغيرة
والمصنفات الدينية لزعماء السلفية، والتي كشفت عن المضامين
المتطرفة والمحرضة على العنف والكراهية الدينية، والتي
تشكل المادة الايديولوجية والذرائعية لجماعات العنف ليس
في السعودية فحسب بل وللجماعات المتأثرة بالخطاب الديني
السلفي في أنحاء عديدة من العالم.
|