فشل الحل الأمني
تجفيف المنابع الأيديولوجية أولاً
فور الاعلان عن مقتل القيادي المغربي في تنظيم القاعد
في السعودية الحياري وإصدار قائمة جديدة من المطلوبين
تضم 36 شخصاً، صرّح ولي العهد الامير عبد الله بأن المملكة
ستقوم بتجفيف منابع الارهاب. ويأتي هذا التصريح في سياق
داعم للحل الامني الذي تمسك به الامير نايف في مواجهة
ظاهرة العنف المحلية، وهو حل لم يثبت نجاحه التام بعد
مرور أكثر من عامين على تفجّر ظاهرة العنف بصورة غير مسبوقة،
بل إن نداءات المحللين والمراقبين والخبراء تؤكد على أن
ظاهرة العنف ذات أبعاد تتجاوز الحد الامني الظاهري بل
هي تتكىء على مصادر أيديولوجية تتغذى عليها وتمثّل محرِّضات
شديدة التأثير وسط فئات إجتماعية تخضع بصورة شبه كاملة
لنوع من الثقافة الخصامية تجاه الآخر.
إنها الثقافة الموجّهة بصورة مباشرة الى فئة الشباب
الذين يمثلون الرصيد الشعبي والتنظيمي للجماعات المسلّحة.
ولا غرابة في أن يكون من بين قائمة السته والثلاثين المعلن
عنها مؤخراً 27 منهم دون سن الثلاثين عاماً. فهؤلاء عينة
مختارة من وسط الفئة المستهدفة في التجنيد والتعبئة والتنظيم
ومن ثم في تنفيذ العمليات المسلّحة والانتحارية النوعية.
إن العالم اليوتيبي الذي يصنعه الايديولوجي الديني
شديد الافتان لأولئك الذين يقعون طائعين تحت سطوة التحريض،
حيث لا يعودوا يتذكرون سوى تلك الكلمات المشحونة بالآمال
المستقبلية التي تمنحهم نشوة النصر قبل وقوع الأجل. لقد
باتت مهمة الخطاب الديني مندكة في فصل المجتمع عن واقعه،
وصناعة الحلم ـ اليوتيبا الذي عبره تتحقق إمكانية الانقضاض
على كل ما هو قائم وتدميره. فليس باللغة المباشرة يتم
استبدال السلوك الفردي، فقد بات الجو الثقافي مشبّعاً
الى حد أن الكلمة تخرج من معناها اللغوي بمفعولها الايديولوجي
التدميري بما لا تترك أثراً في ساحة الفعل.
كل شيء ينفصل عن منشأه الاصلي حين يدرج في سياق مهام
أخرى غير منتسبة اليه، فالشعارات الكبرى نفسها تصبح ذات
أغراض مختلفة منفصلة عن العبارات المسكوكة منها.. فكما
في تجارب النضال العربي، فإن الشعارات القومية والوطنية
هي الاخرى تهدّمت معانيها وأصبحت تستعمل لغرض التعبئة
فحسب. يكون الشعار الديني أشد وقعاً ووطئاً في مجتمعات
محافظة، سيما حين يتحصن الشعار بزخم تعبوي وجرعة روحية
عالية. ولطبيعة الخطاب الديني فإنه يقدّم كمسلّمة غير
خاضعة للفحص، وبالتالي فهو لا يتطلب جهداً يذكر كيما يمرّ
الى الحشود المذعنة لمملياته.
نايف: الإلتحام التام مع السلفية
|
إن الانشغال الدؤوب بتصفية آثار العنف وإزالتها يعبّر
عن نجاح الخطاب الديني التحريضي في إخفاء دوره، فهو قادر
على تحقيق أخطر الانجازات في غفلة عن الانظار.. ومن المفارقات
المثيرة أن تكون الشواهد الدّالة على الحضور الكثيف للخطاب
الديني في الوسط الشعبي مغفولاً عنها بينما يتم ملاحقة
الخلايا السرية التي إنشقت من مراكز انبثاث الخطاب نفسه.
على العكس دائماً، فإن النشاطات المدوّية وإن صدرت عن
فئات محدودة العدد تكتسب إهتماماً واسعاً وكثيفاً كونها
تمثل المنتج الفعلي والعملي لأيديولوجية التحريض.
إن الالحاح الشديد على التعامل مع العنف من منظور أمني
محض، يجعل من كل ما ينتح عنه صورة عنه ومن سنخه، الامر
الذي يفضي الى إهمال المنابع الفكرية لظاهرة العنف. إن
نوع التعامل الملامس لسطح ظاهرة التطرف في شكله العسكرتاري
ينبىء عن اختلال عميق في المنهجية التي يجري استعمالها
لمعالجة مشكلة ضاربة بجذورها في التكوين الايديولوجي للمجتمع
المنتج للجماعات المسلّحة.
لقد اختارت أجهزة وزارة الداخلية تعميم خيارها الامني
حتى على مستوى التثقيف الاجتماعي، وهنا تكمن الخطورة في
الانحراف بالوعي العام عن جذر المشكلة الحقيقية. يستعاض
باللوحات الارشادية وصور القتلى عن نقد الافكار المحرّكة
لميول التطرف، مع ادراك الجميع بأن ظاهرة العنف لا يمكن
محقها بطائفة من النصائح والارشادات للمواطنين من أجل
صياغة وعي مناهض للعنف والتطرف. إن مجرد التحذير من عواقب
العنف لا يفكك البنية الفكرية التي تستند عليها، ما لم
يكن القصد من حملة التحذيرات هو كسب اصطفاف شعبي وراء
الحكومة مع إغفال الحاجة الى معرفة أسباب الظاهرة العنفية
وجذورها.
إن هؤلاء المتناسلين من مجتمع التشدد والواردة أسماؤهم
في قوائم المطلوبين لم يقرروا بمحض الصدفة الانخراط في
عمليات تبلغ من السادية حد الاستهتار بقيمة الانسان لولا
خضوعهم لدورة أيديولوجية مكثّفة صنعت لهم نظاماً قيمياً
ومنظومة مفهومية مختلفة. فمهما حاول البعض إستدراجنا الى
منطقة خارج مراكز التأثير الايديولوجي الحقيقية، فإن التراث
الديني المحلي يواجهنا بصدمة المحتوى العنيف الذي ينضح
منه، وهو المسؤول عن إشاعة التطرف في أشكاله الفكرية والاجتماعية
والسياسية.
هناك جذور محلية للعنف دون شك، مهما قيل عن تأثيرات
ثقافية خارجية، وإن مصادر الفكر السلفي تشتمل على كمية
كافية من التحريض على العنف، وهي مصادر لم تخضع حتى الآن
الى عملية نقد حقيقية من قبل النخبة السلفية، والسبب في
ذلك أن هناك نزوعاً مقصوداً وضارياً لصيانة النص السلفي
والمحافظة عليه وتبرئته.
إن مثل الرؤية القائمة على تكفير العالم بإستثناء المجتمع
السلفي لا يمكن النظر اليها بوصفها رؤية عقدية معزولة،
أي كونها مجرد متبنى نظري خالص. ولو كان الأمر كذلك ما
نجح مؤسس الدولة السعودية في إقامة دولته. والحال أن تبني
تلك الرؤية القائمة على تكفير سكان المناطق المستهدفة
كان مقدمة لغزوها واحتلالها بطريقة دموية وشديدة القساوة.
وبنفس الطريقة، فإن تلك الرؤية العقدية الشمولية هي الاساس
الايديولوجي الذي قامت عليه حركة جهيمان عام 1979 وهكذا
الجماعات اللاحقة.
إن تلك الحركات الراديكالية التي ظهرت في تاريخ السعودية
الحديث بدءا من الاخوان عام 1913 وحتى جماعات القاعدة
لم تستلهم من أدبيات الجماعات السياسية والدينية خارج
الحدود ما يدفعها لتبني إستراتيجية العنف، فقد كان المخزون
الايديولوجي للعنف محلي الصنع. إن مواصلة تحميل جماعة
الاخوان المسلمين في مصر مسؤولية انتشار الافكار المتشددة
في الداخل قد يستجيب لرغبات خارجية بدرجة أساسية ويكتسب
تعاطفاً ودعماً من حكومات عربية لها خلافات مع هذه الجماعة،
وربما هناك في التيار السلفي من يجد في جماعة الاخوان
المسلمين كبش فداء كي لا يصار الى فتح الاضبارة السلفية
أمام وسائل الاعلام.
بيد أن التراث السلفي لم يعد مكتوماً حيث يجري تداوله
على نطاق واسع في وسائل الاعلام الرسمية والشعبية، بل
إن من السذاجة أحياناً أن يعاد تعميمه دون النظر الى محتوياته
التفجيرية، فكثير من الافكار تصبح مستساغة بصرف النظر
عن حدّة محتوياتها وتداعياتها حين تكون مشاعة الى درجة
التشبّع، بحيث لا ينظر اليها باعتبارها مستهجنة أو منبوذة.
إن اختزال مهمة النهوض بالامة وبعث الاسلام من جديد
من خلال إحياء شعيرة الجهاد أصبح ابتكاراً سلفياً فريداً،
قبل أن يصدر كتاب (الفريضة الغائبة)، فضلاً عن أن منظّري
السلفية الجهادية لم يكونوا بحاجة الى مبررات دينية لاحياء
تلك الشعيرة، فتراث السلف يشتمل على اطروحة مؤصلة في الجهاد،
والتي شكّلت المستند الديني لجيوش ابن سعود في حروبه وغزواته.
إن تصدّر السعوديين قائمة الانتحاريين في العراق وافغانستان
لم يكن محض صدفة بأي حال، فهؤلاء قد غرقوا في منابع الفكر
السلفي التي مازالت نشطة حتى الآن. أليس الأمر يدعو للتأمل
أن يكون 61 بالمئة من الانتحاريين في العراق هم من السعوديين
حسب مصادر سلفية، بينما تتقاسم جنسيات اخرى بما فيها العراقية
النسبة المتبقية، ولماذا يذهب نحو 400 شاباً سعودياً ضحايا
في مقاومة لا يعرف ماهي أهدافها وأبعادها، ولماذا لم نسمع
عن أحد من رجال الدين السلفيين الذين حرّضوا هؤلاء على
الموت في العراق أن يكون من بينهم إبن أو أخ لهم من بين
قائمة المقاتلين والانتحاريين.. كيف حدث ذلك؟، ولماذا
يكون سلفيو السعودية وحدهم المرشحين للقيام بعمليات انتحارية،
هل لرخص أرواحهم، أم لأن ثمة من أخبرهم بذلك، أم كانوا
قد خضوا لعملية غسيلة دماغ من قبل الموجّهين الدينيين
لكي يقوموا بكل الاعمال الانتحارية دون احساس بقيمة الحياة
والمشاركة في بناء الانسان؟ أسئلة تواجه رجل الدين السلفي
في الداخل، وتظل المسؤولية كبيرة على عاتق أجهزة الامن
والدولة من ورائها كيما تعيد النظر في استرتيجيات الحل
لمشكلة قابلة للخروج عن السيطرة في المستقبل.
لقد بات واضحاً أن الدولة بانصرافها التام نحو الخيار
الامني أنها قد قررت الاندكاك التام في الايديولوجية السلفية
المشرعنة لوجودها دون المساس بأي جزئية فيها. فما يظهر
حتى الآن أن الدولة لم تنوي بعد تشخيص مشكلة التطرف وانما
اقتصرت على ملاحقة تداعياتها السياسية والامنية فحسب.
إن الالتحام التام بين السلفية والدولة يملي على الطبقة
الحاكمة المحافظة على مصادر إستقرار السلطة، وبالتالي
فهي أمام مهمة مزدوجة: حماية مصدر مشروعيتها، أي السلفية
وفي الوقت نفسه درء أخطارها الامنية والسياسية. فهي من
جهة تمنح رعاة السلفية كل مبررات الانتشار والتوسع في
بث الثقافة السلفية في شكلها الراديكالي، المناهض للحوار
والتسامح الديني، ومن جهة ثانية تدعو الى تجفيف منابع
الارهاب، وتقصد بذلك المنابع التي تؤول الى حمل السلاح
في وجه الدولة فحسب.
وحقيقة الأمر، أن تجفيف منابع الارهاب لا ينجح في ظل
انبثاث واسع لمنهجية اقتلاعية تدعو لأفكار متشددة وكراهية
الآخر، ولطالما أن مدارسنا وجامعاتنا وجوامعنا تسرف في
تنشئة وعي إقصائي يرى في كل ما سوى المنهجية السلفية مصدر
شر يجب مقاومته بقوة السلاح وإهراق الدم بطريقة طائشة
وسادية.
إن تجفيف منابع الارهاب لن ينجح وأحد أسباب ذلك أن
ثمة وعياً مثلوماً بالتاريخ وحضارات الامم وثقافات الشعوب،
وهذا ما يبرر الاصطدام بها بطريقة دموية وإجتثاثية. إن
منهج التاريخ الذي يتم تلقينه لطلاب المدارس يصنع رؤية
خصامية وازدرائية ضد الاديان والحضارات الاخرى، فيما يزيد
في ترسيخ الاعتقاد بنزاهة الذات حد النرجسية. إن تلك المنهجية
التي تحرم الطلاب في إنماء الوعي التاريخي ومعرفة قوانين
التغيير في حركة التاريخ الانساني لا تقتصر على حد الجهل
بالأمم الاخرى وحضارات العالم فحسب بل وتلغي دورها في
التكامل البشري بإنكار المنجزات الحضارية التي حققتها
تلك الامم. إن إشاعة مناخ عدائي ضد تلك الحضارات والامم
يمنع المتلقين من التفكير في آفاق التطور الانساني الذي
تحقق بفعل تظافر جهود وخبرات متعددة على المستوى العالمي
وفي الوقت نفسه فإنها تستبدل قيمة المحبة والسلام والتسامح
بقيم أخرى ذات طبيعة خصامية، والتي يجري اختزالها في نزعة
الواحدية.
إن افتقار التوازن في المناهج الدراسية تعكسه أيضاً
الثقافة الدينية المبثوثة في وسائل الاعلام الرسمية والشعبية،
ومن أمثلة ذلك الخطب الدينية التي تلقى في الجوامع والمساجد
التي يكثر فيها الخطباء وأئمة المساجد من الدعاء على الآخرين
دون تمييز، أو حتى النيل من أمم وحضارات العالم دون الفات
الانتباه الى المنجزات الانسانية النبيلة التي تحققت على
أيدي رجال لا ينتمون الى ديننا ولكنهم لم يحملوا في داخلهم
سوى الخير للبشرية بفعل منجزاتهم العلمية التي وصلت ثمارها
الى بلادنا ومساكننا وبيوت عبادتنا. إن تلك النظرة الواحدية
النمطية التي يراد تعميمها على شعوب العالم وحضاراته هي
المسؤولة عن خروج شباب مدججين بالعداء الى كل ما هو غير
سلفي ومحثوثين بالرغبة في تدمير كل ما هو جميل ونافع في
هذا العالم.. إنها الرسالة غير المباشرة التي تبعثها تلك
الثقافة الدينية الواحدية الى بعض الشباب فيتحولوا الى
أدوات في معركة عبثية في صورة دامية.
ومما يجدر الالتفات اليه دائماً، خصوصاً مع تكرار هذه
المقولة المغشوشة أن تصنيف المطلوبين في خانة (المنحرفين
فكرياً) ينطوي على نفي الصلة بين هؤلاء والفكر الديني
الذي أنتجهم، فإذا كان ثمة انحراف فكري فتجب معالجته من
مصدره الذي يغذّي هذا النوع من الشباب، ضحايا الفكر الديني
الاقتلاعي.
إن منابع الارهاب لا تتجفف من خلال ملاحقة الاشخاص
المتورطين في العنف فحسب، بل يجب ملاحقة الافكار التي
ولّدت الارهاب، والا فإن قائمة المطلوبين ستزداد عدداً
وقد نصل في مرحلة ما الى العجز عن إحصاء عدد المطلوبين
لاستفحال الفكر الارهابي، بما يضع الجميع بما فيها الدولة
في قائمة المطلوبين للعدالة الدولية.
|