دولـة ا لعـجـزة
ثمة مقارنة يعقدها المراقبون والمهتمون بالشأن السعودي
بين النخبة الحاكمة في الرياض واللجنة المركزية في الحزب
الشيوعي السوفييتي سابقاً، فهناك أوجه شبه بينهم ومن أبرزها
عامل السن. فقد أصبحت السلطة حكراً على الأكبر سناً الذين
لا يفصل عمر أحدهم عن الآخر سوى سنتين أو ثلاث، ويقع الجميع
في الغالب ضمن فئة عمرية واحدة، أي من سن السبعين وما
بعده. مشكلة العمر ليست جديدة بالنسبة للنخبة الحاكمة
في السعودية ولكنها أصبحت الآن أكثر بروزاً، مع اقتراب
أفراد النخبة من أرذل العمر، فالملك عبد الله يبلغ من
العمر 82 عاماً ويليه الامير سلطان 80 عاماً وليس من يليهما
يصغرهما بكثير فأبناء الملك عبد العزيز قد دخلوا في فئة
السبعين سنة، ولك أن تتصور لو دام التوارث بين أبناء الملك
عبد العزيز كيف سيكون الحال، فإذا كان الملوك السابقون
يتمتعون بالعرش لسنوات عديدة أكثرها كان في عهد الملك
فهد الذي حكم البلاد لثلاثة وعشرين عاماً، منها عشر عجاف،
حيث ملك ولم يحكم، مما فوّت فرصة على من يخلفه في البقاء
طويلاً في العرش، ولربما قصدها الاشقاء السديريون حين
أبقوا ملكاً محنطاً أو على حد قول الالمان عن هتلر آخر
أيامه بأنه كان أشبه ما يكون بجثة متحركة، كي يقصروا من
مدة إقامة أخيهم غير الشقيق على سدة الحكم.
العمر بالنسبة للعرش السعودي سيكون في السنوات القادمة
مسرحاً لتناوبات سريعة، فما إن يموت ملك حتى يعقبه آخر،
فستكون قوانين الطبيعة حاسمة في إحداث حراك سلطوي غير
عادي، وليس بالضرورة أن يكون الفناء تسلسلياً بالنظر الى
العلل الصحية التي يعاني منها الأمراء الكبار، فالامير
سلطان مصاب بسرطان في الامعاء، والامير نايف مصاب بسرطان
الدم (اللوكيميا)، والملك نفسه يعاني من أمراض القلب..
ومهما بلغت كفاءة الطب في السيطرة على أمراض الأمراء فإن
مرض الشيخوخة سيكون كافياً لوضع حد لحياة هذا الأمير أو
ذاك.
لا تكمن خطورة تقدّم العمر في ذاته فحسب، بل في إرتباطه
بنمط التفكير وإدارة الدولة ومنهجية التعامل مع القضايا
الداخلية. فأبناء الملك عبد العزيز أشد تمسّكاً بمبدأ
(ملك الآباء والاجداد) ولا فرق بين متشددهم ومعتدلهم،
فقد كررها الأمراء على أسماع زائريهم بأن (هذه الدولة
بما فوقها وتحتها هي ملك لآل سعود وحدهم)، وأنها (ما قامت
الا بالسيف ومن أراد أن ينازعنا فليأخذها بالسيف) وأن
(السيف الذي أقمنا به الدولة مازال في أيدينا)، وحتى الأمير
طلال المعروف باعتداله ونزعته الاصلاحية قالها بعبارة
وأخرى مؤدّاها أن هذه الدولة ملك لآل سعود.. فالنزعة المحافظة
والتقليدية تكاد تكون سمة مشتركة بين كافة أبناء الملك
عبد العزيز، تماماً كاشتراكهم في الفئة العمرية.. إن تلك
النزعة هي التي أسخطت كبار الأمراء على تجاوز الشيخ سعد
العبد الله وتنصيب الشيخ صباح السالم أميراً على الكويت،
ففي هذا تحوّل على تقاليد التوارث، لا يحول بينها وبين
الامتثال لها حرفياً الا عزرائيل عليه السلام!!
قبل عقد أو يزيد كان الحديث عن جيل قديم وآخر جديد
في العائلة المالكة، وأن انقراض القديم سيؤدي الى صعود
الجيل الثالث من الأمراء الذين تلقوا تعليمهم الحديث في
الجامعات الغربية وليس في القصر كما هو حال أغلب أفراد
الجيل الثاني، وكان يعوّل على أفراد الجيل الثالث في إحداث
نقلة نوعية في مسيرة الدولة، ولكننا الآن أمام معادلة
عمرية مشابهة، فالجديد يكاد يقترب من القديم من حيث العمر،
فأعمار أمراء الجيل الثالث ليست بعيدة عن أعمار الجيل
الثاني بمسافة زمنية تسمح لهم بلعب دور إستثنائي.. فقد
دخل كثير من الأمراء المرشحين لمناصب قيادية في الدولة
في خانة الستين، وللمرء أن يتنبىء بما سيكون عليه حال
الدولة بعد تصرّم سني أمراء الجيل الثاني، الذين ينتظرون
أدوارهم على خط وراثة العرش. هذا مع الشكوك المتنامية
حول أي دور تجديدي لأمراء الجيل الثالث، الذي انتقلت اليهم
كثير من سلبيات السلطة، حتى باتوا يفكّرون بنفس عقلية
الجيل القديم المناوىء تكوينياً للاصلاح والتجديد.
مبدأ القصور الذي سيحكم النخبة السياسية القائمة سيطال
في نهاية المطاف النخبة المرشّحة للاضطلاع بدور الوارث.
وفي واقع الأمر أن القصور الطبيعي ليس مقتصراً على أعمار
أفراد النخبة السياسية الحاكمة في الوقت الراهن والذي
سينتقل الى الجيل الثالث وإنما سيتبعه قصور في التفكير
وقصور في الفعل أيضاً. وإذا كنا سندرك في وقت ما أن العائلة
المالكة تتحرك وفق غايات موحّدة لا يغيّر فيها التفاوت
الجيلي، فإن قانون الطبيعة الحتمي سيفضي الى النتيجة ذاتها،
فقد بلغ الكبار من العمر عتيّاً، وأصبح الصغار يحومون
حول تخوم الشيخوخة..
إن ثمة تصوراً تبسيطياً محثوثاً بالأمل والنظرة المتفائلة
يحاول أن يقنعنا بأن ثمة جيلاً مدّخراً لمشروع نهضوي قادم
سيغير معالم الدولة، ولكن هذا التصوّر يفتقر الى المعلومة،
ويكتفي بمجرد التحليل المنطقي وأحياناً الطبيعي للتطور
الموضوعي للاشياء. تطبيق ذلك على رحيل جيل وقدوم آخر في
الحالة السعودية يبدو متكّلفاً، فمنطق المصالح في السياسة
لا يخضع لمنطق أو معادلات رياضية دقيقة، فقد يكون رحيل
حاكم أو نخبة حاكمة إيذاناً بانقلاب الاوضاع الداخلية،
واستشراس السلطة الجديدة، واندلاع الصراع على السلطة،
ومزيد من الاستبداد بين المتقاسمين الجدد للسلطة..
وعلى أية حال، يمكن القول بأن دائرة السلطة في السعودية
باتت مرتعاً للعجزة، ولن يصل إليها الا شخص قد قربت من
القبر رجله الاولى.. فالفاصلة بين الجيلين تكاد تضيق بالنظر
الى خط الحياة الافتراضي، فالكهولة تطبع معالمها على أمراء
الجيل الثالث، وسمات التفكير تفرض سطوتها على عقلية هذا
الجيل الذي ينطق بلسان حال الكبار. فأبناء الجيلين أصبحوا
في معسكر العجزة وأن عدوى التفكير الرجعي باتت تسري من
الجيل الأقدم الى الجيل القديم.. وأن تفسخ الجيل القديم
وتحلله لا يعني بالضرورة تلاشي واضمحلال المبادىء والتقاليد
الموروثة، فليس هناك ما يضمن أن رحيل الجيل الثاني سيؤدي
الى إقبار كتلة القيم التي حملها، فهناك من المؤشرات الكثيرة
التي تنبىء عن إنغراس تلك القيم في الجيل الثالث أيضاً..ولننعم
الى حين بدولة العجزة!!
|