في الحرب على الارهاب
الديمقراطية حل للاستبداد والتطرف
وراء كل حدث إرهابي حديث عن الديمقراطية، فالشرق الاوسط
الذي يحتل موقعاً مدوّياً في النظام العالمي الجديد يستهلك
طاقة هائلة من عمليات التنظير السياسي بغرض إعادة تأهيله
أو من وجهة نظر أخرى السيطرة عليه.. في مطلع التسعينيات
كان هناك حظر أميركي وتبعاً له أوروبي على مجال تصدير
الديمقراطية الى الشرق الاوسط، على أساس أن الديمقراطية
كما نظّر لها معهد الشرق الاوسط بواشنطن برئاسة السفير
الاميركي في تل أبيب مارتن أنديك ستتحول الى قاطرة لايصال
المتطرفين الى السلطة، بما يهدد المصالح الحيوية للولايات
المتحدة والغرب في هذه المنطقة المختزنة للنسبة الأكبر
من المصادر الاستراتيجية للاقتصاد الغربي، وقد جرى استعمال
الخطر الاصولي الموهوم بإفراط شديد حتى أنتج معه خطراً
فعلياً أشد خطورة، فما كان يخشى منه في المجال السياسي
تحوّل الى خطر بقوة السلاح والمواد المتفجّرة.
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدأ جيل جديد من السياسيين
الاميركيين يميل للاعتقاد بسقم نظرية اليمين المتطرف في
الولايات المتحدة، حيث توصل الجيل الجديد الى قناعة مفادها
أن النظم الديكتاتورية تكون غالباً أشد تأثيراً في صناعة
مماثلاتها في المجتمع، فتنتج إتجاهات متطرفة يتم توجيهها
في وقت لاحق، وأحياناً من قبل ذات الانظمة، لاقتراف أعمال
إرهابية وتهديد السلام الدولي.. وفق هذا المنظور، فإن
تجربة الحادي عشر سبتمبر كانت كفيلة بتعزيز هذا التوجه،
كون إنفجار الظاهرة الارهابية منشقة من باطن نظام شمولي
ديني.. فهي ظاهرة لم تكن ناشئة من داخل المجتمع بل إستمدت
مقوماتها ومصادر قوتها من التحامها المباشر والمصيري بالدولة.
توصّل كثير من الساسة الاميركيين والاوروبيين الى أن
ثمة خطأ تاريخياً اقترفه الغرب في دعمه للانظمة الاستبدادية
في الشرق الاوسط، وهذا الخطأ مسؤول عن الظهور المدوّي
لحركات التطرف والعنف.. وقد توصل كثير من قادة الغرب الى
أن تحييد الظاهرة العنفية والقضاء عليها يتم عن طريق تشجيع
الديمقراطية في الدول الواقعة تحت وطأة الاستبداد، فالمدى
الزمني الطويل لانتشار الافكار الدينية المتشددة في مقابل
تغييب متعمد للافكار المعتدلة الدينية والليبرالية قد
حرم المجتمعات الشرق أوسطية من البنية التحتية للديمقراطية،
بمعنى غياب مؤسسات المجتمع المدني، والصحافة الحرة، والحريات
العامة وأهمها حرية التعبير والاجتماع والتظاهر.. يدرك
الغرب التفاوتات الحادة التي ولّدتها النظام الشمولية
في هذه المجتمعات على المستوى الاقتصادي، والثقافي، والسياسي،
بما يجعل نجاح التجربة الديمقراطية متوقفاً على القدرة
على إرساء أسس جديدة للنظام السياسي والاجتماعي.
ليس هناك من يرى في الديمقراطية حلاً سحرياً وحاسماً،
فحتى الديمقراطيات العتيدة لم تتخلص من عيوبها بالكامل،
ولكن مازالت تمثل النموذج الأفضل لتسيير الحياة السياسية
والاجتماعية. وشأنها شأن كثير من النماذج البشرية الخاضعة
للخطأ الامكاني أو الفعلي، فإن الديمقراطية لم تصمم لتسوية
كافة مشكلات المجتمع والدولة، وإنما هي مصممة بدرجة أساسية
لتوفير آلية للتعامل مع تلك المشكلات، وهذا ما تقترحه
الديمقراطية من مبادىء ووسائل من أجل تضييق شقة الاحتكاك
بين السلطة والمجتمع وبين فئات المجتمع نفسه.
قد يحلو لبعض القادة السياسيين في الغرب المبالغة في
دور الديمقراطية كوسيلة لمعالجة الظاهرة الارهابية، وهذا
عائد الى عوامل عديدة منها الدفاع عن الذات، وثانياً استعمال
الديمقراطية كوسيلة للضغط على الدول المنتجة للارهاب للانصياع
للشروط الاوروبية والاميركية، بمعنى التلويح بالديمقراطية
كطريقة للابتزاز. ندرك الآن بأن التعليقات السياسية الصادرة
عن الرئيس الاميركي على أي حدث إرهابي موجّهة لخدمة الاستراتيجية
الاميركية في العالم، فالقضاء على الارهاب يتكافىء على
الارض مع التوسع الاميركي عسكرياً واقتصادياً، وأن دعم
الخيار الديمقراطي في الشرق الاوسط يتكافىء سياسياً مع
تصحيح علاقة الحكومات العربية مع واشنطن ومن ورائها اسرائيل.
كل ذلك بات معلوماً، ولكن هل أن الديمقراطية مرفوضة
أصلاً وحلاً؟ بالطبع كلا. إن الفصل بين الديمقراطية والديمقراطيين
على طريقة بعض الباحثين في تحليلهم للمتبنيات المزعومة
للديمقراطية لدى بعض الاسلاميين قياساً على الضد من سلوكهم
غير الديمقراطي، فإن ذات الطريقة قابلة للاستعمال هنا
بالتحديد للتفريق بين إستعمال الساسة والرسميين للديمقراطية
والاستعمال المحايد للديمقراطية بوصفها آلية قابلة للاستخدام
في تنشئة الحاكم الصالح القائم على العدل والمساواة والحرية.
قد يكون الربط التعسفي بين الديمقراطية ومحاربة الارهاب
في أجواء خصامية يشوّه الديمقراطية نفسها، كونها تتعرض
للابتزاز والابتذال من قبل صناع القرار في الغرب وإدخالها
كجزء من لعبة المساومات السياسية، ولكن هذا لا يلغي فائدة
الديمقراطية ونجاحها في الغرب وفي تطوير المجتمعات وازدهارها.
ولاشك أن هناك كثيرين في الغرب يعيبون على ساستهم استعمال
الديمقراطية كفزّاعة لمجتمعات الشرق الاوسط، وخصوصاً حين
تدرج في قضايا خلافية، كالربط بين عملية السلام مع اسرائيل
وتشجيع الديمقراطية أو حتى الربط بين الهيمنة الاميركية
على مصادر الثروة في الشرق الاوسط والديمقراطية. إن هذا
الربط هو ما يثير خلافاً حاداً داخل القوى الديمقراطية
نفسها في الشرق الاوسط والتي تجد نفسها أمام تهمة الارتباط
العضوي في مشروع الهيمنة الاميركي.
هناك في الجبهة المقابلة من يقدّم أدلة مستفيضة حول
عقم الربط بين محاربة الارهاب وتشجيع الديمقراطية، ومن
بين تلك الادلة أن الانفاق المتعاظم على مكافحة الارهاب
(والذي بلغ حسب دراسة أميركية نشرت مؤخراً 191 مليار دولار)
لم يخفف من غلواء الارهاب بل فاقمه، كما تثبت ذلك أحداث
افغانستان والعراق والخليج واخيراً تفجيرات لندن، ويجري
استعمال هذه الادلة لاثبات فشل الخيار الديمقراطي كحل
لمشكلة الارهاب، على أساس أن الارهاب مؤسس على قاعدة أيديولوجية
ولا يمكن للديمقراطية أن تتعامل مع مشكلة من غير سنخها
أي كونها ذات بعد أيديولوجي، وباعتبار الديمقراطية (آلية)
وليست (أيديولوجيا). وهذا يعني أن ثمة فعلاً ايديولوجياً
بات مطلوباً لتقويض الاساس الايديولوجي للارهاب.
العنف الوهابي العاصف هل تعقلنه الديمقراطية؟!
|
وهو رأي لا يخلو من صحة بطبيعة الحال، فأولئك الذين
قرروا إعارة أجسادهم للموت بلاوعي والتحوّل الى قنابل
متحركة في الاماكن العامة تستحثهم الافكار الساحرة حول
الجهاد والشهادة وخوض معارك الشرف والكرامة ونصرة الدين
في غزوات ضد الكفار والصليبيين!! وهنا تعجز الديمقراطية
عن تقديم مضادات ايديولوجية لمثل هذه الافكار.
بالنسبة للحكومات المستبدة، فإن العودة الى إحياء الاتجاه
الاميركي القديم في النظر الى مشروع دمقرطة الشرق الاوسط
تبدو أكثر من ضرورية، لادراك هذه الحكومات بأن الديمقراطية
تعني بصورة مباشرة تغيير أسس أنظمة الحكم أولاً. نسمع
كثيراً عن أحاديث في السر كما في المنتديات المغلقة عن
محاولات حثيثة تقوم بها بعض الاوساط السياسية العربية
لاقناع الغرب والولايات المتحدة بأن تشجيع الديمقراطية
يشق طريقاً معبّداً أمام المتطرفين الدينيين الى السلطة،
بما يمنح العنف جرعات أكبر، ويسوقون دليلاً على ذلك ما
حدث في الانتخابات البلدية في السعودية حيث حصد التيار
الديني السلفي أغلب المقاعد في انتخابات الرياض والمنطقة
الغربية. ولكن المراقبين لمجريات الانتخابات البلدية بالنظر
الى الاوضاع السياسية التي شهدتها السعودية في السنوات
الثلاثة الاخيرة يدركون بأن تلك الانتخابات لا تقدّم سوى
دليلاً معاكساً على ضرورة تشجيع الديمقراطية وليس كبحها،
فانخفاض نسبة الاقبال، وقمع التيار الاصلاحي الوطني والديمقراطي،
والانباء المتسربة حول دور العائلة المالكة في مساندة
التيار الديني السلفي على حساب التيارات الاخرى تجعل من
الخيار الاصلاحي الديمقراطي حيوياً وفعّالاً.
هذا لا يعني بحال، أن ثمة ضمانة مؤكّدة حول عدم تعرّض
الديمقراطية لعملية اختطاف من قبل بعض التيارات المتشددة،
حتى تلك التي لا تؤمن بالديمراطية. وقد لحظنا أن بعض رجال
الدين المناهضين أيديولوجياً للديمقراطية شاركوا بحماسة
عالية في الانتخابات البلدية (مع كونها فعلاً بدائياً
للديمقراطية) ودعم بعض القوائم الانتخابية، رغم عدم قناعة
هذا البعض بجدوى الانتخابات، تارة بحجة قطع الطريق على
الليبراليين والعلمانيين وأهل البدع والضلال وتارة بإسم
نصرة الحق والاحساس العميق بضرورة المحافظة على المكانة
والسلطة.
لكن ما يلزم الالتفات إليه في مثل هذه الطروحات السلبية
أنها تأتي أحياناً في تبرير الوضع القائم، إن لم يكن تكريسه
تماماً كما هو شأن الطروحات الغربية السابقة التي رأت
في إبقاء ما كان على ما كان طريق السلامة، وهو ما تأمله
الانظمة الشمولية.
إن ثمة ضمانات ضرورية لنجاح التجربة الديمقراطية للحيولة
دون تغوّل العنف، إذ إن ما يجعل إمكانية اختطاف الجماعات
المتشددة للديمقراطية واردة هو غياب البنية التحتية، أي
غياب الحاضنة الاساسية للديمقراطية الممثلة في مؤسسات
المجتمع المدني، وإطلاق حرية التعبير والحريات العامة،
وسن تشريعات صارمة وفاعلة ضد التطرف في الفكر والسلوك،
ووضع تدابير قانونية تحبط فرص هيمنة التوجهات المتشددة
على المجتمع والدولة.
لا يجب تخويفنا من الديمقراطية بحجة إنقضاض خصومها
عليها، أو حتى تأخير العمل بها، فالديمقراطية هي مشروع
ممارسة قبل كل شيء، يتعلم منها أصحابها طرق التعامل مع
مشكلاتهم، وهذا ما يجعل الديمقراطية ذات وصفات متعددة
بحسب أوضاع كل مجتمع ودولة. إن الديمقراطية آلية لانضاج
الوعي بها من خلال التجربة المعاشة، فليس بالتثقيف الديمقرطي
يتحقق الانتقال اليها، وإنما تتطلب الى جانب الثقافة الديمقراطية
مؤسسات وبرامج وسياسات وقرارات من سنخها.
إن الديمقراطية التي تنتج إتجاهاً واحداً يفرض رؤيته
وموقفه وسلطته على المجتمع والدولة تفقد مسمى الديمقراطية،
وليس من وظائفها فعل ذلك، فهي إنما صممت لتحقيق التوازن
داخل الدولة عن طريق تقسيم السلطة على أسس متكافئة وعادلة.
إن الفشل الذريع الذي أصاب تجارب الانتخابات في بعض الدول
العربية ليس كونها غير مؤسسة ديمقراطيا ولكن حقيقة الأمر
ان الديمقراطية لم تكن مؤسسة سياسياً وإجتماعياً وثقافياً،
بمعنى آخر ان الانتخابات لم تكن إفرازاً لواقع ديمقراطي
يعيشه المجتمع والدولة. كان يقول البعض في السابق من باب
التهكم أن الرؤوساء العرب لو فتحوا باب الانتخابات لانتخبتهم
شعوبهم مرة أخرى هو قول لا يخلو من صحة، فنموذج الزعيم
الأوحد والرئيس الابدي والفارس الملهم يعكس واقعاً قائماً
في الثقافة الموحّدة، والقرار الموحّد ووسائل التوجيه
الموحّدة، وبالتالي فليس هناك ما يسمح لبروز أكثر من رئيس
واحد دائم، تكون رحلته في الحكم من القصر الى القبر.
لقد عملت حكومات الشرق الاوسط على إحباط كافة مفاعيل
الديمقراطية والمشجّعات عليها، وهذا ما يتطلب انقلاباً
بنيوياً في نظام الدولة القائمة، على غرار ما حصل في العراق،
فجميع المؤسسات السياسية والتعليمية والثقافية والقضائية
والاقتصادية والاعلامية تتناقض كلياً مع متطلبات الدمقرطة،
لأنها قامت على أساس المصالح الحزبية والفئوية في شكلها
الابتدائي المتخلف. ورغم ان النموذج العراقي يعد أقصى
أشكال التعارض مع التحول الديمقراطي الا أن ثمة دولاً
عربية تكاد تقترب من هذا النموذج، بل حتى سنوات قليلة
كان الاتجاه العام في دول الشرق الاوسط ينزع الى تحويل
السلطة السياسية الى إمتياز عائلي خالص والتخلي عن فكرة
دولة الحزب أو الاسرة عبر تنصيب الابناء في وراثة العرش،
وقد نجح بعض القادة العرب في فعل ذلك فيما لازال آخرون
يبيّتون النية بالرهان على الظروف الملائمة.
إن الرهان الديمقراطي مرشح للنجاح في الفترة القادمة
إستناداً الى وعي الشعوب العربية بالحاجة الى التغيير،
ووعيها بمطالبها وطموحاتها، وإستناداً على استكمال الشروط
الموضوعية للانتقال الى الديمقراطية..
إن تفجّر الظاهرة الارهابية وما تكسبه من زخم اعلامي
واسع على حساب التحركات السلمية المطالبة بالاصلاح السياسي
والتغيير هو جزء من مخاض التحول الاجتماعي والسياسي، ومن
الخطأ النظر اليها كمعوّق للديمقراطية أو مبرر لتعطيل
مسيرتها، فالتشدد حين يلفظ أنفاسه الأخيرة يصبح كالديك
مذبوحاً من الألم.
|