في معرض الكتاب بالرياض
نـذ ر مـواجـهـة ثـقافـيـة شـر سـة
في معرض الكتاب الدولي بالرياض أوجه عدة، تلتقي عند
مستوى المنافرة الايديولوجية، ولكنها تعكس طبيعة التحولات
الاجتماعية والفكرية والى حد ما السياسية. قد يكون المعرض
بكل فعالياته وتجاذباته ضوءا كاشفاً للانفتاح الثقافي
الذي تشهده السعودية في هذه الايام، وإن كان انفتاحاً
موسمياً، كونه لا يمثل حالة دائمة وليس ممتمداً على مساحة
البلاد كاملة، فهو حدث إستثنائي بكل مافي الكلمة من معنى.
فهو، كحدث، إستثنائي في موقعه، وإستثنائي في حجم المفسوح
فيه من كتب كانت مدرجة على قائمة الممنوعات الدائمة (على
الاقل حتى الآن) في جهاز الرقابة التابع لوزارة الاعلام،
وإستثنائي في حجم الاقبال ليس بالنظر الى تراجع دور المطبوع
لحساب المرئي، وكذا بالنظر الى موضوعات الاهتمام لدى الزائرين،
فقد كانت مبيعات بعض الكتب المصنّفة بالعلمانية والليبرالية
أعلى من كتب دينية عديدة. فهل في ذلك ما يلفت الى أن مجتمعاً
آخر يفرزه معرض الكتاب، ويزيل عنه قشرة المحافظة التي
ظلّت تغطيه لسنوات طويلة؟. لاشك، أن معرض الكتّاب يمثل
بكل فعالياته أداة إختبار جدّية لمعرفة مستوى الوعي الثقافي
في المجتمع، وكذا إتجاهات الثقافة السائدة فيه. إن مشاركة
350 داراً من 22 دولة عربية في معرض الكتاب بالرياض لاشك
أنها لافتة، سيما وأنها تكاد تغطِّي مجمل اتجاهات الثقافة
العالمية، من علوم طبيعية الى أيديولوجيات عالمية، ومن
الجنس الى الجن، ومن الانبياء الى الملاحدة، من البيولوجيا
الى الايديولوجيا، ومن كوكبة علماء السلف بدءا من الشيخ
ابن تيمية وابن القيم الجوزية وانتهاءً بالشيخ ابن باز
وابن عثيمين والجزائري والعقلا والحوالي والعودة والقرني،
الى كوكبة المدرجين على قائمة الحداثويين الليبراليين
بدءا من عبد الرحمن منيف وغازي القصيبي وتركي الحمد وعبد
الله الغذامي وغيرهم.. كلهم إجتمعوا بأسمائهم ومؤلفاتهم
في معرض الرياض.
وفيما هلّل البعض بهذا الحدث بوصفه بداية لكسر الواحدية
الثقافية التي هيمنت على مدى عقود على المجال الثقافي
للمجتمع، كان أنصار المحافظة الدينية ينعون زمناً كان
فيه المجتمع يمتثل لاملاءات العالم، وينصت بطواعية الى
تعاليم إمام المسجد، لم تلههِ أفكار المغتربين، ولا أراجيف
العلمانيين، ولا أباطيل المستشرقين. لم يدر في خلد أحدهم
أن غزواً ثقافياً كان يحاربه في دار غيره، بات الآن في
عقر داره، بل وعلى مقربة من غرفة نومه، فالماركسية التي
حوربت في كل مكان، إحتلت موقعاً متميزاً في رفوف المعرض،
وعلى مقربة منها كتب البعث ونسخ من التوراة والانجيل الى
جانب عدد كبير من الروايات ذات النكهة الليبرالية، والابحاث
الاجتماعية والفكرية التي تتعارض مع النزعة الدينية المحافظة..
ثمة ما يغيض طبقة الدعاة ورجال الدين في هذا المعرض، لأن
الاقبال على الكتب الدينية كان منخفضاً، وكأن ما أنفقوا
عمرهم لأجله أصبح رماداً تذروه رياح الانفتاح الثقافي،
فقد هالهم منظر الزائرين ذكوراً وإناثاً وهم يخرجون من
المعرض وقد تبضّعوا أسفاراً من غير ملة، وحملوا معهم من
مصنفات ثقافية طبعت في عواصم عربية وأجنبية لم تضاهيها
الرياض بمطبوعاتها التي فقدت بريقاً كان محفوظاً تحت حراسة
الرقابة على المطبوعات. فقد بلغ حجم المشتريات، بحسب مصادر
شبه رسمية، خلال عشرة أيام، المدة المقرر لاقامة معرض
الكتاب الدولي في الرياض نحو 50 مليون دولار، وهو مبلغ
يعتبر عالياً بالقياس الى معارض الكتاب في دول الخليج
الاخرى و بعض الدول العربية.
ربما كان المعرض ضرورة لمقياس درجة التطور الاجتماعي،
الذي لم يكن بالامكان حتى وقت قريب إستعمال أدوات إختبار
دقيقة لمقولات درج التيار الديني المحافظ على التمسّك
بها لترسيخ مكانته ودوره وسلطته. لقد اعتاد التيار الديني
السلفي أن يكون مصدراً وحيداً لثقافة المجتمع، ولذلك لم
يستطع أن يتحمل أن يشب هذا المجتمع عن الطوق الذي يظن
التيار بأنه ناطق بإسمه، ومن الطبيعي أن تكون صدمة التيار
الديني شديدة عليه لشعوره بأن هذا المجتمع لم يكن وفياً
بدرجة كافية له. وكرد فعل، ظهر بعض آثاره خلال الندوات،
بدا وكأن التيار الديني يحاول من أجل قسر المجتمع على
العودة الى مصدر ثقافته القديمة.
في واقع الأمر، ينقص التيار السلفي المحافظ وعي حقيقة
التحوّل الاجتماعي الحاصل، بما يجعله غير قادر على أن
يجتث من المجتمع خميرة تناقض ثقافي غير قابل للدحض، فالتحول
الاجتماعي يتصل بدرجة أساسية بتبدّلات ثقافية بنيوية عميقة
جرت خلال برامج التحديث على المستوى المحلي وتيار العولمة
على المستوى الجلوبالي.
قد يخيب أمل التيار الديني المحافظ بما يصفه خروجاً
على خط التوافق التاريخي بين الديني والسياسي، مجسّداُ
في الوهابية وآل سعود، تمهيداً لازاحته عن مواقعه التقليدية
التي أدمن الهيمنة عليها في مجال توجيه المجتمع، وقد يحتسب
السماح لمرور عدد كبير من المصنّفات الثقافية المحظورة
سلفياً خرقاً مقصوداً لسيادة الديني، ما لم يفحص علماء
الدين السلفيون بعين مجرّدة طبيعة الظروف التي تشهدها
المملكة، والتي لا يمكن للحكومة مهما بلغت قدرتها على
الحجب والمنع والملاحقة من إحتواء المد الثقافي الحديث
الذي ضرب أسس التكوين الذهني للأفراد، ولم تعد وسائل التوجيه
القديمة أو الخطابات الثقافية التقليدية بالقوة الكافية
التي تحول دون رؤية الاجزاء الاخرى من المشهد الثقافي
العالمي. لم تتخذ الحكومة خطوة بهذه الجرأة لو كانت على
يقين بأن المجتمع الذي تحكمه يعيش زمناً ماضياً لا صلة
له بتحولات ثقافية كبرى كونية، أو لم يكن متأثراً بماكينة
العولمة التي باتت تقاسم مواطني الدول تفكيرهم، وتصيغ
توجهاتهم ومواقفهم.
لم يكن طوابير الزائرين الذي جاءوا الى معرض الكتاب
الدولي في الرياض غافلين عن محتويات المعرض، بل جاءوا
لأنهم يدركون بأنهم سيجدون ما لا يجدونه في المكتبات العامة
ولا في باقي أيام السنة، فهي فسحة الحرية الثقافية الاستثنائية
التي تبيح لهم الحصول على الممنوع والمحظور والمحجوب،
سواء كان كتاباً أم كلاماً أم رمزاً ثقافياً، وهذا يعني،
أن الانفتاح الثقافي المزعوم لم يكن سوى مقتضى حال دولي
فرض على السعودية وهي تحاول الامتثال لعولمة مشروطة، تجيز
لها بتر الثقافي عن الاقتصادي والعسكري عن السياسي، فأرادت
الدخول الى العولمة من أضيق ثقوبها، حتى تلقي ثناءً بحجم
عبور قناة السويس، كما هي عادة المطرين عليها من كبار
وصغار رجاء رحمة إقتصادية تجود بها عليهم.
وبين محاولات توأمة الانفتاح بالانغلاق الثقافيين تكمن
تدابير حمقاء غير مبررة ولا مفهومة، حيث يصبح النضال ضد
إحتكار منابع الثقافة ومصادر توجييها مصاهراً لتشديد القبضة
على منافذ الحدود منعاً لتسرّب منتجات ثقافية خارجية مناوئة
للعقيدة الرسمية للدولة. هكذا هي طبيعة الخمائر الثقافية
المتناقضة حين تعيش مرحلة انتقال كبرى، تعصف في نهاية
المطاف بالاسس الايديولوجية للدولة، وفيما يبدو أن المؤسسة
التقليدية تشعر وقد أحكمت منظومتها الثقافية تجد نفسها
في لحظة لاحقة وكأنها وقعت ضحية وهم في أول بارقة إنفتاح
ثقافي يشهده المجتمع، حينئذ يكتشف أرباب المؤسسة بأن ما
صنعوه لم يكن سوى نتاج انغلاق ثقافي فحسب، وإن ما يصنعه
الانفتاح هو وضع كامل المنجز الثقافي الافتراضي على محك
المواجهة لاختبار قدرته على الصمود في مقابل الافكار الاخرى
فضلاً عن التأثير فيها. الشيء المخيف بالنسبة للتيار الديني
المحافظ هو ما يمكن أن يفضي اليه الانفتاح من خلط فكري
وحراك اجتماعي قد يضعف مركز جاذبيته ثقافياً واجتماعياً
وبالطبع سياسياً.
في واقع الأمر، أن من أبدوا مواقف انفعالية خلال فترة
معرض الكتاب وخلال انعقاد الندوات الثقافية المصاحبة له،
أسبغوا ضمنياً على من جاهروهم العداء قوة إضافية، حين
قلّصوا مساحة التحاور، ولجأوا الى وسائل غير ثقافية، وكأنهم
عبّروا عن رفض لمبدأ الحوار، متمسّكين بزعم إمتلاك الحقيقة
المطلقة التي تجعل أصحابها جهة الخلاص المطلق بما ينفي
ضرورة اللجوء الى خيار التحاور. وتنجم عن ذلك، نتيجة أخرى
هي إحتكار وسائل التوجيه الثقافي، إذ لا مكان شاغر لحقائق
أخرى يمكن لها ان تنتشر داخل فضاء الحقيقة المطلقة.
قد تحقق الدولة بعض غاياتها من التناقض الثقافي الحاصل،
ولكنها تدرك حجم التحديات الكامنة في مثل هذا التناقض
الذي يرشد الى إنقلاب إجتماعي عميق. ولربما تكون وزارة
الاعلام، من بين باقي وزارات الدولة، التي تعايش حدي ومواسم
وتداعيات الانفتاح والانغلاق، فبينما يضغط التيار الحداثي
مدعوماً ومشفوعاً بحوافز عولمة اعلامية لتسريع عملية المواكبة
الثقافية، يضغط، في الاتجاه المعاكس، التيار الديني المحافظ
مدعوماً ومشفوعاً بتراث السلف والثقل المؤسسي الديني الراسخ
في كيانية الدولة لجهة الاحتفاظ بالهوية الثقافية التقليدية
للدولة والمجتمع. ولفرط الاحساس بخطر الانفلات الثقافي،
ينزع التيار السلفي الى دعوة غير معلنة لتطهير جهاز الدولة
من ذيول العلمانية والليبرالية، بدءا من وزارة الاعلام
ممثلة في شخص وزيرها إياد مدني ومروراً بوزراء عبّروا
علناً عن مواقفهم المناوئة للتشدد الديني أو ناصروا تدابير
إصلاحية في بعض أجهزة الدولة مثل القضاء والنظام التشريعي.
نشير الى ما تعرّض له وزير الاعلام خلال العام الماضي
بسبب برامج تلفزيونية كانت القناة الرسمية الاولى بثتها
أو كانت تنوي بثها بما اعتبره التيار السلفي هتكاً مقصوداً
لستر الدولة الدينية السلفية، وخروجاً عن خطها الوهابي.
وعوداً الى معرض الكتاب الدولي بالرياض، يظهر وكأن
بقعة حرية تحاول أن تمد حدودها خارج أسوار المعرض، ففي
داخل هذه البقعة يتوقف عمل القوانين والاعراف الاجتماعية،
فقد غابت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل حدود
سيادة المعرض، فيما لم تغلق غالبية دور النشر معارضها
خلال أوقات الصلاة، إما لعدم معرفة بالقوانين الدينية
الرسمية في هذا البلد، وإما لأن المعرض خضع لنظام تشريعي
مختلف، قد يصلح كتجربة إختبارية في المستقبل. وعلى أية
حال، غاب الرقيب ورجل الهيئة عن المعرض، فيما كانت الكتب
المحظورة علناً والتي كانت مندّسة تحت الطاولات في مربعات
عرض مطبوعات دور النشر تباع بوتيرة سريعة قبل أن تقع في
أيدي الرقيب، الذي لم يكف عن إستعمال مقصه. فقد بات مألوفاً
لدى زوّار معارض الكتاب في المملكة السؤال عن كتب تحت
الطاولة.
ما يلفت في معرض الكتاب بالرياض، شأن معارض سابقة ولكن
بدرجة أقل، أن وتيرة التحوّل الاجتماعي بتمظهره الثقافي
يتسارع، وينبىء عن أن الثقافة الحديثة حجزت مساحة مركزية
في المجال الثقافي للمجتمع، وأن المواجهات الثقافية ستأخذ
أشكالاً متطورة ومتصاعدة، كلما إزدادت درجة إنفتاح الفضاء
الثقافي الداخلي أو خلال مسيرة الاصلاح. ما سمعنا عنه
من روايات حول رسائل تهديد لكتاب وصحافيين ورموز ثقافية
في فترات ساببقة قد تكون رأس جبل الجليد الذي بتنا ندرك
الآن بعض أجزائه المغمورة، وفي ظل تحول ثقافي كبير يكون
فيه خاسرون ورابحون لابد من دفع ثمن كبير بحجم التحول.
لقد نبّه الضجيج السلفي الى أن الثقافة التقليدية لا
تشتمل على قدرة تحصينية ومقاومة، فهي بحاجة دائمة الى
محجر صحي يمنع عنها فيروسات الايديولوجيات المقابلة، على
الضد من طبيعة الاسلام المنفتحة التي تزداد قوة بإنتشارها
والتقائها مع الثقافات الاخرى، ليس لقدرتها على إستيعاب
المتغيرات فحسب، بل ومرونة إطارها المعرفي بما يجعلها
قوة تفاعلية لا تجف ينابيع العطاء فيها ولا تنضب المعرفة
في مصادرها.
|