الدولة السعودية وإشكالية التكوين
اكتسب مصطلح الدولة مفهوماً فلسفياً ودلالة تاريخية
أصيلة في التراث الانساني، وأصبحت صورة للجماعة الانسانية،
وقد دلّت في الغالب على جماعة سياسية أو كيان سياسي حظيا
خلال الصيرورة التاريخية لهما بصور متنافرة بما أسبغ عليها
إهتماماً فريداً من العلم التاريخي وومن ثم الفلسفة السياسية
التي نزعت الى تفسير ظاهرة نشوء الكيانات الاتحادية وصولاً
الى نشوء الدول على اساس تلك العلاقة الفريدة والثابتة
بين جماعة وإقليم معينين.
إن التراث السياسي الانساني يرشدنا الى أن الدولة صدرت
في منشأها عن فكرة باتت شائعة في علم السياسة الحديث وهي
أن الجماعة السياسية ذات صفات عامة تتجاوز الحيز الزمكاني
كون الجماعة تتخذ سيرورة نمو وتغير في مجرى التاريخ، وهذا
ما فرض جهداً بحثياً لجهة توصيف الكيانات الانسانية الحديثة
في حالة الثبات. إن الدولة من حيث هي ظاهرة عمومية هي
نوع من الفعالية يفرض نفسه على الانسان كضرورة، وأن ثمة
وجوه ثابته لهذه الفعالية تخلق علاقات مستقرة بين الكائنات
البشرية والمصادر الطبيعية أو الثروة التي تملكها، وهي
بدورها تخلق وحدة أو أساس وحدة بين فئات المجتمع. فالدولة
تصبح في مثل هذه الحالة غائبة، أي أن أصل نشأتها ووظيفتها
قد تقررت بناء على توافق ضمني بين الكائنات البشرية على
صياغة علاقة ثابتة بينها وبين الطبيعة بمحتوياتها داخل
إطار الاقليم المعين الذي تعيش بداخله.
إن غائية الدولة فرضت شكلاً محدداً للحكومة، أي طاعة
وإمتثال بين أفراد الدولة، بما يجعل الاخيرة إطاراً حصرياً
من حاكمين ومحكومين يقيم علاقات منتظمة بين البشر والاشياء،
وهذا التعريف يوفّر الحد الادنى والتبسيطي من توصيف الدولة،
باعتبارها نوعاً خاصاً من الفعالية البشرية.
ومن هنا يأتي اختبار صحة الاغراض التي تسعى اليها الدولة
والوسائل التي تستعملها، من خلال طائفة من المفردات من
قبيل: طبيعة النظام الاجتماعي المراد تحقيقه، وصورة الحكومة
المناسبة، ومستوى الرضا الذي تتوصل اليه الدولة في علاقاتها
مع خارج الجماعة التي تنضوي بداخلها.
الدولة بهذا المعنى المشار اليه هنا لا تكتسب صفتها
وشرعيتها من مجرد إحلال النظام محل الفوضى فحسب، بل وأيضاً
من خلال إرساء نظام صحيح، حقيقي، وعادل بدلاً من نظام
خاطىء، غائم، واستبدادي، وهذا ما يميزها عن نماذج التجمع
البشري الاخرى التي غالباً ما اضمحلت في مجرى التاريخ.
لقد ميّز أرسطو بين الصورة النموذجية لحكومة جماعة
وصورة بيت أسرة، ثم طوّر جون لوك هذا التصوير لينفي الفكرة
الشائعة حينذاك بأن الجماعة السياسية ما هي الا توسّع
الاسرة، حيث أن السلطة السياسية لدى لوك ليست من طبيعة
أبوية، وهذا ما أتاح مجالاً واسعاً للتمييز بين الجماعة
السياسية والجماعة الدينية. فقد جادل هوبز بأن السلطة
الدينية الكهنوتية، في جوهرها، ليست من طبيعة سياسية،
كونها لا تمثل صورة حكومة أو إمرة تقوم على الهيمنة والقهر،
وإنما هي صورة تربية وإقناع وبالتالي فمن غير الممكن مطالبتها
بأولوية على الدولة، بل على العكس من ذلك، فإن المذاهب
الدينية انما اكتسبت قوامها السياسي بدعم الدولة ذاتها.
إن اندلاع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في القرن
التاسع عشر الميلادي ساهم الى حد كبير في توفير حقائق
جديدة على الارض عكست نفسها في مجال التنظير السياسي،
وطوّر تبعاً لهذا التحول الكبير في أوروبا مفهوم الدولة.
فلم يعد المجتمع يمثل الاتحاد السياسي بين كائنات بشرية
من جانب الدولة، بل غدا شبكة من التفاعلات والمبادلات
أقامها أفراد يضعون موضع العمل حقهم في السعي الى تلبية
حاجاتهم الخاصة، كل منهم بطريقته، ومن هنا بدأت فكرة المجتمع
المدني، الذي يدير ذاته بذاته كما نظّر لها هيجل.
وقد صار ثابتاً بالضرورة أن شمولية الدولة الحديثة
تتحدد من خلال إعادة إدماج المجتمع، بما هو جملة من الفعاليات
التلقائية، في بنية الدولة بدلاً من تحريره منها، وحيث
تكون الدولة تابعة لحزب أو أسرة تقترب الى حد من نموذج
الحركة الدينية التي يرأسها أب من نوع ما.
ومع أن منظري الدولة يشترطون درجة زائدة من الهيمنة
وإحتكار القوة للجهاز الحاكم من أجل ترسيخ كيان الدولة
واكتساب المشروعية، فقد اضطروا للتمييز بين نوعين: الهيمنة
(hegemony) والسيطرة (dominance) من أجل وضع حد فاصل بين
الدولة كظاهرة قهرية إكراهية غاشمة والدولة بوصفها ظاهرة
انسانية تتطلب درجة من القوة والهيمنة تفوق باقي مصادر
القوة في المجتمع كمتطلب إستمرار وضبط.
بالنظر الى ماسبق، فإن الدولة السعودية واجهت إشكالية
تكوينية منذ مرحلة مبكرة، فهي لم تقرر اكتساب مصدر مشروعيتها
من خلال توافق أو سلسلة توافقات بين الكائنات البشرية،
وإنما لجأت منذ نشأتها الى القوة الاكراهية الغاشمة كمبرر
وجود واستمرار. فالدولة السعودية لم تنشأ بصورة طبيعية،
أي كإفراز لنمو وتغيير داخلي ولا حتى كحاصل جمع لتراكم
تاريخي لجماعة معينة، وإنما برزت في المرحلة الاولى كظاهرة
إنشقاقية في المجتمع النجدي ثم إستحثها الانتصار العسكري
في نجد الى مد ذراع سيطرتها الى المناطق المجاورة دون
النظر الى إمكانية تحقق ذلك فعلياً.
إن سلسلة الغزوات التي تعرضت لها مناطق عديدة من الجزيرة
العربية والتي شكّلت فيما بعد مكوّنات الدولة السعودية
أفضت الى قيام كيان جيوسياسي موحّد عام 1932، يصعب توصيفه
بالدولة، باعتبار أنها لم تنبعث من إرادة جماعية ولم تنبثق
من إقليم موحد قرر طوعاً أن يكون جزءا من الكيان الجديد،
فضلاً عن أن تكتسب ـ أي الدولة السعودية ـ صفة التمثيل
المؤسسي لارادة الشعب. فقد كانت القوة الغاشمة وحدها الوسيلة
القسرية لعمليات إلحاق متسلسلة إستهدفت إقامة كيان سلطوي
تابع لأسرة.
إن ما نبذه هوبز في تفريقه بين الجماعة السياسية والجماعة
الدينية قد تحقق في السعودية ولكن بطريقة مشوّهة، فأخرجت
للنور دولة هجينة تتوحد في أبوية من نوع مختلف ذات طبيعة
دينية وسياسية. إن هذا المركب (الديني السياسي) صنع سلطة
أبوية لا ينازع فيها الديني السلطة السياسية في اتخاذ
القرارات المتصلة بمصالح الطبقة الحاكمة إستناداً على
سلطة الدين ولا ينازع فيها السياسي السلطة الدينية في
إتخاذ القرارات المتصلة بتعميم المعتقد وقلب المعتقدات
إستناداً على سلطة الدولة.
لقد بقي مسمى الدولة قائماً تبعاً للشكليات المعمول
به في المحافل والمؤسسات الدولية والعلاقات الدبلوماسية
ولكن في جوهرها لم تتجاوز حد السلطة القهرية الابوية التي
يتحالف فيها الملك والمفتي كرمزين للمؤسستين السياسية
والدينية في تحقيق أغراض خاصة وبوسائل خاصة. وهنا تبدو
القطيعة واضحة بين المجتمع والدولة الممثلة لارادته، فلا
إرادة شعبية فعلية ولا متخيلة يمكن أن تقوم مقاوم تظافر
إرادتي السياسي والديني.
لقد كانت السلطة الدينية في السعودية تضاهي السلطة
السعودية إن لم تكن قد تفوقت عليها في بعض المراحل كما
حصل في الدولة السعودية الاولى والثانية والى ما قبل قيام
الدولة السعودية الحديثة، وبالتالي كانت لها اليد العليا
في تقرير مصير المجتمع ومصالحه، ولكن اعلان الدولة السعودية
عام 1932 واستكمال شروط قيام السلطة السياسية أضفى على
الاخيرة قوة هائلة، أخذت في التعاظم تدريجياً مع تمأسس
السلطة وتشكيل الوزارات التي أفضت الى انخفاض البعد السياسي
للسلطة الدينية مع ازدياد البعد الديني للسلطة السياسية.
إن التحولات الشكلية في بنية السلطة لم يبدّل نظرة
أهل الحكم الى الدولة، باعتبارها إمتيازاً مقفلاً واحتكارياً
للأسرة الحاكمة، وهو ما مهّد لتمدد لا محدود للجهاز البيروقراطي
على حساب المجتمع وتكويناته، الأمر الذي سمح لنشوء ظاهرة
الاستزبان السياسي داخل جهاز الدولة، وهي ظاهرة تقوم على
تشكّل حلقات مصالح داخل الدولة تكون مرتبطة بالاسرة الحاكمة،
تفضي الى إعاقة حركة الدولة والمجتمع.
في النظم السياسية الحديثة وفي الغرب على وجه التحديد،
جرت عملية إنسحاب تدريجي للحاكمين لحساب المحكومين في
إطار عملية إعادة الحقوق والوظائف لصاحبها الاصلي، أي
المجتمع دون ان ينال ذلك الانسحاب من هيبة الدولة واستقرارها
وتماسكها الداخلي، وكان الهدف بصورة رئيسية من ذلك الانسحاب
تحسين أداء الدولة وتنظيم المصالح العمومية، فتطابقت الدولة
مع أهدافها الاصلية التي من أجلها تشكلت كما رسم لها منظرو
الدولة الاوائل حين قرروا وظائف محددة للدولة لا تحيد
عنها ولا تتجاوزها، فاصبح للدولة دور محدد هو تنظيم المصالح
العمومية ودرء المفاسد وحماية الاعراض والممتلكات من العدوان
الداخلي او الخارجي، والاهم من ذلك تمثيل الارادة الشعبية.
على الجبهة المعاكسة تقبع الدولة التسلطية كما يصفها
خلدون النقيب، فقد كان هناك عمل دؤوب على تسلل الحكومة
الى جميع مرافق الدولة وإطالة ذراعها الى المصالح العمومية
الى حد مزاحمة الناس في أرزاقها، وفي لقمة عيشها، بل وفي
تفكيرها. فلم يعد هناك ما يفصل بين ما هو خاص بالحكومة
وما هو عام للمواطنين، وكل ذلك لأن ولاة الأمر ينظرون
الى الدولة بكافة مكوّناتها ومقوماتها ملكاً خاصاً وإمتيازاً
فريداً لهم وبئراً نفطياً ينعمون به ويقتسمونه فيما بينهم
ويسترضون به من عاضدهم او تحالف معهم في انجاز مهمة السيطرة
والنفوذ.
فالدولة لدينا لم تعد إذن هي التمثيل المؤسسي للمجتمع
ولا أداة لتنظيم المصالح العمومية وقوة رادعة للطامعين
سواء في الداخل او الخارج، بل تحولت بفعل اختلال الوظائف
المرسومة لها في الاصل الى أداة لتعطيل المصالح وقوة قامعة
في الداخل وهشة في الخارج، ولا غرابة، والحال هذه، أن
تسمع قصصاً تنال من كبار الامراء حول نزع ملكية هذه الارض،
ومصادرة بستان هذا او مزرعة ذاك، او المشاركة الاقحامية
في هذه التجارة، وهذه القصص تتكرر على ألسنة المواطنين
من غربه الى شرقه.
السبب في ذلك كله، أن الدولة ليست منفصلة عن الحكومة،
فالدولة بما فيها شيء من أشياء الحكومة والاخيرة امتياز
خاص بعائلة او قبيلة او حزب، ولنفس السبب يكون مصير هذه
الحكومة والدولة ملتحماً بمصير العائلة، ولنفس السبب ايضاً
تكون الوحدة الوطنية مهددة سيما اذا كان البلد مثل السعودية
حيث التعددية فيها تمتد من اللهجة والزي وتمر بالمذهب
والثقافة والعادات الاجتماعية وتصل الى التطلع السياسي،
وحيث عملية الاندماج السياسي الحقيقي لم يتحقق حتى في
حدوده الدنيا، فحينئذ تقف الدولة وجهازها الاداري أي السلطة
على طرف نقيض مع باقي فئات الشعب المتضررة من الدولة والسلطة
فيها. ومن هنا يصح القول بأن الدولة نشأت على تضاد مع
مصالح المجتمع.
والمفارقة المثيرة للجدل دائماً، أن الدولة لدينا تتمتع
بكونها (قوية) و(تسلطية) لا بمعنى ان هذه الخصائص كامنة
في الدولة تكويناً، ولكن بالمقارنة مع وبالنظر الى ضعف
القوى الاجتماعية، ولكنها هذه القوة والتسلطية يجري استعمالهما
والتلويح بهما في مواجهة المحكومين وليس من أجل مواجهة
التهديدات القادمة من خلف الحدود، فتلك مهمة أوكلت الى
غيرنا.
إن قوة الدولة وتسلّطها نابعان في حقيقة الأمر من كونها
أكثر تغلغلاً وإقتحاماً في الشأن العام من أي قوة اجتماعية
اخرى، فهي التنظيم الاكثر تضخماً وسيطرة على منابع الثروة
والقوة، وهنا مكمن الخطورة. فالدولة بتغلغلها تزيد من
التزاماتها، وضغوطها وتالياً تثير السخط الشعبي حين تعجز
عن الوفاء بالتزامات فرضتها هي على نفسها.
كانت الدولة التسلطية أمام فرصة تاريخية لأن تعيد تشكيل
نفسها، والتخلص من أعبائها القديمة، وبالتالي اجراء عملية
اصلاح راديكالية مأمونة العواقب من خلال التحرر تدريجياً
من مهماتها الاضافية، ولكن الاصرار على ابقاء القبضة الحديدية
على السلطة حرم النظم السياسية من فرص كانت فقيرة اليها.
فمع استكمال بناء مؤسساتها ثم دخولها في برامج التنمية
الشاملة كانت السلطة قابلة للتحول الى دولة حتى وإن اقتضى
الامر نقل جزء كبير من مسئولياتها وامتيازاتها الى الشعب،
وبالتالي اجراء عملية دمج حقيقية للشعب في العملية التنموية
في بعديها السياسي والاقتصادي، وكان ذلك يتطلب إرساء أساسات
جديدة يكون فيها الشعب قادراً على تشكيل مؤسساته الخاصة،
وحين بدأت بوادر الازمة الاقتصادية في بداية الثمانينات
كانت السلطة السياسية أمام فرصة أخرى وربما أخيرة من أجل
انقاذ ما يمكن انقاذه ولتجنيب البلاد والعباد أزمات خانقة
تهزّ بشدة قواعد الاستقرار في الدولة وبما يهدد بقاءها.
|