العلماء والسلطة
راوحت العلاقة بين العلماء والسلطة طيلة التاريخ الاسلامي
وحتى الوقت الراهن بين النفور التام والمصاهرة السياسية
القائمة على الاستتباع وبين الانسجام المستند على تقاسم
الأدوار. هذه العلاقة بكل تبدلاتها لا تمس بحال الرؤية
الدينية حيال مركزية السلطة فيما يرتبط بالحاجة الى السلطة
لإقامة الدين وتطبيق الشريعة، فقد كان لابد لهذا الدين
من قوة يتوسل بها لنشر تعاليمه، وتعميم قيمه في تحقيق
العدل، وحفظ المصالح، ودرء العدوان بشتى أشكاله. فعن قتادة
قال: قوله تعالى: (قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج
صدق) قال ونبي الله صلى الله عليه وسلم قد علم أنه لا
طاقة له بهذا الأمر الا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب
الله وحدود الله ولفرائض الله ولاقامة كتاب الله وأن السلطان
عزة من الله جعله بين أظهر عباده ولولا ذلك لأغار بعضهم
على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
فالحكومة من وجهة نظر الاسلام أصل لا يصح تغافله أو
الاستغناء عنه، كما أن تجارب التاريخ الاسلامي منذ المرحلة
المبكرة لبزوغ فجر الاسلام تكشف بجلاء عن حقيقة العلاقة
الحميمية بين الدين والسياسة، فقد أسس الرسول صلى الله
عليه وسلم منذ وطّدت أركان الدين في المدينة المنورة حكومة
تنظم أمور الحياة العامة، وتحدد الحقوق والواجبات الفردية
والجماعية.
إن التشابكات السياسية التي جرت في وقت لاحق وتحديداً
بعد مرحلة الخلافة الراشدة، ونزوع السلاطين الى الاستئثار
بالحكم ايذاناً بفصل المؤسستين الدينية والسياسية عن بعضهما،
ونزوع الخلفاء الى إخضاع العلماء تحت تأثير ممليات السياسة
أعاد إحياء ما حذّر منه الحبيب المصطفى صلى الله عليه
وسلم. في واقع الأمر، إن في التراث الديني الاسلامي ما
ينبىء عن شكل من أشكال العزوف عن السلطة كونها إحدى تمظهرات
التعلّق بأمور الدنيا التي جاء الدين لينمي لدى المؤمنين
مشاعر إيمانية تنأى عن الوقوع في شراكها أو الخوض في حبائلها.
إن ثمة أحاديث مستفيضة في المصادر الاسلامية تحذّر
من الاقتراب من السلطة أو معاشرة أهل الحكم والاختلاط
بأمورهم كونها تقود الى الافتتان بالدنيا. فقد روى ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سكن البادية
جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن اتبع السلطان إفتتن. وعن ابي
هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بدا
جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان أفتتن وما
ازداد عبد من السلطان قرباً الا ازداد من الله بعداً..
بل أكثر من ذلك، فإن في الاحاديث الدينية ما يربط بين
السلطة والشر، وكأن الاولى مجبولة من الناحية التكوينية
على الفساد والافساد، مالم تخضع لعملية تقويم وتصحيح دائمة
من قبل المصلحين. فعن عروة بن محمد قال حدثني ابي عن جدي
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا استشاط السلطان
تسلط الشيطان). وعن جابر بن سمرة قال سمعت رسول اله صلى
الله عليه وسلم يقول: ثلاث أخاف على امتي الاستسقا بالأنواء
وحيف السلطان وتكذيب القدر. وعن أبي سعيد الخدري قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة عند سلطان
جائر. وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (ومن أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان
ولا يخلون بالنسوان ولا يخاصمن أصحاب الاهواء).
إن الاهمية القصوى التي تحظى بها السلطة في المجال
الحيوي للدين تؤكد أيضاً حقيقة أخرى وهي ان تغيير المجتمع
يتم بزوال السلطة. يقول ابو الحسن علي بن ابي طالب رضي
الله عنه (إذا تغير السلطان تغير الزمان) بما يعني أن
للسلطة دوراً مركزياً في التغيير الاجتماعي وكأنما يشير
كلام علي كرم الله وجهه الى أن تغيير السلطة من أعلى يؤدي
الى إحداث تغييرات اجتماعية جوهرية.
مما يلفت الانتباه أيضاً في الاحاديث النبوية أن تحذيراً
مبالغاً من جور السلطة في آخر الزمان ورد في الاحاديث،
بوصفه ـ اي الجور من العلامات الدّالة على نهاية الحياة.
ففي رواية حفيد أبي ذر الغفاري عن أبيه عن جده عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا اقترب الزمان كثر لبس
الطيالسة وكثرت التجارة وكثر المال وعظم رب المال بماله
وكثر الفاحشة وكانت إمارة الصبيان وكثر النساء وجار السلطان
وطفف في المكيال والميزان).
وهناك حديث مماثل بهذا المعنى عن علي بن ابي طالب رضي
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أبغض
المسلمون علماءهم وأزهروا عمارة أسواقهم وتناحكوا على
جمع الدراهم رماهم الله عز وجل بأربع خصال بالقحط من الزمان
والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والصولة من
العدو. وفي حديث عن معاذ بن جبل عن الرسول صلى الله عليه
وسلم في حديث طويل نورد منه موضع الشاهد :(..الا أن الكتاب
والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا أنه سيولى
عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم فإذا عصيتموهم
قتلوكم وإن أطعتموهم أحلوكم قالوا يارسول الله كيف نصنع
قال كما صنع أصحاب عيسى بن مريم نشروا بالمناشير وحملوا
على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله).
وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(سيكون
أمراء بعدي يعرفون وينكرون فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم
سلم ومن خالطهم هلك).
إن الصورة السالبة التي ترسمها التعاليم الدينية عن
السلطة تعكس جانباً من تجارب الحكم في تاريخ الاسلامي،
حيث كان الجور والقمع والاثرة بمصادر القوة والثروة في
بلاد المسلمين معالم ثابته في الزمن القديم وحتى الوقت
الراهن. إن تسلّط الحكام والخوف من جورهم هو ما تعكسه
بعض الاحاديث النبوية المروية عن الصحابة، وكأنها تخبر
عن حال المسلمين في أزمنة لاحقة. فعن ابن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (إذا تخوّف أحدكم السلطان فليقل
اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم كن لي جاراً
من شر فلان بن فلان وشر الجن والانس وأتباعهم أن يفرط
علي أحد منهم عز جارك وجل ثناؤك ولا اله غيرك).
وعن ابن عباس قال إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن
يسطو بك فقل الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعاً الله
أعز مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الممسك السموات السبع أن
يقعن على الارض الا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه
وأشياعه من الجن والانس، الهي كن لي جاراً من شرهم، جل
ثناؤك، وعز جارك، وتبارك أسمك، ولا اله غيرك).
العلماء وكراهية السلطان وهداياه
إن عزوف العلماء عن السلطة وكراهية الاقتراب من مجالس
أهل الحكم تندرج في سياق الزهد في الدنيا كما حثّت عليها
قيم الاسلام وتعاليم المصطفى صلى الله عليه وسلم. فعن
عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله يقول: إن أول ثلة
تدخل الجنة الفقراء المهاجرين الذي تبقى بهم المكاره واذا
أمروا سمعوا وأطاعوا واذا كانت لرجل منهم حاجة لم تقض
له حتى يموت وهي في صدره..).
لقد كان العلماء يحذرون السلطان حتى لا يصيبهم عواقب
الاستتباع والخضوع، ففي خبر بشر بن الحكم ثنا سفيان عن
الزهري قال كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا علينا السلطان
فكرهنا أن نمنعه أحداً.
وقال وهب بن منبه لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم
قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون الى
أهل الدنيا ولا الى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون
اليهم دنياهم رغبة في علمهم.. ثم قال: (فإياك يا عطاء
وأبواب السلطان، فإن عند أبوابهم فتناً كمبارك الإبل،
لا تصيب من ديناهم شيئاً الا أصابوا من دنياك مثله).
وقال خالد بن زيد: سمعت محمد بن ابو جعفر الباقر يقول:
قال عمر بن الخطاب إذا رأيتم القارىء يحب الاغنياء فهو
صاحب الدنيا واذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص.
بل كان العلماء يزهدون في هدايا السلطان ويمتنعون عن
قبولها وكان بعض الخلفاء قد بعث مالاً مستكثراً الى البصرة
ليفرق في فقراء أهلها، وأمر أن يدفع الى محمد بن واسع
فلم يقبله ولم يلتمس منه شيئاً، وأما مالك بن دينار فإنه
قبل ما أمر له به واشترى به أرقاء وأعتقهم ولم يأخذ لنفسه
منه شيئاً فجاءه محمد بن واسع يلومه على قبوله جوائز السلطان،
فقال له: يا مالك قبلت جوائز السلطان؟ فقال له مالك: يا
أبا عبد الله سل أصحابي ماذا فعلت فيه، فقالوا له: إنه
اشترى أرقاء وأعتقهم، فقال له: سألتك بالله أقبلك الآن
لهم مثل ما كان قبل أن يصلوك فقام مالك وحثى على رأسه
التراب، وقال: إنما يعرف الله محمد بن وساع إنما مالك
حمار إنما مالك حمار.
وكان الاوزاعي في الشام معظماً مكرماً أمره أعزّ عندهم
من أمر السلطان، وقد همّ به بعض الولاة مرة فقال له أصحابه:
دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك. ولما
مات جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله
لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاّني يعني المنصور..
وروي أن الامام أحمد بن حنبل كان لا يصلي خلف عمه اسحاق
بن حنبل ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضاً لأنهم أخذوا جائزة
السلطان. ورفض بن حنبل أن يأكل خبراً خبزه جماعة من أصحابه
وقد عرفوا حاله في تنور بيت رجل يدعى صالح. يقول البيهقي
لأن صالحاً أخذ جائزة السلطان وهو المتوكل على الله. وقد
اجتمعوا عليه ذات مرة بأن السلف قد قبل جوائز السلطان
فقال: وماهذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من
حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال. بل امتنع أن يدخل بيت
قرابته أو يدخل بيتاً هم فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه
لأجل قبولهم أموال السلطان.
وكان عدم قبول الهدايا يعد منقبة في سيرة الرجل، ونقرأ
في ترجمة بنان بن محمد بن حمد أن بن سعيد ابو الحسين ويعرف
بالجمّال (ت 316هـ) وكانت له كرامات كثيرة وله منزلة كبيرة
عند السلطان، ويضيف (وكان لا يقبل من السلطان شيئاً).
إن مقت السلطة من الناحية المبدئية تكشف عنه ردود أفعال
العامة حال هوان السلطان، كما تنبىء عن ذلك حركة العيارين
التي ظهرت في بغداد في الربع الاول من القرن الخامس الهجري
حين استهانوا بأمر السلطان، كما يكشف عنه ايضاً تفرّق
العلماء والعامة سواء بسواء عن السلطة حال ضعفها وتدهورها.
|