الوهابيّة: هويّة تمزيقية تعادي كل ما هو وطني
الأيديولوجيا تعرّف بأنها منظومة القيم والأفكار والرؤى
التي ينظر من خلالها الأفراد والجماعات الى أنفسهم والى
الكون والقضايا من حولهم. فهي التي تحدد لهم موقعهم من
الخارطة المحليّة والكونية، وهي التي تقدّم لهم إجابات
في مختلف القضايا التي تشغلهم ماديّة كانت أو معنوية.
والأيديولوجيا بهذا المعنى لا تكون أيديولوجيا إلا بتضمنها
حزمة من الأفكار والمواقف، تقابلها حزمة أخرى من الإجابات،
بغض النظر عن طبيعة تلك الإجابات من صحة وسقم؛ وفي بعض
الأحيان يكون اللاجواب جواباً بحدّ ذاته. وإذا ما تخلّفت
أيديولوجيا ما عن إجابة معتنقيها عن التساؤلات المطروحة،
والتي يفترض أن تنعكس على سلوكهم، يتراجع دورها؛ وفي حال
قدّمت إجابات مستحيلة لا تلائم الواقع، أو صعبة التطبيق
خاصة في المجال السلوكي، فإن دائرة الإلتزام بها تتقلّص
شيئاً فشيئاً، ويصبح التعاطي مع تلك الأيديولوجيا انتقائياً
يتضمن نقداً مبطّناً، قد يفضي الى هروب بعض أتباعها منها
والتحلّل من التزاماتها، وربما الى ردّة وقطيعة نهائية
لدى البعض.
والأيديولوجيا ذات وجوه متعددة، فهي قد تحرّض على الشيء
ونقيضه، أي أن منظومة الرؤى التي تحتويها قد لا تكون منسجمة
ومحبوكة جيّداً؛ ولأنها مطالبة دوماً بالإجابة على التساؤلات
الجديدة وبإعطاء المواقف، فإن منظريها (أي منظري أيديولوجية
ما) يقتحمون ميادين ليست من اختصاصهم، وقد يستعجلون في
الأجابات ويقدمون أكثر من واحدة، مدفوعين بضغط من الأتباع
الذين لا يعجبهم الصمت ولا يقبلون بالتردد والتأني، ويعتقدون
بأن الإجابة لا بدّ وأن تكون جاهزة حاضرة.
في السنوات القليلة الماضية، تعرّضت الأيديولوجيا الوهابية
الى حملة نقد مكثّفة، من الدوائر المحيطة بها كما من المخالفين
لها، ولم يسع رموزها وهي في حالة الدفاع عن الذات مراجعة
وتجديد خطابها وما تتضمنه من مواقف وأفكار، فأخذوا ينافحون
عنها، مدافعين عن السقيم والغثّ، متهمين كل من يوجه إصبع
نقد بأنه إما مغرض أو ينطلق من فكر مخالف للدين حسب تصور
الوهابية نفسها للدين، وتسميه الدين الصحيح.
لقد اتهمت الوهابية بأنها أيديولوجيا عنف وتخلّف وأنها
معوق للإصلاح وأنها تحتكر الحقيقة، وتزرع وترعى بذور الشقاق
في المجتمع، وأنها احتكارية للرأي والمصالح، وأنها لا
ترى سوى أتباعها ومصالحهم ولا يهمها الدولة ولا الوطن
ولا بقية المواطنين. كما اتهمت الوهابية بأنها حرّضت الخارج
على الدولة وعرضتها لمخاطر، وأنها تحالفت مع الإستبداد
الذي يمثله آل سعود حفاظاً على مصالحها، وجعلت الدين مطيّة
لأصحاب المطامح السياسية، الى آخر الإتهامات.
بيد أن الوهابيين يقولون بأن أيديولوجيتهم تمثل الإسلام
الصحيح وتدافع عن الإسلام والمسلمين، وأنها إنما تقمع
الفاسدين المفسدين، وبالتالي فهي المدافع عن الفضيلة وعن
نقاء الإسلام من الشرك والخزعبلات، فضلاً عن أنها تمثل
الأساس لشرعية الدولة ووحدتها، وأنها بعملها هذا كلّه
تضع الأسس الصحيحة لوحدة المواطنين ووحدة المسلمين تالياً..
والوهابيون لا ينفون احتكارهم للحقيقة ولا حقيقة أنهم
يقمعون الآراء الأخرى التي يصفونها بالضلال، كما لا ينفون
التصاقهم بآل سعود وتبرير أفعالهم، ويعتبرون فعلهم شرعياً
مشروعاً، بل واجبٌ ديني أساسي.
في واحدة من مواضع النقد يمكن القول بأن الوهابية كأيديولوجيا
لها وجهان متناقضان، بل عدّة أوجه متناقضة. في موضوع توفير
(الوحدة) فإن الوهابية تستطيع الزعم بأنها شكّلت مفتاح
(التوحيد السياسي) وأن الوحدة السياسية قامت على أكتاف
نجد التي لعب الوهابية دوراً حاسماً في (توحيدها إجتماعياً
وثقافياً ودينياً). في المقابل لا تستطيع الوهابية مقارعة
الحجّة القائلة بأن الوهابية ضمن الفضاء السياسي السعودي
العام، هي (أيديولوجيا انفصالية) بمعنى أنها تفصل أتباعها
عن المحيط العام، وتؤطرهم في ثقافة سياسية ودينية خاصة
تستهدف منافع خاصة من خلال السيطرة على الدولة وأجهزتها..
وهي بهذا ترعى بذور الإنفصالية لدى غيرها، أي أن الوهابية
لا تريد تقسيم البلاد وإنما السيادة عليها، ولكن فعلها
يؤدي بشكل تلقائي الى رد فعل مضاد وانفصالي عنها وعن جسد
الدولة الذي صنعته الوهابية نفسها.
والوهابية ينطبق عليها وصف (القومية الإنفصالية) أي
أنها بمثابة العقيدة القومية، كما وصفها منصور النقيدان،
ولكن ليس لكل المواطنين وإنما في الإطار النجدي فحسب؛
ففكرها ورؤاها نابعة من المكان النجدي، وقادتها الدينيون
والسياسيون نجديون يضعون مصلحتهم قبل مصلحة بقية السكان؛
وفوق هذا فإن الوهابية توفر هويّة نابعة من المكان والفكرة
التي نشأت بها ورعتها، الأمر الذي يجعل من السهل جداً
تشكيل (دولة نجدية) إذ لا يكلف الأمر سوى إعادة رسم خريطة
الدولة لتشمل حدود نجد فحسب. أما بقاؤها على النحو الحالي،
فإن الأجزاء غير النجدية لا ينطبق عليها سوى عبارة (المناطق
المحتلَّة أو المستلحقة).. ولربما أضيفت صفة أخرى الى
القومية النجدية لتصبح قومية احتلالية أيضاً، تتغذّى على
غيرها لتنعش نفسها.
من هنا نقول دائماً بأنه ليست هناك (هويّة وطنية) وإنما
(هويّة نجدية) لها مكوّنات ثلاثة أساسية: الوهابية كوعاء
ديني، والعائلة السعودية المالكة كقيادة سياسية، والنجديّة
كإطار سياسي وثقافي أوسع من الإطار الديني الوهابي ولكنها
تتضمنه. والهوية النجدية التي تعدّ الوهابية أبرز أعمدتها
الثقافية، نقيض للهويّة الوطنية، كجهة انتماء مرجعي. الوطنية
في المملكة ليست إطاراً باتساع الدولة يعلو على مكوناتها
وانتماءاتها، وما يقال عن (وطنية سعودية) لا يعدو مجرد
هوية فئوية متناغمة مع هويّة فئة من السكان (أهل نجد).
وبالرغم أن سكان المملكة ينتمون الى قومية واحدة (عربية)
لكنها ـ أي عروبة السكان ـ لم تفرز حتى الآن هوية وطنية
بامتداد الحدود الجغرافية أو بامتداد العروبة نفسها.
حتى الروح الوطنية ـ والتي هي غير الإنتماء الوطني
ـ غير موجودة في المملكة، وحين يوصف مواطن ما بأنه (وطني)
فإنه يعني بالنسبة للحكومة وبدرجة أساس، أنه موالٍ لها،
وليس بالضرورة مدافعاً عن الوطن، وعن القاطنين فيه، حتى
وإن كان قبال تغوّل الدولة نفسها. بهذا التصور يمكن القول
أنه لا توجد في المملكة لا هوية وطنية ولا روحاً وطنية
أيضاً، ويمكن الربط بينهما في العلل والنتائج. وقد سبق
للملك عبد الله أن قال ذات مرة: (وطنية أبنائكم خفيفة..
ما هم حاسّين بالوطن)! وقد صدق في ذلك. وإن كان المعنى
الذي يقصده مختلف. فقد كان يقصد أن الأجيال الجديدة لا
تكنّ ولاءً للدولة وللعائلة المالكة، وأن كثيراً منهم
انخرط في العنف ضد آل سعود.
وبكلمة فإن الأيديولوجية الوهابية، فقدت قدرتها على
التوسّع خارج الحدود النجدية، وأصبحت أيديولوجيا تقسيم
أكثر من كونها أيديولوجيا توحيد اجتماعي.. وهي وإن ادعت
إمتلاك الحقيقة الدينية والسياسية، فإنها لا تقدّم إجابات
شافية لأزمات الدولة والمجتمع، بل حتى إجاباتها الخاصة
لمعتنقيها أصبحت تشكّل عبئاً على السلوك الشخصي.. إذ أن
كل ما لديها هو التحريم والرفض والإتهام، دونما قدرة على
إبداع البدائل، ودونما ملاحظة مؤديات التوسّع في رفض أي
شيء غير منتج وهابياً.
|