نقد مقالة شاكر النابلسي
نعم.. الديمقراطية تليق بنا!
يحلو لبعض المراقبين العرب والاجانب من الخارج استعمال
أدوات التحليل السيسيولوجي في قراءة التحوّل السياسي في
السعودية، وقد يصيبوا، أحياناً، في تشخيص طبيعة التحول
والعوامل الضالعة فيه وحتى المعوقات الرئيسة التي تحول
دون ترعرعه. ولكن غالباً ما ينقص هذا النوع من التحليل
فهم المستور الثقافي والاستبطانات النفسية التي تقرر في
أحيان عديدة إتجاهات التفكير لدى قطاع كبير من المجتمع.
قراءة النابلسي تقترب الى حد كبير من القرآة الخارجية
لقضية ذات خصوصية غير مدركة في التحليل السيسيولوجي العام،
وليست الخصوصية هنا تعزيزاً لمفهوم الخصوصية المشاع استعمالها
في الخطاب الرسمي بقدر ما هي خصوصية موضوعية، تتَّصل بدرجة
أساسية في التكوين النفسي والثقافي لأي مجتمع.
وقبل البدء في تفكيك مقالة النابلسي الموسومة (هل تليق
الديمقراطية بالسعوديين؟) فقد هبّ في مرحلة مبكرة للدفاع
عن وجهة نظره، مشفوعة بإثباتات أخرى لتأكيد قدرته على
تقديم قراءة واقعية وعلمية للوضع السياسي السعودي، وله
الحق في ذلك. فحسب تعريفه الوارد في مقالته الثانية، كتب
النابلسي ثلاثة كتب في الثقافة والتنمية طيلة قرابة ثلاثين
عاماً (1968 ـ 1996) تناولت جوانب من السعودية، وحسب تعبيره
فإنه (كتب فيها وعنها) هذه الكتب الثلاثة، اي (سعودية
الغد الممكن)، (المسافة بين السيف والعنق)، و(نبت الصمت)،
ينضاف اليها عشرات المقالات في الصحف المحلية والدولية.
وتعريف كهذا يكبح، دون ريب، أية إنطباعات عاجلة يمكن
أن تحدثها مقالة النابلسي بصرف النظر عن التوافقات والتعارضات
مع محتوياتها. فالرجل يتقعّد في رؤيته التحليلية على خبرة
مباشرة وخلفية علمية وأكاديمية صلبة، ولذلك فلا يمكن تفكيك
مقالة النابلسي دون وضع تلك الاعتبارات في موضعها المناسب
قبل الانشغال بتقويض المدعى، أو إبداء التحفظ في على أحكام
النابلسي وبالتالي الانتقال من العلمي الى الايديولوجي.
بإمكان النابلسي حشد كافة الادلة الداعمة لأية فكرة
وردت في مقالته، فهناك من الادلة ما يكفي لاثبات الشي
ونقيضه في هذا البلد. وبإمكان التوسل أيضاً بمنهج التحليل
الطبقي للسعودية وتحقيب التطور الاجتماعي في هيئة تحوّلات
في وسائل الانتاج، وقد تجد في هذا المنهج ما يوافقه في
الواقع، أي انطباقه على جزء من هذا المجتمع، فالزراعة
تمثل الحرفة الرئيسية بين سكان المنطقة الشرقية ومناطق
اخرى كالجنوب، فيما يمثل الرعي الحرفة الرئيسية بين سكان
المناطق الوسطى والشمالية وبعض الأجزاء من المنطقة الشرقية،
اما منطقة الحجاز فيغلب عليها حرفة التجارة بأشكالها المختلفة.
لاشك أن تحليلاً نمطياً جرى استعماله في التنظير لعملية
الاصلاح السياسي والاجتماعي في السعودية، وهذا التحليل
يقوم على إدراج السكان ضمن بوتقة إجتماعية موحدة، لها
خصائص ثقافية واجتماعية وسياسية ونفسية مشتركة، وبالتالي
فإن إخضاع سكان هذا البلد الى نوع من القوانين ذات الطبيعة
الشمولية والجماعية قد يكون سهلاً ولكن يجافي الحقيقة
تماماً.
العيش في بلد قد لا يعني إدراك أسرارها ومفاتيحها الداخلية،
خصوصاً في المجتمعات المحافظة والمغلقة، فالتعاملات الظاهرية
يتم وفق بروتوكولات تتسم بالمجاملة والترضيات الهادئة.
فكثير من الناس عاديين ومثقفين عاشوا عقوداً من الزمن
في بلدان لا يتقنون لغة أهلها، ولا يدركون من ثقافة البلد
المضيف سوى ما يصادفونه في طريقهم، دون قصد منهم أو سعي.
إن الفترة التي قضاها النابلسي في السعودية لاشك تمثل
أثرى مراحل التحول التي شهدها هذا البلد في إتجاهات عدة
ثقافية وسياسية واقتصادية، ولاشك أن المخاضات التي شهدتها
تلك المرحلة بكل ما نتج عنها من تبلوّرات ثقافية وحزبية
تمثل مادة بحث غنية، وتحمل في جوفها مغريات البحث والوصول
الى نتائج ذات طبيعة جاذبة ومثيرة، وقد تبدو في الظاهر
أنها متوافقة مع الشروط الداخلية والمكونات الاجتماعية
والسياسية المحلية ولكنها تقع خارج السياق الحقيقي والموضوعي.
سؤال النابلسي الافتتاحي في مقالته المنشورة في ايلاف
في الحادي والعشرين من مايو الماضي يعد جوهرياً ومشروعاً،
فهل تليق حقاً الديمقراطية بالسعوديين؟ ولكن حدود السؤال
يجب أن تظل مفتوحة لتستوعب كل شعوب العالم، إذ ليس السعوديون
سكان غير هذه الارض فلم يهبطوا من كوكب آخر ولا يعيشون
في غابات الأمازون، فهم جزء من عالم يموج بتحولات في بناه
التحتيه والدافعة نحو تحريك أسس البنى الفوقية. إن مجرد
طرح سؤال من قبيل هل تليق الديمقراطية بالسعوديين، يكون
السائل قد أخرج السؤال من حيزه البحثي العلمي المحايد
الى المجال الذي يريد منه إثبات النتيجة سلفاً، أي أن
السؤال قد حمل معه إجابته قبل الشروع في البحث. إذ لم
يكن القارىء بحاجة الى بذل عناء كبير للوصول الى المنتهى
الاخير للمقالة وهو أن السعوديين لم يبلغوا درجة تأهيلية
كافية لممارسة الديمقراطية، وأن ثمة مسافة بعيدة تفصلهم
عن التحول الديمقراطي الحقيقي.
الإنتخابات البلدية: نستحق أفضل من هذا!
|
ولكن هل ثمة ما يعزز عقيدة النابلسي النافية لجدارة
سكان هذا البلد لمزاولة الديمقراطية على أسس صحيحة. أول
وربما أقوى مثال يستند عليه النابلسي في تعزيز عقيدته
هي الانتخابات البلدية التي جرت لأول مرة في السعودية
منذ سبعين عاماً. وهذه التجربة الانتخابية حسب النابلسي
(كان من المفروض أن تكون.. تجربة سياسية غنية تدفع بالدولة
السعودية إلى مزيد من الانفتاح السياسي الديمقراطي وزيادة
الجرعة الشعبية الديمقراطية في السنوات القادمة). وهذا
الكلام صحيح في ظاهره، وهو يترجم بأمانة فائقة مضامين
العرائض الاصلاحية التي رفعها التيار الاصلاحي الوطني
في السعودية.
بيد أن استدراكاً مثيراً أعقب ذلك يستحق التأمل، حيث
يرى النابلسي بأن هذه التجربة (كشفت بأن ثمرة الديمقراطية
في السعودية ما زالت ثمرة عجرة غير ناضجة وهي بحاجة إلى
وقت لانضاجها وربما سقطت قبل نضوجها وهي ما زالت عجرة
بانتظار مواسم أزهار قادمة وربيع ديمقراطي قادم). هذا
الاستدراك ينطوي على انقطاع الكاتب شبه الكامل عن سيرورة
الاوضاع الداخلية منذ يناير عام 2003، وهو ما دفع بالنابلسي
للاعتقاد بأن ثمرة الديمقراطية غير ناضجة، وقد يستبطن
ابراءً لذمة النظام السياسي، وربما إشادة ضمنية به كونه،
كما يردد بعض الرسميين السعوديين، متقدماً زعماً في المسار
الديمقراطي على الشعب بما فيه من قوى سياسية واجتماعية
وتيارات فكرية.
مايبعث على الغرابة أن يستند النابلسي، في تعزيز وجهة
نظره، على حوادث كان من الضروري سبر أبعادها غير المنظورة
بدلاً من استعمالها بمفردها وعلى ظاهرها كأدلة قوية على
أن من يصفهم بالسعوديين غير مؤهلين للديمقراطية.
سنحاول ان نعيد قراءة درس الانتخابات البلدية السعودية
من خلال استخلاصات النابلسي من أجل موضعة الاستخلاصات
في سياقها التطوري الطبيعي.
لحظ النابلسي من خلال درس الانتخابات البلدية بأن الشعب
السعودي لم يولِ اهتماماً خاصاً بـ (هذا الحدث السياسي
التاريخي المهم) الذي (طالب) بـ (تحقيقه) الاصلاحيون السعوديون
في بياناتهم المتعددة، والذي دفع جزء قليل منهم ثمناً
غالياً لهذه البيانات، التي يبدو أنها جاءت في المكان
غير المناسب وفي الوقت غير المناسب أيضاً.
في حقيقة الأمر أن هذه الملاحظة تنطوي على مغالطات
عدة وخطيرة، بعضها مرتبط بتوصيف الحالة وثانياً بالموقف،
وفي كل الاحوال تكشف عن ضعف المتابعة والرصد الدقيق لدى
النابلسي. فإن عزوف قطاع واسع من السكان السعوديين عن
المشاركة في الانتخابات البلدية كان في جزء كبير منه رفضاً
ضمنياً للبداية المتخلفة للمسيرة الاصلاحية، فالعرائض
الاصلاحية الوطنية، وعلى خلاف ما يذكر النابلسي، أكّدت
على مبدأ الانتخابات التشريعية والبرلمانية، ووضع دستور
شامل وتفصيلي تحدد فيه الحقوق والواجبات، ويعاد النظر
في سلطات الملك وامتيازات العائلة المالكة، وتقرُّ فيه
الحريات العامة بما في ذلك حرية الاجتماع والتعبير. فالانتخابات
البلدية إذن لم تكن (الحدث السياسي التاريخي) المنتظر
من قبل التيار الوطني الاصلاحي، ولم يطالب الاخير بانتخابات
بلدية عرجاء وعوراء لتنتج مجالس مشلولة الارادة معطوبة
الصلاحية، فكان من المفترض أن يرجع النابلسي الى محتويات
عرائض التيار الاصلاحي الوطني قبل أن يقدّم ويؤخّر في
المطالب، وإنما دفعت ثلة من الرموز الاصلاحية ثمناً غالياً
لمطالب كبيرة حظيت بتأييد القوى السياسية والاجتماعية
الفاعلة والممثلة للطيف العام في السعودية، وهي ضريبة
لابد للأحرار والشرفاء أن يدفعوها من أجل نيل الحرية والكرامة.
وعلى عكس ما يعتقد النابلسي فإن البيانات جاءت في مكانها
المناسب وفي وقتها المناسب، فالبيانات باعتراف طيف واسع
من الباحثين الاكاديميين والمراقبين والحكماء عبّرت عن
مستوى نضج لدى القوى السياسية والاجتماعية في هذا البلد
فاق نظيره لدى دول عديدة، خصوصاً، وهذا هو المهم، أن من
صاغوا البيانات يتحدَّرون من خلفيات أيديولوجية وسياسية
وإجتماعية متنوعة، وقد أقرّوا بهذا التوافق التعددي على
أساس المصلحة الوطنية العليا.
إن إنخفاض معدل التسجيل والتصويت في الانتخابات البلدية
لا يجب النظر اليه بمعزل عن تطورات أخرى كان من الضروري
على النابلسي أن يأخذها بعين الاعتبار، والا فستأتي الاحكام
على مثل تلك الحوادث كارثية، تماماً كما الاحتجاج بالطقس
الربيعي!! كمحفّز على المشاركة في التصويت.
السياق الصحيح الذي يجب أن يطرح فيه عزوف قطاع كبير
من السكان، وخصوصاً في المناطق الوسطى والغربية وغيرها
عن المشاركة في التصويت هو أن ثمة تطورات سياسية داخلية
أحدثت اهتزازاً عنيفاً لكل أشكال اصلاحية خادعة يمكن استعمالها
كقوة جذب للسكان، الذين تهاوت أمامهم مصداقية العائلة
المالكة منذ اقدام الامير نايف على اعتقال مجموعة من رموز
الاصلاح، والغاء الحريات العامة بما في ذلك حرية التعبير.
إن عقد مقارنة بين عدد المسجّلين في الانتخابات البلدية
وحجم الاقبال على الاكتتاب في بنك البلاد الجديد تعتبر
مقارنة معلولة، لانعدام أوجه المقارنة، إذ أن الموقف من
الانتخابات البلدية لم يكن مرتبطاً بوعي أهميتها ولكن
مرتبطاً بدرجة أساسية بمصداقية الانتخابات بل وبمشروعية
العائلة المالكة كطرف يمكن له أن يدير عملية التحول الديمقراطي
او يأتي بالاصلاح كما نادي به الطيف السياسي والاجتماعي
العام في السعودية. إن المقارنة تلك لا تصلح على الاطلاق
للكشف عن طبيعة اتجاهات الرأي العام، بل على العكس فإن
النفور من الانتخابات البلدية قد يكون أبلغ في التعبير
عن الاقبال على الاكتتئاب في بنك البلاد، بمعنى أن الموقف
السلبي أحياناً يحمل في طياته فعلاً إحتجاجياً مستوراً،
ويجب على الباحث والمراقب أن يلحظه من خلال رؤية مجمل
التطورات الاخرى المحيطة.
طبعاً هذا لا يعني إلغاء تام لدور الطفرة المالية الكبيرة
التي شهدتها البلاد في إضعاف الى حد ما الميول الفردية
والجماعية نحو الانخراط الكثيف في المشروع الاصلاحي بكل
تضحياته، ولكن لا يعني ذلك على الاطلاق أن الاصلاح (يُطالب
به لسد الأفواه الجائعة) فذاك ليس من المهمات الكبرى للمصلحين،
ولم تكن ضمن المطالب المركزية التي طرحها التيار الاصلاحي
في السعودية، مع تأكيده على التوزيع العادل والمتكافىء
للثروة والخدمات وتعزيز البرامج التنموية. إن الاصلاح
يُطالب به من أجل إرساء قيم العدل والمساواة والحرية،
وإن الأثمان الباهضة التي يدفعها الاصلاحيون سواء في الداخل
او الخارج مطلوبة في الشدة والرخاء والعسر واليسر لأن
لا اصلاح بلا ثمن، ولا تغيير بلا تضحية.
من الملاحظات أيضاً، وهنا يبدو النابلسي كمراقب خارجي
أكثر من كونه مراقباً داخلياً، ان الاعراف الاجتماعية
والتقاليد الدينية تمارس فعلاً تعويقياً للاصلاح السياسي
في هذا البلد، وهي فكرة يعاد تكرارها وإنتاجها بصيغ متعددة
وكان يفترض في النابلسي أن يعوّل على تجربته المباشرة
في السعودية، والتي يفترض ان تستوعب مجمل التنوعات الداخلية
في الخارطة الاجتماعية المحلية، إذ ما يعتبره عرفاً وتقليداً
إنما يستحضر بيئته النجدية الخالصة، وليس بالضرورة عرفاً
وتقليداً في الحجاز او المنطقة الشرقية او مناطق اخرى،
فهو يتحدث عن دور اعراف وتقاليد لا تحكم السعودية بالكامل
كما يزعم، وإنما جزء منها فحسب، وهو ما يتسبب في تأخير
الاصلاح السياسي وانتهاك حقوق المرأة وباقي المتواليات
الاصلاحية.
|