(2-2)
الدكتور عبد الله الحامد يستأنف ضد الحكم الظالم بسجن
دعاة الإصلاح
مقولة أن أولياء الأمور هم الحكام والفقهاء مجرد لبنة
تخلف في فكرنا السياسي
الحيثية التاسعة
قالت الهيئة (الأسطر 14-26): إن أسلوب دعاة الإصلاح
السياسي أذاع المطالبات (بإسلوب يتنافى مع مبدأ المناصحة
لولي الأمر ويفضي الى إثارة العامة وتهييج الدهماء في
أمور لا نظر لهم فيها من أمور السياسة والأحكام السلطانية،
في وقت عصيب يمر بالأمة، وهي أحوج ما تكون الى وحدة الصف،
وتفويت الفرصة على أعدائها المتربصين بها، الذين يتحسسون
الذرائع للتدخل في شؤونها بإسم الإصلاح، وقد ذمّ الله
تعالى هذا المسلك بقوله:''وإذا جاءهم أمر من الأمن او
الخوف أذاعوا به ولو ردّوه الى الرسول وأولي الأمر منهم
لعلمه الذين يستنبطونه منهم''؛ قال الشوكاني رحمه الله:
والمعنى أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي
صلى الله عليه وسلم، أو يكون أولي الأمر منهم، هم الذين
يتولون ذلك، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي
أن يكتم. أ. هـ. وقال السعدي رحمه الله عند تفسير هذه
الآية: هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق
وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح
العامة مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي
فيه مصيبة عليهم أن يثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر،
بل يردونه الى الرسول والى أولي الأمر منهم أهل الرأي
والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون
المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين
وسروراً لهم وحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ليس
فيه مصلحة او فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم
يذيعوه. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث
في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ويجعل
الى أهله ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب الى الصواب
وأحرى للسلامة من الخطأ، أ. هـ).
النقض: (المناصحة غير العلنية(.. مفهوم سياسي أموي
وعباسي، من مفاهيم تخلف الفكر الفقهي السياسي، وهو منسوب
الى الإسلام بلي أعناق النصوص، وصرف النصوص عن ظاهرها؛
وهو ضد مبدأ (مفهوم الحكم الدستوري) المتقرر في الإسلام؛
كما أنه ضد مفهوم الحداثة السياسية في الفكر السياسي المعاصر
الذي درجت عليه الدول. وقد فككنا ذلك الخطاب في كتاباتي
ولا سيما في مجموعة الدفاع المفصل (ويمكن إن أرادت هيئة
التمييز النظر في مسألة التقعيد الشرعي لذلك أن تطلع على
تلك الكتيبات وهي موجدودة عند المحامين).
أ ـ فهي ـ الهيئة ـ تعتقد أن (لولي الأمر) قوامة على
الأمة، ومن المعروف أن مقولة أن أولياء الأمور هم الحكام
والفقهاء هي نظرية سياسية عباسية، وهي مجرد لبنة في بنية
التخلف السياسي، ومن أجل ذلك لا عجب أن تردد الهيئة هذه
الثقافة: فالناس العاديون هم الرعاع والدهماء الذين اذا
اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا، والناس العاديون هم
العامة، والدهماء التي لا تعرف شيئاً من أمور السياسة
والأحكام السلطانية.
ترى ألا تعرف العامة أن العدل ركن في الإسلام؟ ألا
يعرفون أن الشورى ركن في الإسلام؟ وإذا كانوا لا يعرفون،
ألا ينبغي أن يعرفوا كيف يأمرون بالمعروف في السياسة وينهون
عن منكرها؟
ب ـ ثم هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة، أليس من
أسبابها محافظة الدولة العربية على القوالب السياسية المحافظة
التي تضع أزمة السلطات كلها في يد رجل واحد، وتدافع عنها
تارة باسم الخصوصية الوطنية وتارة أخرى باسم الأصالة العربية،
وشر من هذا وذاك ان تقدم الفكر السياسي المتخلف على أنه
الهدى الإسلامي الأصيل.
ج ـ ثم إن رد الأمر الى الله والرسول والى ولي الأمر
مسألة لا خلاف فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
ولكن من هم أولو الأمر؟، وسواء أكان الأمر بمعنى الرأي
أم الخبر أم الشأن والقرار، فلكل منها اعتبار. حسناً،
نقيس الحكام الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم في رد
الأمور إليه بصفته (حاكماً)، لكن ما ضوابط ذلك؟ هل الهيئة
تجهل الضوابط أم تتجاهلها، أم أنها تظن أننا جبناء لا
نستطيع أن نقول لها وللفقهاء الذين لا ينطلقون عن رؤية
مؤسسة على الشرع في مفهوم الفقه السياسي: لا تدخلوا بنا
الأثل!
د ـ نبقى إذن في معنى أولي الأمر من غير الحكام الذين
يرد إليهم الرأي، فهل هم الفقهاء الرسميون الذين يصدرون
فتاوى لا تنبثق من عمق في الفقه السياسي، ولا من تحليل
الواقع، وهيئة الإفتاء في موقفها من قضية حقوق الإنسان
الشرعية نموذج ماثل؟
هـ ـ هل هم القضاة الذين جسدتهم الهيئة في كونهم من
مفهوم سلطة الأمة، ومن نظرية تقسيم سلطات الدولة على ثلاثة
أعمدة. ومن التجمعات المدنية الأهلية بأنها أمور من المصالح
المرسلة نرجع فيها أيضاً الى ولي الأمر/ أي الحاكم، لتقرير
ما يراه ''بعد التحقق من عدم معارضتها نصوص الشرع''؟!
كيف يتم التحقق؟ من الجهة التي تتحقق؟ لم تبيّن الهيئة
ذلك.
وإذا كانت الهيئة ترى أن لأولي الأمر من غير الحكام
دور في الإستنباط والتحقيق، فكيف غفلت عن ذلك عندما جعلت
أمر المصالح المرسلة محصوراً بولي الأمر/ الحاكم؟ إن تناقض
الهيئة دليل على أن اضطراب الفكر السياسي العباسي لا يمكن
ترقيعه ولا تجميله.
إذا رجعنا الى كتب التفاسير وجنا أن أغلب المفسرين
يذكرون أنهم كبار الصحابة من البصراء، وأهل الفقه والعلم.
ويمثلون لهم بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم. هؤلاء أهل رأي وحنكة بالمفهوم اللغوي
للفقه، وبالمفهوم العملي للعلم. ولم يكونوا موظفين بل
هم من المجتمع الأهلي، ولا يقاس عليهم. فالحاصل أنه ليس
في البلاد هيئات مستقلة عن الدولة تجسد هذا المفهوم.
ترى ألا ترى الهيئة أن نخبة هذا البلد من فقهاء ومفكرين
وأساتذة جامعات ومثقفين ومحامين ومهتمين بالشأن العام،
هم من ينطبق عليهم قول ابن سعدي في تفسيره (أولي الأمر
منهم أهل الرأي والعلم والنصح والرزانة الذين يعرفون الأمور
ويعرفون المصالح وضدها). أليس هؤلاء الآمرون بالمعروف
السياسي المستقلون عن غيرهم ممن ينطبق عليه قول ابن سعدي:
(اذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من أهل ذلك،
ويجعل الى أهله). فهناك عديد ممن يطلق عليهم أولي الأمر
حسب الرأي المبحوث، في شأن عبادة روحية كالصلاة والصيام
والحج، أو مدنية كالإقتصاد والتجارة والتعليم والزراعة،
سواء أكانوا في مجالس أو نوادي أو مجالات كمجلس الشورى،
ونحوها من معاهد الخبرة والأبحاث، فهل تستطيع الهيئة لكي
تنفي عن المجاهدين بكلمة العدل أمام السلطان، أنهم من
أولي الأمر، وفيهم من هو أفضل منا ومنها على ما في أشخاصها
من فضل، علماً وتقى وورعاً ونباهة وحنكة؟
الهيئة تنسى (الأمر) في الآية هو الرأي الذي يستنبط
في الأمور الظاهرة، ولا يدركه العاديون من الناس، وتنسى
أنه لا بد للرأي من الشجاعة، فالمفكرون تحت الكواليس لا
يجيدون إلا الغموض والتدليس، ونحن نطالب الهيئة بأن تحدد
لنا في هذا البلد، من هم أقرب الناس الى ما وصف به أولو
الأمر في هذا الآية، من أنهم كبراء الصحابة أصحاب البصائر؟
وتنسى الهيئة أنهم ليسوا موظفين، ولا زعماء قبائل،
من خلال الأمثلة التي ذكرها مفسرو التابعين كابن عباس
وعكرمة والبغوي السمرقندي، وأنهم كبراء الصحابة أصحاب
البصائر كما ذكر البغوي والثعلبي والبيضاوي والنسفي وأبو
السعود وابن عاشور.
كما وتنسى بأن إدخال الحكام بناء على تفسير الآية بأمراء
سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في تفسير السدي
ومقاتل وابن زيد، ليس قياساً، والنص إذن عليهم غير صريح،
وهو قياس وللقياس ضوابط لا تخفى. فقياس الملوك والخلفاء
منذ العصر الأموي، قياس فيه نظر، له ضوابطه التي لا نظنها
تخفى على الهيئة. والهيئة تنسى أن المواصفات التي تنطبق
على مفهوم أولي الأمر، كما في الأثر والصحابة والتابعين
وتمثيلهم بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم، تشير الى أنهم:
أ ـ أصحاب إيثار ونصح وإخلاص للأمة.
ب ـ أصحاب رأي وحنكة وبصيرة وعلم وحسن تدبير.
ج ـ أصحاب نزاهة واستقامة في السلوك.
د ـ مستقلون في المجتمع الأهلي، يتبعهم الناس.
فهل يرى القضاة أن المبادرين من دعاة الإصلاح السياسي،
لا تتوافر فيه في الجملة شيء من هذه الصفات، لكي تخرجهم
من مفهوم (أولي الأمر)؟
ومن اجل ذلك، فإن الهيئة تأخذ الرأي الفقهي الضعيف
ثم تنتصر له، ثم تطبقه على موظفي الحكومة وتنزعه من غيرهم،
وفي ذلك تحكم يصل الى درجة المغالطة المنطقية.
و ـ ثم ما هي الأخبار التي أذاعها دعاة الإصلاح، التي
ليس فيها مصلحة أو مضرتها تزيد عن مصلحتها؟ المعروف أن
الآية تتحدث عن المنافقين المرجفين، أو عن ضعفة المسلمين
الذين ليس لديهم بصيرة في ما يذيعونه من اخبار. فهل دعاة
الإصلاح السياسي منافقون أو ممن لا يدركون المصالح؟ وهل
قيامهم بتذكير الحكومة بأن العدل والشورى من أصول الدين
العظمى، وأنهما من شروط البيعة الشرعية (يجعلهم من المرجفين؟)،
وهل تتصور الهيئة هؤلاء الدعاة من الأغرار الذين يذيعون
الأخبار وهم لا يدركون؟
نسيت الهيئة ما درج عليه المشائح من أولي الأيدي والأبصار،
كالشيخ محمد بن إبراهيم المسلمي رحمنا الله وإياه، الذي
أحبّ الشيخ المجاهد عبد الرحمن الدوسري رحما الله وإياه،
أن يطلعه على نصيحة كتبها فرفض المفتي قائلاً: إذا قرأتها
ظنّ الناصحون الآخرون أنه لا ينبغي لعالم أن ينصح الناس،
إلا باستئذان الحاكم أو المفتي. هناك فرق بين سلوك الشيخ
وسلوك الهيئة التي تسبب حكما بالسجن بضع سنين على دعاة
العدالة والشورى.
سارت مشرّقة وسرتُ مغرّباً |
شتّان بين مشرّقٍ ومغرّبِ |
وعلى رأي الهيئة فكل العلماء والفقهاء الذين جهروا
بكلمة الحق والعدل، قد قالوا ما لا مصلحة فيه، أو مما
تغلب مفسدته مصلحته، ولا دليل للهيئة إلا قاعدة سدّ الذرائع
التي هي مقياس رجراج يمكن استخدمه لرد الحق.
الحيثية العاشرة
قول الهيئة فيما يتعلق بتسبيب الحكم بالسجن سبع سنين
(الأسطر 26-39): بأنني أبديت (جرأة على بعض المصطلحات
والمبادىء المتعلقة بالسياسة الشرعية، وجنوحه في تفسيرها
إلى أقوال مهجورة أو مرجوحة، وتحميله أقوال بعض العلماء
ما لا تحتمله، والعمل على إضفاء الشرعية على بعض النظريات
السياسية الحديثة التي ينادون بها، ويعتقدون أنها الضمانة
لمنع الاستبداد، وحفظ الحريات، مع أنها لم تعد مسلمة في
النظم السياسية المعاصرة، كما يشهد به واقعها، وإنما الضمانة
في التزام قواعد الشريعة ومبادئها التي تمنع من الاستبداد
والجور.. من ذلك تطاوله على منزلة ولي الأمر في النظام
الإسلامي بقوله: ''إن ما قرره الفقهاء من أن ولي الأمر
أدرى بالمصلحة''..).
تتهمني الهيئة بأنني:
أ ـ أفسّر الآيات والأحاديث بأقوال مرجوحة أو مهجورة.
إنني أؤكد مرة أخرى أن الصواب إنما هو في رأي الرازي والنيسابوري
ومن تبعهما في تفسير آية الطاعة: ''يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله'' (النساء59)، وآية الإستنباط: ''وإذا جاءهم
أمر من الأمن أو الخوف'' الذي أستنبط منه: أنه لا طاعة
مطلقة بعد الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس
حتى لو كان عالماً أو فقيهاً، إلا لإجماع الأمة. وأن إجماع
الأمة يجسده الفقهاء والعلماء ـ من كافة أهل الرأي في
كافة شؤون الحياة ـ المستقلون من أهل النصح والإيثار والشجاعة
والبصائر السياسية والإجتماعية. وأنهم هم أهل الحل والعقد.
وأؤكد مرة أخرى ما رآه الشيخان محمد عبده ومحمد رشيد رضا
من أن القالب الذي يجسد إجماع الأمة وأهل الحل والعقد
فيها هم التجمعات الأهلية المدنية، من نقابات وجمعيات
وروابط وأندية ومؤسسات إعلامية مستقلة في صورة سلطة ولي
الأمر المباشرة، وأنه يجب أن تطيع الأمة، بما فيها الحاكم،
أهل الخبرة والرأي في تخصصاتهم التربوية والطبية والزراعية
والصناعية والإدارية والمالية والسياسية والعسكرية، لتجسّد
الإسلام قوياً عزيزاً في منظومته الروحية والمدنية معاً.
كما وأؤكد مرة أخرى أن (أولي الأمر) يجسدون إجماع الأمة
ومرجعيتها في صورة غير مباشرة، هي مجلس النواب، وأن الأمة
إذا أطاعت الله في ما هو صريح في الكتاب والسنة، فإن إجماعها
معصوم، فإن اختلفت فالخلاف بين أمرين:
الأول ـ إما أن يكون حول أمر نظري، ما ليس فيه نص صريح
من الشريعة وكلياتها وروحها، وهذا أمر يلتمس بالإجتهاد
الفقهي، وهذا معنى قوله تعالى: (فردّوه الى الله ورسوله)(النساء
ـ 59).
الثاني ـ أن يكون في أمر تطبيقي، كالخطة الزراعية والمالية
والتربوية، وهذا يرد الى (أولي الأمر الذين يستنبطونه)
(النساء: 83). وأقول بأن تفسير الصحابة والتابعين للآيتين،
لا يمكن حمله إلا على هذا المعنى، ولا يمكن حمل كلام عديد
من ثقات المفسرين بأنهم الكبراء من الصحابة، أصحاب البصائر،
إلا على هذا المعنى، ولا يمكن فهم كلام ابن تيمية من أنهم
المتبوعون، في ظل قراءة كتاباته السياسية ولا سيما الحسبة،
فضلاً عن قراءة سلوكه المتجسد في الجهاد السلمي، إلا على
هذا المعنى.
ولا مانع في العلوم أن يتحول الرأي المرجوح الى راجح،
وأن يتحول القول المهجور الى مشهور، إلا إذا كانت الهيئة
تقول: خطأ مشهور خير من صواب مهجور، وليس هناك دليل معتبر
على من خص مفهوم أولي الأمر بالفقهاء الذين لهم نمط محدد
وثقافة محددة، يعرفهم الناس في هذا العصر، فإذا كانوا
فقهاء بالمعنى الراشدي فنعم. وأؤكد أن تحديد مفهوم أولي
الأمر بالحكام والفقهاء أدى الى الطغيان لأن الفقهاء لم
يستطيعوا موازاة السلطة، فصاروا لهم أتباعاً إما أن يسكتوا
وإما أن يمرروا لظالم دواوينه وإما أن يستقروا في سجونه.
فكيف يكونوا إذا ذاك أهل حل وعقد من دون دعم الجمهور،
والله يقول: (ولولا رهطك لرجمناك)؟
أما ما ذكرته الهيئة من أن عامة أهل العلم قرروا ذلك،
فهي تعرف من أصول الفقه أن الأكثرية يكون رأيها صواب في
الأمور الإجتماعية والسياسية، إذا لم تخالف نصاً صريحاً؛
أما آراء الأكثرية في المسائل المعرفية، فليست لها قدسية،
ولو صح قولها، لما كان هناك ضرورة ولا فائدة لكتابة تفسير
بعد تفسير ابن جرير، ولا لتأليف كتاب في أصول الفقه بعد
الشافعي.
وابن تيمية لم يرجح أنهم العلماء، إلا بناء على أنهم
المتبوعون، ولا يجوز للهيئة أن تنتقي ـ إن كانت عامدة
ـ من كلام ابن تيمية نصوص مجتزأة وغير صريحة أو مقتنصة
فتعارض قوله بسلطة الأمة، ولا ما يعارض قوله بأن العدل
لا الإيمان أساس عمارة الأرض، ولا ما يعارض مسلكه؛ فلا
بد من الصحة المنهجية في الأمور المعرفية.
ب ـ وبناء على ذلك فولي الأمر/ الحاكم ليس أدرى بالمصلحة
من الأمة، وليس له (قوامة) عليها؛ فللأمة القوامة على
كل حاكم، وهذا ما صرح به ابن تيمية في نص له ذكرناه مراراً،
يؤكد أن الأمة هي المخولة بحفظ الشريعة.
ج ـ وأؤكد مرة اخرى أن أسوأ النظريات التربوية والسياسية
هي نظرية حصر مرجعية الأمة بالأمراء والفقهاء، وهي من
أعظم التحريف الذي دخل الثقافة الإسلامية منذ صياغتها
العباسية.
د ـ أما القول بأن القاضي في المحكمة ما هو إلا وكيل
عن السلطان، أي أن السلطان هو القاضي الأصيل، فهذا قول
باطل، يجسد وصاية السلاطين على القضاء، ويتذرع به المقلدون
لإمرار قواعد قضائية متخلفة؛ وفي استشهاد الهيئة برأي
ابن رشد ملاحظتان:
الأولى: ان ابن رشد رحمنا الله وإياه، عندما يشير الى
الإمام الأعظم، يبني على الصورة الشرعية لإمام الإختيار
الملتزم بشروط البيعة على الكتاب والسنة، والعدالة والشورى،
لا سيما وهو فقيه أندلسي، وفقهاء الأندلس أكثر الفقهاء
وعياً بفقه السياسة الشرعية، بعد ابن تيميه.
الثانية: ان زعم ان تولية الإمام الأعظم القضاة، شرط
في صحة القضاء، فهذا أيضاً راعى فيه شروط الإمام الأعظم،
أما في حالات عدم توافرها، فابن رشد يقول لاخلاف في ذلك
عرفه، فلم ينف وجود الخلاف، بل نفى علمه به. فهل تزعم
الهيئة أنه لا خلاف فيه، لنجيب على نفيها؟
الثالثة: لقد استشهدت الهيئة بفيلسوف كابن رشد في مقولة
سياسية: الحكمة ضالة المؤمن! ترى لو أن أحد دعاة الإصلاح
استشهد برأي مثله، ألا يمكن أن تضيف إليه الهيئة تهمة
جديدة هي ترويج آراء الفلاسفة وأهل البدع؟!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم |
إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
إن قراءة الهيئة عجيبة لحقوق المواطنين، ولكفالة حرية
الرأي والتعبير والإجتماع والتجمع.. ليس كفالة هذه الحقوق
هو الذي يسيء الى البلاد أو المؤسسات الشرعية، بل الذي
يسيء اليها انتهاكها. ونموذج ذلك أن الإثارة التي صارت
لقضيتنا أكثر سلبية من معالجة الموقف من دون توقف ومن
دون إحالة الى القضاء ومن دون أحكام قاسية، وسيقرؤها الرأي
العام الوطني والعربي والإسلامي على أنها إخلال بالحقوق
التي كفلتها الشريعة للمواطنين وعلامة على أن القضاء لا
يتمتع بضمانات للنزاهة والعدالة.
ثم إن الهيئة لم تثبت الحجج التي استندت إليها مقولاتي
بل أبرزت العناوين من دون سيق الحجج والأدلة في اجتزاء
واضح، فيها اقتناص الشوارد، وفيها لي أعناق النصوص، وفيها
إخراج للكلمات التي تعتبرها حادة أو طويلة اللسان من سياقها!
إننا نطالب الهيئة القضائية بتطوير نظام الإجراءات الجزائية
لترتفع الى مستوى الشريعة السمحة، ولتلتزم بما وقعته الدولة
من مواثيق حقوق الإنسان. إذا كان القضاء وهو واجهة الدولة
لا يطبق هذه القوانين، فكيف ينتظر من وزارة الداخلية أن
تطبقها؟!
إن قضايا النشر تحال الى المطبوعات، فما هو المبرر
الى إحالة قوانينها الى القضاء ما دام القضاء بهذه الصورة؟
إن قياس الحكومات والدول الأموية والعباسية والعثمانية
والمملوكية والطوائفية المعاصرة، قياس باطل لأن للقياس
أصولاً معتبرة، وهي تجانس العلّة، وهناك فوارق فصلتها
في كتابي (معايير استقلال القضاء الدولية في بوتقة إسلامية)
وكتاب: (استقلال القضاء السعودي: عوائقه وسبل تعزيزه)
أهمها:
1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم له صفات عديدة، فهو
نبي في مجال الوحي، وهو حاكم في مجال الدولة، وهو مفت
يقول ـ معصوماً ـ بالوحي، ثم هو قاض يحكم بما لديه من
الوحي، وبما أراه الله من الرأي؛ فإذا وجد بشر فيه هذه
الصفات أمكن القياس عليه.
2 ـ أما القياس على الخلفاء الراشدين، فهؤلاء يتسمون
بخمس سمات، تكاد لا تتوفر في أي حاكم جاء بعدهم وهي:
ـ أنهم مجتهدون على معرفة بالأحكام الشرعية تصل الى
درجة الإجتهاد.
ـ أنهم في مجال النصح للأمة والإيثار والتضحية.
ـ أنهم في المبادرة والإبتكار والرأي والحنكة وسداد
الرأي في أعلى مرتبة.
ـ أنهم في المسلك الشخصي على أعلى درجة من الورع والعدالة.
ـ أنهم منتخبون.
فإذا وجدت هذه الصفات في أي حاكم، اتسق القياس.
وكذلك استشهادها برأي ابن تيمية، فإنه يشير الى (صورة
الإمام) النظرية في الفقه الإسلامي: وفيها ملاحظتان:
1) ان ابن تيمية لم يورد النص في مجال صلاحية الحاكم
وحقوقه، في مجال واجبات الحاكم قال : ( يجب على ولي أمر
المسلمين) والغرض الأساسي هو قوله: (البحث عن المستحقين
للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء والقضاة ويستعمل
أصلح من يجده). وهنا مربط الفرس: البحث عن المستحقين وأصلح
الموجودين؛ المقصود بالنص واجبات الحاكم، وتكافؤ الفرص
واختيار الأصلح.
2) أن دعاة الإصلاح لم يقولوا إن الحكومة مسلوبة الإختصاص
في تولية القضاة، إنما قالوا: إنه ينبغي إشتراك أكثر من
جهة في تولية القضاة، بأن يكون تعيين قضاة الدرجة الأولى
من مجلس القضاء الأعلى، وأن يكون تعيين قضاة الدرجة الثانية
والمجالس ورئاسة المحكمة مشتركاً بين ثلاث جهات:
أ ـ التعيين الأولي من مجلس القضاء
ب ـ الإعتراض او الموافقة من مجلس النواب
ج ـ إصدار القرار أو الإعتراض من الملك.
وهذا هو الذي يناسب صيغة الحكومة الإسلامية الحديثة.
فإذا كانت هذه الصفات لا توجد في 99% من الحكام، فلا
ينبغي وضع قواعد لواحد في المائة، لأن الشريعة لم توضع
للحالات النادرة، ولو وضعت لما جاز وضع قاعدة للحالات
الشاذّة، ثم تطبيقها على الأحوال العامة.
وحتى لو حكى ابن رشد الإجماع، فالإجماع لا يكون على
ما فيه مقال، وإجماع الفقهاء السابقين يختص عصرهم، ويعالج
أوضاع القضاء والسياسة في تلك العصور، أما ظاهرة الدولة
الحديثة، وتعقد طبيعتها، وتعدد وظائفها وكثرة مشكلات الناس
فتتطلب حلولاً عملية تسد مسارب الهوى والجور.
ودعاة الإصلاح السياسي لم يقولوا إن ما نقوله هو الصحيح
وأن غيره هو الباطل، وإنما نقول إنه الطريق المعبد لتحقيق
سلطة الأمة ومرجعيتها في تجسيد المصالح الشرعية. الذي
جرت عليه الإمم وإن الإسلام في قواعده الأساسية ومقاصده
الشرعية قد أسس ذلك، ولكن توقفت النظريات والأطر والآليات،
في ظلال الحكم الجبري الجائر القديم، وإن الأمة المسلمة
اليوم بحاجة الى نظريات وأطر وآليات تجسد مبادئ الإسلام؛
وأن على فقهاء السياسة الشرعية أن يجتهدوا ويؤصلوا، بقدر
طاقتهم، وتأصيلهم واجتهادهم ليس نهاية المطاف، ولكنه بداية
رحلة البحث عن حل للمعضل الذي تعيشه الدولة، وقد يكون
للباحثين عن الحل حدة وحماسة، تطيل ألسنتهم، ينبغي لهم
أن يقذعوا أنفسهم ويسمعوا من الآخرين، ولكن لا ينبغي تنازلهم
عن حقهم في البحث عن الحل.
إن الهيئة تنساق الى الذين يريدون حماية تخلفنا السياسي
بخطاب ديني: من أمثال الذين يحرمون الإنتخابات البلدية
والنيابية، وممن لا يرون فوائد ضمانات استقلال القضاء،
وفوائد المجالس النيابية، وفوائد التجمعات المدنية. ليت
هؤلاء الفقهاء يعيشون سنين في الدول الدستورية، ليعرفوا
صحة ما نقول، وليعرفوا أن تطبيق هذه الضمانات حقق عدالة
وشورى وتلاحماً بين القيادة والمجتمع، وازدهار النظم الدستورية
أمر طبيعي في سياق ما اعتبرناه الصيغة العباسية للثقافة
الإسلامية.
إن القرآن والسنة فصّلا شق الشريعة الروحي، كما نجد
في مسائل الطهارة والصلاة، وفصّلا ما لا يتغير من شق الأحكام
الشرعية المدني، كالمواريث وأحكام العلاقات الزوجية، وهذه
الموضوعات لا تكاد تحتاج الى اجتهادات جديدة. ولكن القرآن
والسنة لم يفصلا المسألة السياسية، لأن السياسة أشد العلوم
اضطراباً، لاختلاف طبائع الناس وعاداتهم، ولكن الإسلام
أقرّ مبدأ (العدالة) وأقرّ مبدأ (الحرية السياسية) وأقرّ
(التعددية والتسامح)، وأقرّ مبدأ (الشورى الملزمة) ولكنه
لم يفصلها في قوالب محددة، وهذا ما أشار إليه إمام الحرمين
الجويني، عندما ذكر أن مسائل السياسة (عرية من القطع)؛
وهو يقصد أن تفصيلاتها ليست من القطعيات، أما المبادئ
فهي من القطعيات. ومن أجل ذلك فإن الأخذ بما صحّ من علوم
الإنسان والسياسة والإجتماع والطبيعة، يعتبر من الشريعة،
ولو لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يفعله
الخلفاء الراشدون (كما ذكر ابن عقيل وابن القيم في غير
هذا السياق).
فإذا كان العدل والشورى في الدولة الصغيرة يضمنان بوسائل
محددة، ولا يضمنان في الدولة الكبيرة بهذه الوسائل، لا
يجوز الوقوف على الوسائل، والجمود على القوالب، واعتبارها
كالمبادئ. فديوان المظالم أحدثه العباسيون وهو صيغة ناسبت
النظام السياسي والأحوال القديمة، ولكن هذا القالب لا
يكفي اليوم في الدولة الحديثة.
ووزارة التفويض في الدولة العباسية كانت صيغة مناسبة
لعلاج أحوال سياسية لامفرّ منها، ويمكن اليوم لجوء أي
دولة الى هذا القالب مادام مناسباً لعلاج الأحوال.
والتعليم في العصور القديمة لم يكن مقسماً الى ابتدائي
ومتوسط وعال وجامعي، واللجوء الى هذا الأسلوب أفضل لضبط
برنامج التعليم في مسطرة. وهذه القوالب التعليمية الحديثة،
أفضل تجسيد لمبادئ التربية من القوالب القديمة؛ وكذلك
هي الإدارة السياسية.
سبب نزول آية الإستنباط: لعل ابن الجوزي أكثر المفسرين
تنظيماً وترتيباً لمسائل تفسير الآية، فسنعتمد عليه ونشير
الى المفسرين الآخرين. في سبب نزول الآية قولان. الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، فدخل عمر المسجد
فسمع الناس يقولون طلق نساءه، فدخل على النبي صلى الله
عليه وسلم فسأله: أطلقت نساءك؟ قال لا. فخرج عمر فنادى
ألا أن رسول الله لم يطلق نساءه فنزلت الآية، فكان هو
الذي استنبط الأمر (انفرد بإخراجه مسلم) ـ تفسير ابن الجوزي
عن ابن عباس وروى عن ابن جريج (تفسير الطبري).
الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا بعث
سرية من السرايا فهزمت أو انتصرت، تحدثوا بخيرها، ولم
يصبروا حتى يكون رسول الله هو المتحدث. رواه ابو صالح
ايضاً عن ابن عباس (تفسير ابن الجوزي).
وفي الذين يذيعون الأخبار أقوال:
الأول ـ المنافقون، عن ابن عباس والضحاك وابن زيد،
وهو قول الجمهور (تفسير ابن الجوزي).
الثاني ـ ضعفة المسلمين ـ عن الحسن.
الثالث ـ المنافقون وضعفة المسلمين (تفسير ابن الجوزي)
فهم إذا مخادعون أو مخدوعون. الأمر هو الخبر كما قال هو
واضح في سياق الكلام، وكما نص عليه المفسرون، او هو النبأ
ـ أي الخبر الهام (انظر تفسير ابن عاشور).
وفي المراد بالأمن ثلاثة أقوال:
أ ـ فوز السرية وهو قول الأكثرين.
ب ـ الخبر الذي يأتي الى النبي صلى الله عليه وسلم
أنه ظاهر على قوم فيأمن منهم، قاله الزجاج.
ج ـ ما يعزم عليه الرسول من الموادعة والأمان، تقدم
ذكره لدى الماوردي.
وفي الخوف ثلاثة أقوال:
واحد ـ النكبة التي تصيب السرية، ذكره جماعة من المفسرين.
إثنان ـ الخبر الذي يفيد أن قوماً يعدون العدة لحرب
المسلمين.
ثلاثة ـ ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال (تفسير
ابن الجوزي).
معنى (يستنبطونه): من استنبطت الركية؛ إذا استخرجت
ماءها، كل مستخرج شيئاً كان مستتراً عن ابصار العيون،
أو عن معارف القلوب فهو له مستنبط، كما قال القرطبي، فهم
يفحصون عنه ويتحسسونه ويتبعونه، كما قال أبو ... ومجاهد
والضحاك (تفسير الطبري). ويتفكرون فيه كما قال ابن زيد
(الطبري)، وهو يدل على الإجتهاد عند عدم وجود النص أو
إجماع (القرطبي)؛ الذين يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم
(الشوكاني). واستنبط الفقيه اذا استنبط الفقه الباطن (الرازي)،
وفيها دليل على حجته القياسية.
الذين يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بالحروب
ومكائدها.
أذاعوا به: سارعوا به وأفشوه وشنعوا به، كما روى عن
ابن عباس (ابن الجوزي).
سارعوا به وأعلنوه وأفشوه قبل أن يقفوا على حقيقته،
كما قال قتادة وابن جريج (ابن الجوزي) فنهوا عن ذلك لما
يلحقهم من الكذب في الإرجاف، كما قال الضحاك (القرطبي):
على طريقة الشاعر: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
الآية تعالج الشائعات التي تعتمد على أخبار غير موثقة،
أو تبالغ في تضخيم الأخبار، أو تفتعل الأراجيف والأخبار
الملفقة، ولا سيما في الأمور العامة، والتي تتصل بحياة
الناس، كأخبار الحروب والجيوش وأخبار امتلاك بعض الدول
سلاحاً غير تقليدي، والإخبار عن نيّة دولة غزو أخرى، ومنها
الشائعات حول أمراض الرؤساء والملوك ونحوها، وحول حياتهم؛
ومن الشائعات التي تتصل بميزانيات الدولة، ولهذه الأخبار
آثار على الأمن الوطني، ولها آثار على حركة التجارة مما
هو معلوم معروف.
والخلاصة أن آية الإستنباط تشير الى صفات في (أولي
الأمر) حسبما جاء في تفسيرات الصحابة والتابعين، وهذه
الصفات هي:
1 ـ أنهم من أهل العلم والفقه (وقد بينا سابقاً أن
معنى كلمة الفقه والعلم في المعجم الراشدي، معنى لغوي،
قبل أن يصبح الفقه والفقهاء والعلماء والعلم مصطلحات خاصة
في الثقافة الدينية). وهذا مقصود من قال أنهم أهل الفقه
والعلماء، الحسن البصري وقتادة (تفسير ابن الجوزي) ولذلك
تأتي صفة (العقل) مرادفة لأوصافهم بالفقه والعلم، كما
قال ابن جريج (أهل الفقه في الدين والعقل).
ومن أجل ذلك مثل لهم ابن عباس بأبي بكر وعمر وعثمان
وعلي ـ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (تفسير ابن الجوزي)
وذكره البغوي والسمرقندي، ومثل لهم عكرمة بأبي بكر وعمر
(تفسير ابن الجوزي). ومن خلال الوصف اللغوي والنموذج البشري،
صاغ عديد من المفسرين معنى أولي الأمر بأنهم أصحاب البصيرة
والرأي من أكابر الصحابة، أي أصحاب العقول الراجحة، الذين
يرجع الناس اليهم في أمورهم، والذين يستخرجون المعاني
الخفية على العاديين من الناس بتدبيرهم وصحة عقولهم، كما
فصل ذلك الشوكاني، وأجمله عديد من المفسرين بعبارة متوارثة:
كبراء الصحابة البصراء بالأمور، كما قال البغوي والثعلبي
والبيضاوي والنسفي وابن عاشور وأبي السعود.
وهذا التفسير لا يمنع من دخول أمراء سرايا الرسول صلى
الله عليه وسلم كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والولاة،
فلا يمنع من تفسير الآية بأنهم الولاة وأمراء السرايا
كما ذكر السدّي ومقاتل وابن زيد (انظر تفسير الطبري والقرطبي
وابن الجوزي).
فالأوصاف المركزية لأهل الإستنباط هي الحنكة والتدبير
وسداد الرأي وحدة البصيرة؛ وإذن فالمعنى المركزي لأولي
الأمر هو الحنكة والبصيرة والقدرة على استنباط ما وراء
الكواليس، كما أن الأمر يختص بالشأن العام للأمة والشعب،
مجتمعاً ودولة. وسواء إذن قيل كبراء الصحابة أو أمراء
السرايا، فهذه اوصاف تشير الى المعنى المركزي ولكنها ليس
إياه؛ فالمعنى المركزي هو الرأي المحنك، ومن طبيعة الأمور
أن لا يبرز في المجتمع النبوي والراشدي إلا المحنكون أصحاب
الرأي ومن الطبيعي أيضاً أن لا يولي النبي صلى الله عليه
وسلم على سراياه إلا ذوي الرأي والمكيدة وحسن التدبير،
فالحرب خدعة.
فإذا كانوا من ولاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرائه
على السرايا، فهم إذن من موظفي الدولة عامة والحكومة خاصة.
وإذا كانوا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهم من أعيان المجتمع
الأهلي والدولة، هم متبوعون وكبراء لا بمناصبهم، بل بما
لهم من إيثار وصدق ونصح للأمة، ورأي سديد، وشجاعة متميزة.
وهذه الصفات تعني أن أهل الرأي والتدبير هم في المجتمع
الأهلي المدني والدولة، وليسوا محصورين في موظفي الدولة؛
وأن أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي هم أهل أهل الحل والعقد
أيضاً، حتى لو لم يكونوا على وظائف حكومية. إنه كلما أمكن
الجمع بين النصوص التي يبدو فيها التعارض والتفسيرات المتعددة،
فذلك هو الأسلم والأصل.
من أجل ذلك، وسواء أكانت الآية، آية الإستنباط أم آية
الطاعة، فنحن أمام صفات أشخاص بأنهم:
1 ـ أصحاب إيثار ونصح وإخلاص للأمة.
2 ـ أصحاب رأي وحنكة وبصيرة وعلم وحسن تدبير.
3 ـ أصحاب شجاعة متميزة.
4 ـ أصحاب نزاهة واستقامة في السلوك.
5 ـ وهم بعد ذلك نوعان: موظفون في الدولة في وظائف
مدنية وعسكرية؛ ورجال بارزون في المجتمع الأهلي ليس لهم
وظيفة قائد سرية أو أمير على مدينة أو رئاسة قبيلة كسعد
بن معاد وسعد بن عبادة.
بيد أن التمثيل المتكرر بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي،
يدل على أننا أمام أصحاب الشورى الذي توفي النبي صلى الله
عليه وسلم وهو عنهم راض، وأننا إذن أمام أهل الحل والعقد،
وأن الشورى وأهل الحل والعقد إنما هم من المجتمع المدني
الذي لم يتكون على أساس إقليمي أو قبلي.
وآية الإستباط أوضح دلالة إذن على مسألة الرأي، وآية
الطاعة أدلّ على مفهوم أهل الحل والعقد، وعلى مفهوم الإجماع
والمرجعية.
والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وفي آية الطاعة (النساء
59) قبل آية الإستنباط (النساء 83) لا يعني اختلاف السياق.
فترتيب سور القرآن وآياته، لم يكن مبنياً على التسلسل
الزمني.
فإذا أردنا أن نطبّق هذا المصطلح على الدولة الإسلامية
الحديثة، وجدنا أمرين:
الأول ـ أنه ينبغي تطوير مفهوم ولي الأمر، من صورة
الأشخاص الى صورة مؤسسية، بمعنى آخر ألا ينحصر ولي الأمر
في شخص، بل ينبغي أن يتسع للمفهوم المؤسسي للحكم؛ وبدلا
من أن يقال الملك أو الرئيس ولي الأمر، ينبغي أن يقال
السلطة التنفيذية، وبدلاً من أن يقال القاضي أو رئيس القضاة
هو ولي الأمر، ينبغي أن يقال: السلطة القضائية أو مجلس
القضاء الأعلى، أو محكمة العدل العليا.
الثاني: إن أقرب الصيغ له ثلاث صيغ:
أ ـ مجلس النواب، وهو أهمها وأولاها بالمفهوم، فهو
الجهاز الذي ينبغي ان يضع الخطط العريضة لسياسة الدولة
الداخلية والخارجية، والخطوط العريضة للتربية الإجتماعية
والتعليم، ولموارد بيت مال الشعب، وأوجه صرفه، ويتضمن
إصدار القوانين السارية في الدولة، ويجسد بذلك كبراء القوم
في المجتمع الأهلي من المتبوعين من أهل الإيثار والنصح
للأمة، وأصحاب العلم والحنكة، وأصحاب الشجاعة، وأصحاب
النزاهة الذين لا يستمدون سلطتهم من تولية الحكومة لهم
في منصب.
فأقرب الأطر لهذا المفهوم في الدولة الإسلامية الحديثة
هم أعضاء مجلس النواب الذين ينتخبهم الشعب. لأن هؤلاء
يجمعون بين الصفتين الواردتين في التفاسير معاً: أنهم
من الكبار البارزين البصراء من العلماء والفقهاء، وأنهم
من ولاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمراء السرايا.
إن مجلس النواب يعتبرا والياً ولّته الأمّة أمر تقرير
مصالحها. لذا فهو يجمع بين مفهومي السلطة معاً: السلطة
المادية ـ الولاية، والسلطة العنوية بمعنى أنه يضم كبار
القوم من البصراء، أهل الحل والعقد، الذين يجسّدون إجماع
الأمّة.
ب ـ الجماعات المدنية الأهلية: وهم جماع رأي الأمة
وخلاصة تفكيرها في أمر من الأمور، وولي الأمر في هذه الحالة
كما هو أيضاً في مجلس النواب.
فالفقهاء هم أهل الإستنباط والرأي والأمر في الأحكام
الشرعية والروحية كالصلاة والصيام والحج ، ومما نصت عليه
الشريعة في الأمور المدنية كالأرث وأحكام الزواج، والرد
إليهم في هذه الأمور واجبهم، ومعصيتهم تؤدي الى الهلاك
الأخروي او الدنيوي أو هما معاً.
وأهل الرأي والإستنباط والطاعة في تخطيط المدن والبناء
وإنشاء الطرق، هم المهندسون وطاعتهم واجبة على الأفراد
والمجتمع، ومعصيتهم فيما يؤدي الى اختلال العمران من كبائر
المعاصي.
وأهل الرأي والحنكة والطاعة في أمور المال والإقتصاد
والتجارة تجب طاعتهم، ومعصيتهم تؤدي الى انهيار الإقتصاد،
ولو أن الناس أهملوا شؤون الصناعة ولم يطيعوا أصحاب الرأي
فيها، لاستمروا يستوردون وافتقرت الأمة وضعف استقلالها
السياسي بسبب ضعف استقلالها الإقتصادي، ولأصبحت الأمة
لقمة سائغة في سوق العولمة ولتعرضت لمزيد من ... رياح
الفرنجة والعلمنة ومزيد من الإذلال وافقدان السيادة الوطنية
والإستقلال.
وأولو الأمر في الشؤون العامة والسياسية هم خبراء الإدارة
والسياسة والدولية، وأهل القانون الدستوري، وأهل حقوق
الإنسان والمجتمع المدني، ولا يمكن حفظ كيان الأمة وتجديد
هياكل الإدارة من دون حركات التجمعات الأهلية المدنية.
لأن الفقهاء والعلماء والخبراء لا يستطيعون من خلال وظائفهم
الحكومية في الجامعات او القضاء أو شؤون الدولة الأخرى
أن يبلوروا مفهوم أولي الأمر افراداً، فكان من الضروري
أن يتشكل على شكل هيئات ونقابات وجمعيات، ليصبحوا مرجعية
للأمة في الرأي، حسب اختصاصاتهم الروحية والمدنية، زراعة
واقتصاداً وادارة وسياسة وصناعة. لأنهم يجسدون مبدأ التعاون
على البر والتقوى كما يجسدون مبدأ التآمر بالمعروف والتناهي
عن المنكر.
والجمعيات المدنية بذلك تجسد مفهوم أهل الحل والعقد،
فلا خير في شعب لا يجعل أهل الحل والعقد في شؤون الزراعة
والمياه في يد خبرائها، ولا خير في شعب لا يجعل أهل الحل
والعقد في التربية في يد خبرائها، ولا خير في شعب لا يجعل
أهل الحل والعقد في شؤون السياسة في يد خبرائها.
وهي أيضا تجسد مفهوم (كبار الصحابة البصراء كأبي بكر
وعمر وعثمان وعلي) من حيث أن الناس يتبعونهم لما يرون
من نصحهم وسداد رأيهم وإأيثارهم وشجاعتهم وهم في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم من المجتمع الأهلي المدني.
إن القرآن الكريم لا يحصر هذه المفاهيم بإطار الحكومة،
دليل ذلك أن مصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو
من أكثر المصطلحات دوراناً في القرآن، لم يخصص به المجتمع
الرسمي، مع أن الأمر والنهي يؤيدان الطلب على جهة الإستعلاء،
ولم يحصرا لا بحاكم ولا فقيه، بل هما مطلوبان من كل فرد
وجماعة.
هاتان الصورتان هما الأقرب الى مفهوم الرأي والإستنباط،
وهم العلماء والفقهاء وكبار الصحابة البصراء، وأبي بكر
وعمر وعثمان وعلي (في عهد النبي صلى الله عليه وسلم) الذين
مثل بهم المفسرون من صحابة وتابعين.
بيد أنه لا مانع من إطلاق ولي الأمر على صور أخرى أقرب
الى مفهومه: كأن يطلق على القضاة، فهؤلاء أقرب الناس الى
مفهوم ولي الأمر من أهل الحل والعقد لاعتبارات:
أ ـ أن الآيتين نصتا على الرأي والحنكة والبصيرة والقضاة
أولى الناس في قضائهم.
ب ـ أن آية الطاعة جاءت في سياق الأمر بالعدل في الحكم
بين الناس، وذم التحاكم الى الطاغوت في النزاعات. وهذا
يدل على أنها أقرب الى مفهوم القضاء بين الخصوم منها الى
مفهوم الإدارة السياسية.
ج ـ أن القضاة أقرب الى الصفات النموذجية المطلوبة
فيمن ترد اليه الأمور: وهي العدالة والكفاية. فالقاضي
ولي أمر، ولكن الخروج بالصيغة من الأفراد والأشخاص الى
المفهوم المؤسسي أولى، فيقال ولاة الأمور عن السلطة القضائية،
أو ولية الأمر القضائي.
ليس في النصوص الشرعية ما يمنع من إطلاق لفظ ولي الأمر
على الحكام، قياساً على ولاة النبي صلى الله عليه وسلم،
من أمراء السرايا والمدن، ولكن ينبغي ملاحظة كيفية انسجامه
مع مفهوم السلطة في الإسلام، عندما يطبق قالبها على الدولة
الإسلامية الحديثة وذلك بمراعاة ما يلي:
1 ـ ملاحظة أنه لا ينفرد بالمفهوم، وأن (مجلس النواب)
أقرب الصور المعاصرة الى هذا المفهوم، وأن السلطة القضائية
أيضاً أقرب منه، فإذا قيل ولاية الأمر عبء موزع على ثلاثة
أعمدة هي مجلس النواب والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية،
فهذا تفسير معقول، وإن كان إطلاق ولي الأمر على الحكم
مرجوحاً.
2 ـ أن من الأفضل تجنب هذا المصطلح في دستور الدولة
الاسلامية الحديثة، لأن له إيحاءات وظلال تراثية لا يمكن
تجنبها ولأن استخدامه يتضارب مع مفهوم توزيع سلطة الدولة،
ولأن استخدامه ارتبط بالفردية في إدارة الحكم؛ ولأن السلاطين
العباسيين والعثمانيين كانوا يختصون به.
3 ـ إنه لا يمكن اعتبار أي رئيس أو ملك من أولي الأمر،
إلا إذا عدل والتزم بالشورى، وإطلاق ولي الأمر على أشخاص
ليس في منظومة حكمهم ما يدل على المفهوم الدستوري للحكم،
وأن للأمة القوامة على الحاكم وأن توزيع السلطات مسألة
لا يمكن تبرير العدول عنها ، وأن طاعة السلطان إنما تكون
بناء على عدله ومشاورته أهل الحل والعقد وطاعتهم؛ فإذا
لم تقرر هذه الأمور في الدولة، ولم يقم الحاكم بتطبيقها
فإطلاق لقب ولي الأمر عليه فيه إشكال شرعي، نبّه إليه
أحد التابعين، مسلمة بن عبد الملك، عندما أراد إطلاق ولي
الأمر على الخليفة الأموي. وقياس الملوك والرؤساء على
ولاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمراء سراياه، قياس مع
الفارق، فولاة الرسول أمراء سراياه، يشهد لهم الناس بالعدالة
الشرعية، فضلاً عن ما لهم من كفاية وبعد نظر وحسن تدبير.
وإنما استعمال الكلمات الدارجة مثل الملوك والسلاطين
والأمراء والحكام والإمام هو الأولى؛ لا سيما أن إطلاق
ولي الأمر على الأمير والحاكم، فيه اشكال واحتمال حتى
في إطلاقه على الأمراء الشوريين العادلين.
|