الشيخ أحمد زكي يماني بمناسبة رمضان
إذا كان الإصلاح السياسي غير مرغوب به فهناك ساحات
أخرى!
إعتاد الشيخ أحمد زكي يماني أن يرفق بطاقة تهنئته السنوية
بشهر رمضان بمقالة يكتبها عن حدث أو قضية تشغل بال المسملين،
على أن تنبثق فكرتها من شهر رمضان الكريم نفسه؛ وقد عاد
الشيخ في هذا العام الى أفكار الماضي متحدثاً عن ارتباط
الإسلام بالعلم، وعلاقة ذلك برمضان وبرؤية الهلال، ومما
جاء في تهنئته:
إن العلم والإسلام أمران لا ينفصلان، يرتبطان بمكة
وبشهر رمضان حيث هبط الوحي على سيد البشر عليه السلام،
يأمره وهو الأمي أن يقرأ باسم ربّه الذي علّم بالقلم،
علّم الإنسان ما لم يعلم. وكما ارتبط العلم بالإسلام والقرآن،
فقد ارتبطا بشهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن.
يشرح ذلك الإرتباط العضوي كيف كان المسجد الحرام أول
جامعة إسلامية درّس فيها ابن عم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: حبر هذه الأمّة، عبد الله بن عباس، رضي الله عنه،
وكان من حظّي في مقتبل عمري أن أدرس فيها وأن أتنقّل بين
حلقاتها، أنهل من معين علمائها. وقد وضعت (في تهنئة سابقة)
مخططاً لأماكن حلقات الدروس التي عرفتها أو تنقلت فيها
وهي تتناول الفقه بمذاهبه الأربعة والتفسير والحديث وعلوم
العربية والرياضيات وعلم الفلك الى غير ذلك من العلوم.
أراد الله أن أشهد تلك الجامعة وأشهد نهايتها.
والجانب الآخر الذي أتطرّق إليه في تهنئتي هذه هو (رفضنا
لما أنتجه العلم لنا نتيجة جهلنا).. وكأننا نصرّ على البقاء
في صحراء الجهل وأمامنا واحة العلم الذي حثّ القرآن ونبي
الإسلام على اقتحامه.
ومن يعود بذاكرته الى الوراء، إن كان عمره في حدود
عمري، يذكر أن التليغراف كان مرفوضاً شأنه شأن التليفون،
وأن الميكرفون المكبّر للصوت هو في حقيقته صوت الشيطان!؛
وهذه الأجهزة أصبحت جزءأً لا يتجزّأ من حياتنا. وقرأت
فتوى بتحريم سماع الراديو، وأن الأرض منبسطة غير كرويّة،
وأن من قال بهبوط الإنسان على القمر فقد كفر. ويندر ألاّ
يكون في بيوتنا جهاز راديو (والأدهى منه التليفزيون!!)
ولا يوجد بين طلبة مدارسنا من لا يعرف أن الأرض كروية،
وأن الإنسان هبط على ظهر القمر.
تلك نماذج من عدائنا للعلم زالت وتكاد تُنسى، وإذا
ذُكرت، صاحبتها ابتسامة استغراب أو استهجان.
بقي الآن عداؤنا لعلم الفلك، أو علم الفضاء كما أُسمّيه،
ورفضنا أن يكون وسيلة لإثبات الأهلّة، خصوصاً لدخول رمضان
أو خروجه، ولدخول شهر ذي الحجّة رغم أننا سلمنا بشكل عملي
وقبلناه للصلاة، وهي مقدّمة على الصوم والحج في أركان
الإسلام.
فصلاة الفجر يبدأ وقتها بظهور الفجر الصادق، ومَنْ
منّا يخرج لمراقبته، ولا يكتفي بالنظر الى ساعته والى
جدول مواقيت الصلاة؟ وكذلك الظهر بالزوال والعصر بمثلي
الظلّ، ومثله المغرب بالغروب والعشاء بزوال الشّفق الأحمر.
لقد رضينا بالحساب في جداول مواقيت الصلاة، واستخدمنا
الساعة لمعرفة الوقت، ولا أظن أن المؤذنين في مساجدنا
يستخدمون وسيلة غير ذلك.
بقي موضوع إثبات الأهلّة في دخول شهر رمضان أو خروجه،
ودخول شهر ذي الحجة، وإصرارنا الشديد على رفض وسيلة علمية
قاطعة غير ظنّية فصمنا أحياناً يوماً من شعبان وأفطرنا
آخر يوم من رمضان، ووقفنا بعرفات في الثامن من الشهر بشهادة
إثنين قيل أنهما من كبار السنّ رأيا الهلال بعد غروبه
أو قبل ولادته!! ولا يستطيع أحد أن يجهر برأيه مخافة أن
يُجرّ لساحة المحاكم!
لقد كتبتُ في تهنئة ماضية عن هذا الموضوع، كما أشرت
اليه في التهنئة الماضية، وأجد أن الأمر يحتاج الى تكرار
بعد تكرار خصوصاً وأنّا نتحدث عن الإصلاح، فإذا كان السياسي
منه غير مرغوب، فهناك ساحات وحقول تحتاج لإصلاح منها:
نظرة علمية جادة فيما يتعلق بصوم المواطن وحجّه.
ونحن نهاجم من ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة،
ونلبسه ثوب الردّة، أو ليس من حقنا أن نلفت النظر الى
إنكار ما هو معلوم من العلم؟ خصوصاً إن كان إنكاره يمسّنا
في أداء فرائضنا؟ لقد كان أجدادنا من المسلمين هم الروّاد
الأوائل في علوم الفلك، قطعوا شوطاً كبيراً في ضبطه واختراع
أدواته، ولكن جهدهم المشكور لم يصل لمرحلة العلم القطعي،
واختلف فقهاؤنا بين القبول به في حالة النفي إذا أثبت
الحساب عدم إمكانية رؤية الهلال، فيرد الشهود الذين يدّعون
رؤيته، وهناك من قبله مطلقاً أو رفضه مطلقاً، وأصرّ على
الرؤية وسيلة فريدة لإثبات الأهلّة.
ثم تطوّر العلم الفكي فأصبح يقينيّاً وقطعيّاً لا يشوبه
الخطأ البشري من ممارسة الحساب، وعرفنا أنه بعيد كل البعد
عن التنجيم والشعوذة، وأصبحنا نستخدم علم الفضاء في الإتصالات
التليفونية عبر القارّات ومشاهدة الفضائيات عبر أقمار
صناعية يعرف مدارها مَنْ أطلقها. والله جل وعلا، وهو الذي
علّم الإنسان ما لم يعلم، وضع أقماراً وشموساً أكثر دقّة
وأحسن صنعاً مما علّمه الإنسان، وحاشا أن نقارن صنع الله
بصنع الإنسان.
والله تعالى جعل الأهلّة مواقيت للناس والحج. واليوم
الشرعي يبدأ بغروب الشمس وينتهي بغروب اليوم التالي، فالليل
قبل النهار (فيما عدا يوم عرفه فنهاره قبل ليله) ولذلك
فإذا ثبت وجود الهلال في الأفق بعد غروب الشمس فذلك هو
أوّل أيام الشهر القمري، وهو ما أراه معياراً شرعيّاً،
ويبقى التأكّد بأيّ وسيلة متاحة.
وفي عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت الرؤيا
هي الوسيلة المتاحة، وأشار عليه السلام الى وسيلة الحساب
غير المتاحة عندما قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما
بما معناه: ''نحن أمّة أُميّة لا نحسب ولا نكتب؛ صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته''.
فالرؤيا والحساب وسيلتان؛ الأولى: ظنيّة كانت وحدها
متاحة، والثانية قطعيّة لم تكن متاحة؛ وقد أصبحت الآن
متاحة.
ورغبة في إعطاء مثال تطبيقي أوضح به المسألة، وجدتُ
في هلال رمضان هذا العام خير مثال؛ فهو يولد بتوقيت مكة
المكرمة في الساعة الواحدة وثمان وعشرين دقيقة بعد ظهر
يوم الإثنين الثالث من شهر اكتوبر، ويغرب في السادسة وعشر
دقائق؛ أي بعد ثلاث دقائق من غروب شمس مكة ذلك اليوم،
إذ تغرب شمسها في السادسة وسبع دقائق.
ولوهج الشمس، تستحيل رؤيته قبل مرور سبع دقائق على
الغروب، وهو ما يسمّيه الفلكيون ''تحديد دانجون'' الفلكي
الفرنسي المشهور. وهنا أكرر ما سبق، وهو أن اليوم الشرعي
يبدأ بغروب الشمس وينتهي بغروبها وأن الهلال إذا ثبت بقاؤه
في الأفق بعد غروب الشمس كان اليوم التالي هو بداية الشهر
القمري، لأنه هو المعتدّ به في تحديد بدايات الشهور. وهناك
وسيلتان لمعرفة ذلك هما: الرؤية أو الحساب الفلكي، والأولى
ظنّيّة والثانية قطعيّة.
وأكتب رسالتي هذه في أواخر شهر شعبان قبل أن يُعلن
رسمياً عن دخول شهر رمضان، فإن كان يوم الثلاثاء الرابع
من أكتوبر هو أول الشهر فقد اعتمدنا الحساب الفلكي دون
قصد، لأن رؤية الهلال في مكة المكرمة مستحيلة في اليوم
السابق، ومن باب أولى لا تمكن رؤيته في المنطقتين الوسطى
والشرقية، لأن الهلال قد غرب قبل غروب الشمس، أو لم يبق
بالأفق غير دقيقة وبضع ثوان. ولو أدّعى أحدٌ أنه قد شاهده
فهو واهم أو كاذب.
وقد يتساءل أحدٌ لِمَ يغرب الهلال في الشرق قبل الغرب؟
والجواب واضح لأن القمر أسرع من الشمس في دورانه حول الأرض،
وما تستحيل رؤيته في الشرق يكون ممكناً في الغرب مثل ليبيا
وتونس وغرب مصر.
والإحتمال الآخر أن يعلن يوم الأربعاء الخامس من أكتوبر
أول أيام رمضان، وبذلك نهمل الوسيلة القطعيّة. ويغرب الهلال
يوم الثلاثاء الرابع من أكتوبر في السادسة واثنتين وأربعين
دقيقة بتوقيت مكة، بينما تغرب شمسها في السادسة وست دقائق،
أي أن الهلال بيقى في الأفق ستاً وثلاثين دقيقة.
لن يصوم المسلمون في الدول الإسلامية شرق المملكة إلا
يوم الأربعاء أو الخميس لو بعدت المسافة فيما بيننا باستثناء
بعض الدول الخليجية التي اعتادت اتباع ما يصدر عن المملكة.
ولقد أطلت بعد أن كررت الكتابة عن الموضوع؛ ولا أدري
هل يأتي يوم يقتنع علماؤنا بأن العلم والإسلام أمرين غير
منفصلين، ومثلما رضينا باستخدام التليفون والميكرفون وسماع
الراديو ولم نرفض كروية الأرض وهبوط الإنسان على ظهر القمر،
نقبل علماً وصل في دقته الى ذروته. ونحن إذا رددنا حديث
المصطفى عليه السلام: ''صوموا لرؤيته.. الخ'' فيجب الاّ
نغفل مطلعه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ''نحن أمّة
أميّة لا نحسب ولا نكتب'' وفيه إشارة واضحة بأن الرؤية
وسيلة متاحة آنذاك، أما وأن الحساب الذي أشار إليه المصطفى
أصبح متاحاً الآن فيجب أن نرتضيه في الصوم والحج مثلما
ارتضيناه في الصلاة.
لقد صدرت قرارات من الدول الإسلامية تحدد مطالع الشهور
القمرية باعتماد الحساب وافقنا عليها ورفضنا تطبيقها.
|