هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المحك
الأغراض المستنفذة وتمديد الوصاية الدينية
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة دينية تاريخية
كانت تقوم بمهمة تنبيه المجتمع للامتثال بضوابط الشرع
الحنيف والنأي عن كل ما يخالف ما حرّم الله عزّ وجل. وهي
وظيفة لم تأخذ صفة رسمية، فهي من الأمور الحسبية التي
ينال عليها المضطلع بها الأجر والثواب دون أن يهدف من
وراءها الكسب والمال، ولذلك كانت مهمة لا يقوم بها الا
المعروفون بالتزامهم الديني وممن نالوا درجة تأهيل شرعي
عالٍ، وهم في الغالب أهل ورع وزهد وتقوى، ولم يكن أهل
المعروف يخضعون تحت تأثير السلطة أو يحققون أغراضاً دنيوية،
بل كانت مهمتهم دعوية خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى،
يضاف الى ذلك خصائص أهل المعروف النفسية والروحية، فهم
الى جانب التزامهم بضوابط الشرع وإحاطتهم الكبيرة بأحكام
الدين، فقد كانوا على درجة عالية من الرحمة والشفقة بعباد
الله، فلا يرمون الناس بالباطل، ولا يقتحمون عليهم بيوتهم،
ولا يهتكوا أستارهم وأسرارهم، وقد أعطانا الخليفة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه عبرة حين تسوّر بيت أحدهم فذكّره
بآيات الله البيّنات التي تمنع التسلق (وأتوا البيوت من
أبوابها) والتجسس (ولا تجسسوا)، وكأن الخليفة أراد من
ذلك إطلاق تحذير عبر التاريخ بأن حفظ قيم المجتمع وأخلاقه
لا تتم باقتحام الدور على أصحابها، ولا التعرّض للناس
فيما لا تجاهر بالسوء قد بدر منهم، وقد حّذر المصطفى صلى
الله عليه وسلم من تفتيش النوايا أو أخذ الناس بالظنّة.
الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف
|
ولكن حين تتبدّل مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وتصبح أداة للردع والتعنيف لخدمة أغراض غير إرشادية يضطلع
بها أناس غير مؤهلين للقيام بهذه المهمة الشريفة، يفقد
هذا الجهاز وظيفته، يتجلى ذلك في الانتهاكات المتكررة
للحدود الشرعية والاخلاقية لرجال من الهيئة. ففي الشهر
الفائت تعرّض أحد المواطنين للضرب المبرح على يد رجال
الهيئة كاد أن تفقىء عينه، وبعد ذلك اكتفى مسؤولو الهيئة
بكتابة رسالة اعتذار له على ما أصابه من أضرار جسدية،
بعد أن تبيّن أنه لم يكن الشخص المطلوب، وذكّر رجال الهيئة
الضحية بأن العفو من شيم الرجال وأن كل بن آدم خطّاء.
وفي ضوء حالات التعدّي المتزايدة من قبل رجال من الهيئة
بدأت نشاطات الاخيرة ودورها يخضعان للنقاش العام حول مبرر
وجودها كمؤسسة رسمية تزاول مهمة الاصلاح الاجتماعي والديني
وفق آليات غير منضبطة أو متداخلة، حيث بدأت الهيئة تأخذ
في الاونة الاخيرة شكلاً راديكالياً يتجاوز حدودها، وتحاول
مزاولة دور شرطة آداب ولكن تحت غطاء ديني. وفيما ترفض
العائلة المالكة وضع ضوابط محددة لعمل هذه المؤسسة التي
تحظى بدعم المؤسسة الدينية الرسمية وكذا بعض الامراء،
فإن المخالفات المتزايدة التي يقترفها بعض رجال الهيئة
وضعت الاخيرة تحت دائرة الضوء في الاونة الاخيرة، فقد
بدأت كتابات نقدية تنشر في وسائل الاعلام المحلية والخارجية
تستعلن ما يجري تداوله في المجالس الخاصة وفي صدور المتضررين
من نشاطات الهيئة وبخاصة أولئك الذين تعرضوا لانتهاكات
واضحة بفعل أخطاء في تقدير أوضاع إجتماعية معينة أو نتيجة
معلومات مغلوطة أو ربما دسائس مقصودة.
إن الوظيفة المركزية التي حددتها الدولة السعودية لعمل
الهيئة منذ انفلاش جيش الاخوان بعد معركة السبلة عام 1928
ومابعدها قد صممت لاستيعاب فلول الاخوان ضمن إطار مؤسسي
تابع للدولة. وكان الغرض من وراء ذلك احتواء خطر غير متوقع
من بقايا الاخوان، وثانياً تثميرهم في عملية ضبط النظام
والسيطرة وبخاصة في مرحلة تأسيس الدولة، حيث لم تكن الاخيرة
تملك جيشاً نظامياً قادراً على ضبط الامن وحماية الدولة
من الانهيار الداخلي والتهديدات الخارجية. إن الوظيفة
المزدوجة للهيئة بوصفها جهاز إرشاد ديني اجتماعي، وجهاز
ضبط أمني داخلي كانت دائماً عصيّة على رسم حدود واضحة
لمجالها، وقد ظل تداخل الادوار والوظائف بينها وبين أجهزة
أخرى (الاعلام، الداخلية، البلديات، الحج..) مورد تشابك
متصل، يخففه عادة المكاسب المرجوّة من وراء نشاط الهيئة
على صعيد دعم السلطة السياسية في ضبط النظام العام، وملاحقة
الظواهر الاجتماعية المرشّحة لانفلاتات أمنية وسياسية.
غير أن الخروقات المتكررة من قبل الهيئة لمجال الحريات
الفردية والعامة باتت مورد نقد وسخط عام، فقد باتت النظرة
الى نشاطات الهيئة محفوفة بأشكال متطرفة من الارتياب الامر
الذي يسلبها قوتي الاقناع والتأثير في مجال الارشاد الاجتماعي
والاخلاقي ويحصر دورها كمؤسسة أمنية غير منضبطة.
في السبعينات الميلادية كانت الهيئة تزاول مهمة درء
التأثيرات الاجتماعية والاخلاقية لبرامج التحديث التي
بدأتها الدولة، ولم تكن الوظيفة المزدوجة غائبة فقد كانت
الهيئة مؤسسة إرشادية وجهاز ضبط تعمل جنباً الى جنب المؤسسات
الامنية والمؤسسة الدينية. وبطبيعة الحال، فإن الانفتاح
الاجتماعي والاعلامي النسبي المصاحب لعملية التحديث قد
أحدث هزّات اجتماعية عنيفة بفعل تصادم النظام الثقافي
التقليدي مع قيم التحديث، والذي أفرز ظواهر ثقافية وإجتماعية
إرتدادية عكسها تبدّل أنماط التفكير والمعيشة، كمؤشر على
تحوّل اجتماعي جوهري. والاهم من ذلك أن عملية التحديث
كانت ستؤدي تلقائياً الى تعقيد في وظائف أجهزة الدولة
وأدوارها، وكذا تطوّر الحياة الاجتماعية التي فرضت برامج
التحديث عليها تعقيداً في الروابط الداخلية بين الافراد
والفئات الاجتماعية بعضها ببعض. إن المساعي التي قامت
بها الهيئة لكبح تأثيرات التحديث في بعديه الاجتماعي والاخلاقي
كانت تصبّ في مجرى الدولة، التي كانت تخشى من انفلاتات
غير محسوبة قد تطفو على سطح المجتمع، وقد تأخذ شكلاً إجتماعياً
ولكنها تنذر بخضّات سياسية عنيفة. وقد كانت السلطة السعودية
تحذر بدرجة كبيرة من عملية الانتقال من القرى الى المدن
بما يصاحبها من تبدّلات جوهرية في وعي المجموعات النازحة،
والزيادة المتوقعة في سقف التوقعات سيما وأن هذه التبدّلات
غير خاضعة للحسابات الدقيقة لدى صانعي القرار فضلاً عن
قصور الدولة عن إستيعاب تلك التبدلات في سياق نشاطية الدولة،
أو حتى ضمن أطر مؤسسات أهلية، فالظواهر الثقافية والسياسية
التي جاءت مع عملية التحديث وقعت خارج فضاء سيطرة الدولة
والمجتمع معاً.
الحراك الاجتماعي الناشىء عقب انطلاق موجة التحديث
في أبعادها التقنية تحديداً (التمدين والتصنيع) أحدث اختلالاً
واضحاً في توازن المجتمع، تمظهر في جانب منه في مستوى
الانضباط الاخلاقي ولكنه بالتأكيد لم يكن الافراز الحتمي
لعملية التحديث، فقد فرضت الدولة منذ البداية تدابير صارمة
على المجتمع خلال فترة الانتقال بالدولة الى مرحلة جديدة،
أي خلال تحديث الجهاز الاداري للدولة، وكان الهدف من وراء
ذلك كله هو ضبط السلطة السياسية المعبّر عنه دائماً بضبط
النظام العام للمجتمع، والمحافظة على قيمه وتقاليده وعاداته،
ولذلك فإن القوانين الموضوعة خلال فترة التحديث أريد منها
أن تحقق فكرة الردع أكثر منها فكرة التنظيم، أي تنظيم
المصالح العمومية وسنّ التشريعات الرامية الى حفظ الحقوق.
لقد وجدت الهيئة كمؤسسة ذات وظيفة مزدوجة مجالاً رحباً
لمضاعفة درجة توغّلها في الشأن العام، والاجتماعي منه
بدرجة أساسية، ولم تكن العائلة المالكة تجد مناصاً من
مباركة نشاط الهيئة التي جرى توظيفها في حفظ النظام تحت
مسمى المحافظة على قيم المجتمع وإرساء القوانين الرادعة
عن إقتراف المنكرات الاخلاقية. وربما كان وجود الهيئة
كمؤسسة إرشادية في مرحلة التحديث ضرورية للمجتمع، وهو
ما برر الى حد كبير وظائفها التي لم تكن تخلو من تجاوزات
فادحة أحياناً، مثل ملاحقة الافراد في الشوارع العامة
وإكراههم على حلق شعورهم أو سوقهم بالعصا الى الصلاة جماعة
في المساجد، أو معاقبة المدخّنين، وإلزام النساء بالحجاب
الكامل، الأمر الذي أشاع أجواء هلع واستياء بين قطاع من
المجتمع، وبالطبع فإن حضور الهيئة وسطوتها متفاوتتان من
منطقة لأخرى، بحسب مستوى الالتزام ودرجة المحافظة، ولكن
المشهد العام خلال عقدي الستينيات والسبعينيات يكاد يكون
واحداً.
لاشك أن زخماً هائلاً حظيت به الهيئة منذ السبعينات
بسبب نجاحها في تحقيق أغراض السلطة وقدر كبير من ضرورات
المجتمع، وقد أضفت تلك النجاحات رداءً قدسياً خاصاً على
الهيئة ورجالها، بحيث باتت لفترة طويلة خارج المسائلة
والنقد، ولا ننسى أن المبدأ ذاته، بما يحمل معنى دينياً،
منحها حماية أمام النقد والتقويم، حتى باتت في بعض الاحيان
غير خاضعة لأي نوع من أنواع الرقابة، بل تحوّلت هي الى
مؤسسة رقابية على المجتمع، على الاقل في الجانب الاخلاقي،
الذي بات يمثل الموضوع التسويغي لبقائها على قيد الحياة.
هناك دون شك رغبة غير معلنة لدى العائلة المالكة في الاحتفاظ
بالهيئة كبديل محبط لأي نشاطات دعوية تجري خارج مظلة الدولة،
خصوصاً وأن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة مشاعة،
تضطلع بها أيضاً الحركات الدينية والجمعيات الخيرية الاهلية،
بما ينذر بإحتمال التوظيف السياسي.
على أية حال، فإن غروب جزء من القداسة عن أعمال الهيئة
بفعل أدائها غير المتوازن وغير المنضبط يفتح أفق الجدل
على نطاق واسع حول أصل بقاء البقرة المقدّسة (اي كلية
المؤسسة الدينية) ليس بوصفها جهازاً إرشادياً فحسب، بل
وتشريعياً ينزع نحو تأكيد وصايته الدينية والاجتماعية
بكل مافي الوصاية من نزوعات اقتلاعية. فقد باتت الحاجة
الى تخفيض دور المؤسسة الدينية بكافة فروعها واشتقاقاتها،
الى مستوى يجعلها في صف المؤسسات الاهلية التي تعمل للمنفعة
العامة، وتحقيق مبدأ الانضباط الاخلاقي لا عن طريق الاكراه
والقسر، ولا عبر آليات تمليها سياسات الدولة، وإنما عبر
القيم الاخلاقية للمجتمع والمبادىء الدينية والانسانية
مورد الاتفاق العام.
إن البلوغ بالمجتمع الى مستوى الرشد الاخلاقي والقيمي
لم يتحقق عبر تكريس دور المؤسسة الدينية بكافة فروعها،
ولكن عن طريق إشاعة ثقافة الحرية المنضبطة وتوظيف المخزون
النفسي والثقافي ضمن قنوات تعبير حرة وسليمة، لتجنيب المجتمع
ظواهر تمرد اخلاقي أو تعديات ذات طابع حقوقي لا يمكن إخمادها
بلغة إكراهية صارمة ولا بوسائل القوة المتبّعة حالياً.
إن المجتمع عبر مؤسساته المدنية قادر على مزاولة مهمة
الرقابة والضبط والنقد على ذاته وعلى الدولة، فالمظالم
إنما تقع في غياب سلطة المجتمع، وليس هناك من سبيل لدفعها
عن طريق مجرد وجود مؤسسة منفصلة عن المجتمع وتقف في احيان
كثيرة في جبهة مضادة معه. والمجتمع في شبه الجزيرة العربية
شأنه شأن المجتمعات الاخرى لا يهنأ في ظل اختلالات اخلاقية
وأمنية وقيمية، فالحرص على العيش ضمن نظام منضبط قادر
على درء تعديات الافراد على حقوق بعضهم البعض جبّلة تكوينية
لدى المجتمع بما هو هيئة متضامنة تتقاسم المصالح وتسعى
للعيش المشترك. وحين يصبح المجتمع قادراً على إنتاج مؤسساته
المدنية بوظائف متعددة رقابية ومحاسبية ونقدية، يكون وجود
مؤسسات منفصلة عن جسد المجتمع أو غير منبثقة منه ضدّياً،
أي تعمل على تضاد مع مصلحته وقيمومته.
يستدعي ماسبق القول بأن هيئة الامر بالمعروف والنهي
عن من المنكر كؤسسة ارتبطت بنشأة الدولة السعودية يجب
أن تكون ضمن عملية التقويم الشاملة لأداء هذه الدولة،
وإن النزوع الجماعي لتخليق مؤسسات أهلية لتخفيف هيمنة
الدولة على المجال العام، وتأهيل المجتمع بصورة تدريجية
لادارة ذاته بذاته تفرض على المؤسسات التي دخلت الى المجتمع
عن طريق بوابة الدولة أن تلتحق بالمجتمع ثانية من أجل
إعادة تشكيلها وفق شروط وأهداف المجتمع وليس الدولة. إن
الفكرة التقليدية للدولة بوصفها العقل الأمثل يجب أن تزول
من الاذهان، وبخاصة في الشرق الاستبدادي الذي لم تنشأ
فيه الدول نشوءا تعاقدياً، بما يجعلها عاكساً حقيقياً
وأميناً عن وعي المجتمع وحاجاته، وإنما نشات بقوة إكراهية
لتحقيق مصالح فئوية انعكس ذلك على عمل جهازها الاداري
وطريقة إدارة المصالح العامة، وكذا مؤسساتها ذات الصبغة
الايديولوجية، التي تميل على الدوام الى إضفاء مسحة قدسية
على أدائها وقراراتها وكذا خروقاتها.
|