قرار إزالة جديد.. لم يبق سوى هدم البيت العتيق!
نادين البدير
جاء في العدد الأخير من مجلة فوربز العربية الصادرة
من دبي موضوعاً مثيراً للغاية عن الإرث التاريخي في السعودية.
أجرى التحقيق الصحفي مع المدافع الوحيد الذي يتجرأ
ويعلنها على الملأ: أنقذوا إرثنا التاريخي من الطحن والتكسير.
إنه المهندس سامي عنقاوي أو «ابن مكة» كما جاء في عنوان
التحقيق.
وكنا، قبل أن يوقظنا عنقاوي، نائمين لسنوات طويلة،
مكتفين بسماع أصوات الآلات وهي تجرف كل حجر قديم وكل أثر
عتيق يقابلها. كنا مغمضي الأعين عن قرارات الإزالة التي
اتخذت بحق كثير من الموروثات التاريخية بحجة مخالفتها
للدين تارة وتارة أخرى بحجة العمران والتقدم العمراني.
أما عن الناحية الدينية، فيقول التحقيق: (المسألة بالنسبة
إلى عنقاوي تاريخ وبالنسبة إلى من وصفهم هؤلاء فإنهم يحولون
التاريخ إلى أسطورة، حيث إن هؤلاء البعض يدركون موقع منزل
الرسول لكن الاتجاه السائد وتغييب الرأي الآخر ساهما في
تفعيل التعمد الواضح لمكانة التاريخ).
البدعة ذلك الهاجس الذي يؤرق صحوتنا وغفوتنا حتى ليكاد
يقضي على أجمل ملامح حياتنا بعد أن لوث عقولنا وقضى على
حريتها.
لقد حطمت الخشية المفرطة من البدع الآثار والأحلام،
كما منعت دخول الكتب وحبست الأفكار وقمعت المفكرين وقتلت
الإبداع، وبنهاية الأمر ستقودنا تلك الخشية لا محالة إلى
أرض الجهالة.
والسؤال هو: هل هناك ما يستحق كل ذلك الخوف؟ هل هناك
من يريد التبرك اليوم بأحد الأحجار أو السجود لشيء من
فتات الماضي؟
الأستاذ سامي عنقاوي يؤكد أنه في وقت سابق تمت المطالبة
بإزالة غار حراء أما اليوم فقد أصبح الأمر عكسياً إذ يريدونه
موقعا سياحيا تكثر حوله علب البيبسي وآلات التصوير.
وأتساءل كيف لا تهتز مشاعر من يصفهم عنقاوي بـ«هؤلاء»
فتتم المطالبة بحماية غار حراء الذي تعبد به الرسول مما
يتردد حول إمكانية ردمه مستقبلا؟ لقد قرأت مؤخرا في موقع
العربية نت أن هناك اشتباهاً بأن يكون الغار هو ذات المكان
الذي كان النبي يتعبد فيه، وهو أمر طريف أن نشك بما حدث
قبل أكثر بقليل من 1400 سنة ولا نشك بأمر آخر وقع قبل
عدة آلاف من السنين قبل الميلاد.
بنظري فإن مجرد الشك بذلك المكان التاريخي الخاص بالرسول
أو التفكير بردمه لن يقل شأناً عن سخرية الرسام الدنماركي
بالرسول. ولا يقتصر الأمر على الغار بل يمتد لبقية الأمور
الخاصة بإحياء ذكرى الرسول كالموالد النبوية التي يحرمها
دعاة ردم الآثار والذكريات.
من يحتفل بالرسول «صوفي» خارج عن الملة. هكذا يطلق
على العديد من العائلات الحجازية لمجرد أنها تمارس حبها
الطبيعي للرسول بطريقتها المتوارثة، وأتمنى أن يجيبني
المستهزئون بممارسات من يطلق عليهم «الصوفيون» على السؤال
التالي:
هل طالبت الدول الإسلامية التي تحتفي بالموالد النبوية
بمقاطعة منتجاتنا؟
الآثار الدينية الخاصة بالنبي وأهل بيته في طريقها
للهدم والتحطيم على ما تبقى من قبل الجهات الدينية السلفية.
أعود للتحقيق الذي يذكر بأن «العنقاوي كونه صوفيا سبب
له الكثير من المشاكل لكن هذا لم يمنعه من توجيه دعوته
لمزيد من الفهم للآخرين، فقوة منطقة الحجاز يراها مدعومة
بالتنوع الثقافي والعرقي».
في صغري سألت أمي: هل خالتك صوفية؟ أجابتني: من أين
أتيت بهذه الكلمة، قلت لها: لأنها تحتفل بالمولد النبوي،
هكذا قالت لنا المدرسة. ردت قائلة: «قولي لها ما تحرمي
علينا حب الرسول».
أما عن التقدم البنياني فله شأن آخر، إذ لا بد من الاعتراف
بأننا لا نمتلك خططا عمرانية واضحة الأسس والأهداف، فنظرة
واحدة إلى الحرم المكي من الخارج تكفي لمعرفة مدى البشاعة
التي اقترفناها بحقه. الحرم صغير وكذلك الشارع المحيط
به، وفجأة عمارات شاهقة وأبراج. أبراج في كل مكان. ووصل
سعر المتر المربع في منطقة الحرم المكي إلى مئة ألف دولار؟
يقول عنقاوي: «مستقبلا ستصبح الكعبة وكأنها في نيويورك»
برأيه «فإنه إلى جانب إزالة العمران التاريخي الذي يعود
تاريخه إلى أكثر من 1400 عام ستتراجع هيبة المكان، لأن
الزائر لبيت الله بعدما كان ينظر إلى السماء والأفق الشاسع
الذي يحيط بالبيت المقدس سينظر إلى مشروعات فندقية وسكنية
تعلو وتتطاول على المكان المقدس».
لم لا تهتز مشاعر الذين يأمرون بتحطيم الآثار حفاظا
على القدسية وعلى المسلمين من الشرك والهلاك، فيطالبون
بحماية قدسية البيت الحرام من الاستغلال وجشع التجار؟
لم يكتف المتأخرون منا برفض السفر إلى القمر، ولم يكتفوا
بتكفير من يمتلك جهاز تلفاز بمنزله والدعاء على من يستمع
للغناء. لم يكتفوا بتقطيع الصور وتحطيم آلات العزف وكل
ما له علاقة بإبداعات الحضارة الحديثة بل قاموا بتكسير
بقايا الأولين. برأيي، ليس المتأخر من يرفض أو يخشى مواكبة
عصره، لكن المتأخر إنسان لا مكان له في التاريخ، فحتى
لو عاش في زمن كان الحمار هو وسيلة المواصلات الوحيدة
لعجز عن مواكبة تلك الحضارة. إننا إذا لم نتدارك أمر الاستهتار
بالماضي، فلن يبقى من تاريخ الجزيرة العربية سوى البحر
ورمال الصحراء.
الوطن 9/2/2006
|