ملاحظات حول مقالة الدكتورة مضاوي الرشيد
الهويّة الحجازية والقواسم المشتركة
المقالة التي نشرتها الدكتورة مضاوي الرشيد في القدس
العربي (والتي ننشرها في هذا العدد) حول الحجاز وحركة
إحياء تراثه الديني، سببت لدى البعض ألماً لما تضمنته
من قراءة مغلوطة في بعض مفاصل المقالة، ولكنها وجدت ارتياحاً
أيضاً كونها محاولة نقدية لوضع متأزّم ولحلول ترى أنها
ناقصة أو هي بالشكل الذي عليه غير واضحة المعالم أو تعطي
انطباعاً سلبياً.
وإذ لا تخفى النقاط الإيجابية في المقالة، كونها تنتقد
الهيمنة الثقافية والمذهبية الواحدية (الوهابية) وفرضها
على المواطنين السعوديين، بل وعلى جميع المسلمين، وكون
المقالة دعت الى حل (سياسي) قائم على نوع من اللامركزية
في إدارة المناطق وتوزيع الثروة بالعدل، وعلى التعددية
والإنتخابات وغير ذلك.. فإن المقالة نفسها تحتوي على جوانب
غير واضحة، أو مقاربات قد تكون في غير محلها.
هذه المقالة ليست ردّاً على الدكتورة مضاوي، وإنّما
محاولة التفكير بصوت أعلى، وتوضيح بعض الجوانب التي قد
تكون فاتت الباحثة، وقد تكون في جانب آخر مقاربة مختلفة
لذات الموضوع التي ناقشته الباحثة والتي أكدت على الأبعاد
التاريخية والسياسية للموضوع.
أول ما يلفت النظر هو العنوان الذي قدمته الدكتورة
مضاوي لموضوعها الشائك: (حملة لإحياء القبور أم هدم للقصور؟)
فهو عنوان اعتمد على تقديم صورتين متقابلتين رمزيتين قويتين:
القبور الدارسة مقابل القصور الشامخة، والإحياء مقابل
الهدم، والدين أو التراث الذي يمثله القبر مقابل السياسة
التي يرمز اليها القصر، والحجاز (الطرفي) المتعلّق بتراثه
وتاريخه وهويته مقابل المركز السياسي (نجد أو الرياض)
المهيمن سياسياً ودينياً واقتصادياً وعسكرياً. لا شك أن
العنوان مثير حقاً لما فيه ايضاً من سجع، رغم أن مقالة
الدكتورة مضاوي لم تطرق هذه الأبعاد كلها في مقالتها إلا
بصورة عرضية، في حين أنها تختزن المشكلة الأكبر. فضلاً
عن هذا، فإن العنوان يتضمن تجاوزاً يمكن التساهل معه،
وهو مسألة (إحياء القبور) إذ لا يخفى أن جوهر الخلاف بين
أهل الحجاز والمركز النجدي لا يدور حول هذه القضية بالتحديد،
وإنما حول موضوع التراث بمجمله.. والوهابيون انتهوا من
هذه القضية منذ زمن طويل، فقد دمروا كل القبب التي في
مقبرة المعلا بمكة المكرمة (كتلك التي كانت على قبر السيدة
خديجة) والبقيع في المدينة المنورة (كما حدث لقبور الصحابة
والتابعين) وذلك منذ أول يوم احتلوا فيه الحجاز. الإثارة
الجديدة التي قدمها الوهابيون تتعلق بتجاوزهم حدّ المألوف
والمعتقد الوهابي نفسه، والذي يجيز لنفسه نبش قبور الصحابة
والتابعين (مقبرة ومسجد السيد علي العريضي)، وتدمير المساجد
الأثرية (بعض المساجد السبعة، ومسجد الكاتبية وغيرها)
بل والإعلان عن عزمهم تدمير القبة الخضراء التي على قبر
النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ومواقع تاريخية أخرى
كغار حراء، وموقع بدر وأمثالها.
هذا ما يدور الحديث والنقاش بشأنه وليس القبور. إذ
لا توجد حركة أو حملة (لإحياء القبور) بالمعنى الذي ذهبت
اليه الدكتورة مضاوي.. وإن كان عامّة المسلمين يرون في
فعل الوهابيين عملاً طائشاً متهوراً، لا يعدو فرض اجتهاد
أدّى الى الإعتداء على تراث المسلمين عامّة وطعنهم في
مشاعرهم وعواطفهم وفي معتقداتهم الدينية التي تخالف الوهابيين.
وهذا هو البعد السياسي الخارجي لمسألة تدمير تراث المسلمين
في الحجاز.
التراث والهوية الحجازية
لم تخطئ الدكتورة مضاوي الرشيد في التركيز على الأبعاد
السياسية لما أسمته بالحملة لإحياء الآثار الإسلامية في
الحجاز والحفاظ عليها والتشنيع بمن يريد أن يأتي على ما
تبقى منها بالهدم والتدمير. ولم تخطئ حين قالت بأن محاولة
الإحياء له علاقة بتثبيت وبلورة هوية ثقافية لدى سكان
الحجاز، وإن وصفتها بأنها (هوية مزعومة)، تعتمد على المشتركات
اللغوية والممارسات الطقسية الإجتماعية والدينية المغايرة
لما لدى المركز النجدي.
هناك صنفان من المهتمين بالتراث في الحجاز: صنف مهتم
بالتراث الإسلامي كونه تراثاً إسلامياً عاماً وحجازياً
متعلقاً بالهوية الحجازية.. ولا يفكر في (تسييس) الهوية
الثقافية الحجازية، وإنما ينزع للمحافظة عليها في ظرف
تتأكد فيه سطوة المركز وهويته المناطقية والطائفية كما
هو معروف بالضرورة. فكل الأمم والجماعات تحاول الحفاظ
على هويتها وتدافع عنها، ومثل هذا الصنف موجود بين النخب
الحجازية، دون ذكر الأسماء.
وهناك صنف آخر من المهتمين يدرك الأبعاد السياسية للهوية،
ويرى بأن الهوية الحجازية لصيقة بالموضوع السياسي المحلي،
وهو وإن اهتم بالتراث الاسلامي في الحجاز فإنه يدرك (الخصوصية
الحجازية) في إطاره. فمن عاش فترة كافية في ربوع مكة والمدينة
يصيبه القلق على ذاكرته التاريخية وهويته المهددة وهو
يرى تدمير المواقع الإسلامية واحداً تلو الآخر وكأن معاول
الهدم الوهابية تهدم في داخله أجمل ذكرياته وموروثاته
الدينية والسياسية والتاريخية.
وهل يمكن أن تكون هناك هوية بدون أبعاد سياسية؟
ان الهوية في الحجاز شأنها شأن الهويات الأخرى هي أحد
أهم العناصر الفاعلة في عالم السياسة. كانت هكذا في الماضي،
وهي كذلك في الحاضر وستبقى في المستقبل. بحيث لا يمكن
الحديث عن الهوية بدون ابعادها السياسية. والهوية الحجازية
ـ أو حملة الإحياء كما تسميها الدكتورة مضاوي ـ إنما جاءت
كرد فعل على عمل سياسي قام به المركز النجدي وأدواته الوهابية،
الأمر الذي يطبع أي عمل من هذا النوع بطابع السياسة.
هذا لا يعيب الحجازيين، أن يقوموا باحياء هويتهم الخاصة
عبر مقاومة أفعال الوهابيين المغطاة بدوافع سياسية هي
الأخرى.
ثم إن أعمال الهدم والتدمير التي تواطأ المسؤول السياسي
والديني النجدي على امضائها، هي من صميم الفعل السياسي،
المحلي والخارجي، كونه يثير الآخرين من المسلمين، ويرتب
مواقف سياسية تشكك وتدعو لاستقلال الحجاز او وضعه تحت
إشراف المسلمين عامة. كون تلك الآثار ليست خاصة بالوهابية
وهم أقلية في المملكة فضلاً عن العالم الإسلامي. ويكتسب
التدمير فعلاً سياسياً أكثر خطورة على الصعيد المحلي،
كونه يتعرّض لتدمير وإضعاف هوية السكان المحليين (في الحجاز)
وهذا الهدف غاب عن الدكتورة مضاوي. فما يُظن أنه فعل (ديني)
محض يقوم به وهابي متطرّف يزعم أنه يريد إعادة المواطنين
الى حظيرة (التوحيد) بعيداً عن (الشرك)، هو في واقع الأمر
يعني للسياسي النجدي (العائلة المالكة بالخصوص) إضعاف
هويّة الخصم، وتدميرها.. وبالتالي إضعافه في معادلة السياسة
المحلية وتهميشه وإبقاء السيادة النجدية التعصبية في كافة
حقولها المحتكرة لكل مواقع الدولة.
ويحمل تدمير الأماكن التراثية والمقدسة في الحجاز من
قبل الوهابيين انتصاراً وتقوية للهوية النجدية أيضاً.
وهذا عنصر آخر غاب عن الدكتورة مضاوي، فتدمير هوية الآخر
بحجج دينية، لا يستهدف (تقوية هوية مقابلة وطنية) بل تقوية
الهوية (النجدية السعودية الوهابية). وهذا يجعل العمل
في صلب السياسة لا الدين، حتى بشروطه الوهابية المتشددة.
ولا نعتقد بأن الوهابية تمتلك نصوصاً تسعفها في شمول التدمير
للمساجد الأثرية ومواقع تاريخية حيّة في التاريخ الإسلامي.
ندرك أن المسألة لا تتعلق بالقبور، وقد سووها بالأرض،
اللهم إلا قبر النبي نفسه الذي يعلنون بصراحة وعلى الملأ
بأن ما يقعدهم عن تدميره هو رغبة السياسي (آل سعود) بعدم
إثارة العالم الاسلامي. اذن هناك مسألة سياسية تتخفّى
وراء كل ما نريده.
نعلم ـ زيادة على ذلك ـ أن مقاييس الوهابيين في الحجاز
تختلف عن نجد. فالنص الديني لديهم والذي يتوسعون في تطبيقاته
وشمول كل ما يرونه من (مظاهر الوثنية! او فتنة الوقوع
فيها!) في منطقة الحجاز، وفي بعض مناطق المملكة الجنوبية
والشرقية، لا يجري العمل به في المنطقة الوسطى، حيث تحيى
مواقع امرئ القيس، وتخلّد بقايا أدوات استخدمها عبد العزيز
وأقام لها النجديون المتاحف! وغير ذلك من الأمور المعروفة.
فالدين بدمغته الوهابية يستخدم ضد الآخر، لهدف سياسي واضح
يدركه الزعيم الديني الوهابي كما الزعيم السياسي السعودي:
تقوية هوية الذات وإضعاف هوية الخصم. أي تقوية الهوية
الخاصة مقابل الهويات الأخرى.
وما يهمنا هنا، هو ملاحظة أن الهوية الوهابية والنجدية
بشكل عام، إنما قامت على التميّز عن الآخر ونفيه والقضاء
المادي عليه، وطمس فكره ورموزه وحججه، ومحاربة التراث
الإسلامي في الحجاز هو جزء من ذلك العمل. حين يقول الوهابيون
أنهم لا يؤمنون بالقبور ولا بالتراث ولا بالآثار الإسلامية
ويسعون الى هدمها، فإن الأمر لا يعود فقط الى (اجتهاد
ديني) بل هو من صميم توسعة (الهوية الخاصة) والإنتصار
لها. فما يميّز الوهابيين عن غيرهم، أن الآخرين يحترمون
ذلك التراث ويقدرون قيمته كما في كل العالم، ونقصد بذلك
التراث الإنساني بمختلف أنواعه، في حين أن الوهابيين يبحثون
عن التميّز في هذا الشأن كدالّة على الهوية النجدية الخاصة،
وإن تمّ تأطيرها للتضليل بعنوان ديني قابل للنقض والجدل.
وبالتالي فإن الإنتصار للهوية هو شأن النجدي الذي يدمر
تراث الآخر، كما هو شأن الحجازي الذي لا يعتدي ـ بقوة
وجبروت الدولة المسعودة ـ على حريم غيره، بل يرفع من شأن
ويحافظ على ما لدى (أرضه) من تراث.
وبهذا نلاحظ، أن الهوية النجدية الوهابية المسعودة،
هي هويّة متغوّلة عدوانيّة، لا تكتفي بالمحافظة على ما
لديها من تراث خاص بها، ولا تكتفي بعدم تطبيق نصوصها الدينية
على ما لديها من مخالفات تزعمها، ولكنها تعتدي على هويّات
المسلمين وعلى تراثهم، كما تعتدي على هوية أهل الحجاز
المعنيين أكثر بذلك التراث الحضاري العريق. والهدف تسويد
الهوية النجدية على ما عداها.
ومن هنا كان من المنطقي جداً أن تسمع الدكتورة الأوصاف
والنعوت السلبية بحق الوهابية وآل سعود (وعليها أن تتعود
أكثر على ذلك) لأن ما يجري ليس مجرد تدمير قبر او أثر
أو موقع تاريخي مضت عليه مئات وربما آلاف السنين، بل هو
تدمير لهوية الآخر، بغية إخضاعه وترويضه وتحقيق نصر مذهبي
مناطقي عليه، وبغية الإحتفاظ بالسلطة محتكرة بيد الفئوية
والطائفية والمناطقية النجدية.
شعار: الوطن أولاً، أم صراع هويّات؟
صحيح جداً ما ذكرته الدكتورة مضاوي الرشيد من أن أي
تحليل لمجمل عملية الدفاع والإحياء لتراث الحجاز لا ينظر
الى الأبعاد السياسية المحلية الحالية هو تحليل قاصر.
وصحيح ما جزمت به من أن (معركة إحياء التراث الاسلامي
هي معركة سياسية بالدرجة الاولى، وما تاريخ القبور وتراثها
إلاّ محاولة لدفن القصور في منطقة هي بالدرجة الاولى إرث
لكل المسلمين وليس فقط لمن سكن واستوطن الحجاز ومن هيمن
عليه سياسياً، رغم ان تدابير أمور المنطقة الدينية والحياتية
لا بد ان يكون لسكانها المحليين أولا وأخيرا بسبب ارتباطهم
تاريخيا ومكانيا بهذا الإرث العالمي).
المقاربة التي أرادت الدكتورة اتباعها جاءت من خلال
(العلاقة بين المركز والأطراف).. والطرف هنا هو الحجاز،
رغم أنه من الناحية النظرية المركز الديني المسيطر عليه
وهابيّاً نجدياً، اما المركز فهو الرياض، أي نجد، أي الوهابية
والعائلة المالكة والنخبة النجدية المسيطرة على جهاز الدولة.
هنا تضع د. مضاوي الرشيد هويتان متقابلتان، إحداها
ترفعها الأنظمة (الوطن أولاً) أي (الهوية الوطنية) والأخرى
ترفعها الشعوب (هويات فرعية: مناطقية وطائفية وغيرها).
وفي حين أنها لم تصم الأولى بأنها (مزعومة) وصفت الهويات
الأخرى بأنها (ضيقة)، وهي فعلاً كذلك، فالهوية الفرعية
تكون دائماً أكثر ضيقاً من الهوية الوطنية.. ووصلت الباحثة
الى حقيقة جديرة بالتأمل وهي أن حركة إحياء التراث الإسلامي
في الحجاز هي محاولة لصياغة هوية جديدة ـ قديمة للحجازيين،
وهذا صحيح. ود. مضاوي تنفي أن يكون الهدف (تدوين وأرشفة)
الفعل الوهابي من أجل الحفاظ على ما تبقى من الآثار وإن
قام النشطاء في هذا المجال بإعلان هذا الهدف؛ فهي ليست
مقتنعة ـ على الأقل بالنسبة لبعض المهتمين بالتراث الحجازي
ـ بأنهم يقصدون حفظ الآثار والدفاع عنه لا أكثر.. فالهدف
الذي وضعته د. مضاوي، وهو هدف صحيح ونهائي هو الإنفصالية،
ولكن هذا لا يمنع نقض كلام الباحثة بأن هناك من بين المهتمين
من لا يبحث عن تسييس للموضوع ولا يريد من ورائه غايات
أكبر، كفصل الحجاز عن دولة نجد السعودية، وهو ما يبدو
أن الباحثة مقتنعة بأنه هو (الجائزة الكبرى). نفهم هذا
من تساؤلها: (هل يا ترى أن حركة إحياء التراث هي محاولة
استباقية تمهد لمشروع تجزئة السعودية وإقامة دولة الحجاز
مثلا؟ هل هذه الحركة تستند على أجندة إنفصالية قد تتبلور
في المستقبل؟ أم هل هي يا ترى محاولة لإخراج الأماكن المقدسة
من الهيمنة السعودية ووضعها تحت هيمنة اسلامية تشترك فيها
الدول الاسلامية؟ هل يمكن اعتبار هذه محاولات لتقويض سلطة
القصور السعودية عن طريق إحياء تراث الآثار؟).
لم تبحث د. الرشيد علاقة الهوية الفرعية ـ الحجازية
هنا ـ بالهوية الوطنية، ولم توصّف الهويّة القائمة والسائدة،
حتى يمكن ملاحظة ما إذا كنا ازاء صراع هوية فرعية مقابل
وطنية، أم هي بين هويتين فرعيتين (نجدية وحجازية) أم هي
انشقاق هوية فرعية عن هوية وطنية (سعودية)، وهكذا؟! أن
توصف الفعل ـ بل رد الفعل الحجازي ـ بأنه محاولة احياء
هوية فرعية، تريد الإنفصال في محطتها النهائية قد يكون
صحيحاً، ولكن المهم هو معرفة الهوية المقابلة او السائدة،
وهوية الجماعة المسيطرة، حتى يكتمل التوصيف. فأن تنفصل
عن جهة تمارس الفعل (الإنفصالي)، يختلف عن ان تنفصل عن
جهة (وحدوية) أليس كذلك؟
لقد قلنا في اعداد كثيرة من هذه المجلة، وأوضحنا ما
هو معلوم بالضرورة، بأن الهوية القائمة في المملكة اليوم
والتي تسمى بالهوية السعودية، إنما هي في جوهرها هوية
نجدية مناطقية مذهبية فاقعة، وهي هوية أقليّة (لا يزيد
عدد سكان نجد عن ربع سكان المملكة) سادت بالحراب والفرض
وليس بالإجماع، وهي هوية الفئة المسيطرة على كل مؤسسات
الدولة بمختلف أبعادها، وبالتالي حتى لو رفع أدعياء الوحدة
من هذه الفئة شعارها، بزعم محاربة الإنفصالية، فإن فعلهم
لا يتسق مع ممارستهم. وهم على أية حال ليسوا رواداً في
الدفاع عن الوطنية، ولا الهوية الوطنية، خاصة الوهابيين
الذي ينعتون الهوية الوطنية بأنها (وثنية). اما النخبة
النجدية فيهمها استمرار السيطرة على مفاصل الدولة، وتلعب
الوهابية وسلطة المركز ورموز الحكم الدور الأكبر في إخضاع
الأكثرية لمشروع ومصالح وهوية تلك الأقلية. ولا نظن من
ينكر هذا إلا مكابر، أو جاهل لا يعلم ماذا يجري على الأرض.
اذا اقتنعنا بهذا، لا نكون بإزاء انشقاق مقابل وحدة،
ولا بإزاء وطنية مقابل انفصالية، ولا هوية سعودية مقابل
هوية حجازية، ولا مشاعر وحدوية جامعة للسكان مقابل مشاعر
انفصالية تؤمن بها أقلية حجازية.
نحن هنا بالتحديد ـ حسب التوصيف المنطقي ـ بإزاء صراع
بين هويتين، لا علاقة لهما بوحدة البلاد بالضرورة، وهي
وحدة إكراهية قامت على السيف والعنف وأنهار من الدم كما
هو معروف في التاريخ ولم تتغلغل بعد في كيان السكان. هناك
جماعة أقلية تريد استمرار فرض ارادتها على الآخرين بدون
مبرر ديني او سياسي او منطقي او شرعي أو حتى أخلاقي، وهناك
في المقابل جماعة أخرى، أكبر من الأولى حجماً، فقدت استقلالها
ودولتها عبر المذابح الوهابية السعودية ودعم البريطانيين
لآل سعود، وهي جماعة مهددة في هويتها ومعاشها وخصوصياتها.
أما الإطار الذي يجري فيه الصراع، فهو مفتوح، نظراً لغياب
الهوية الوطنية والمشروع الوطني.
ضمن هذا السياق، يصبح الإنفصال مشروعاً ضد وحدة إسمية
واحتكار سلطوي نجدي يتعمد الإخضاع ويرفض الإصلاح السياسي
والمساواة، لأن الإصلاح سيؤدي حتماً الى تقويض أبوية المركز
النجدي، وهيمنة الوهابية. وهذا مستحيل أن يقبله النجديون
(النخب منهم عامة) في الأمد المنظور، سواء كانوا في السلطة
الدينية او السياسية. ويمكن للدكتورة مضاوي أن تبحث عن
حقيقة أن أكبر معارضي الإصلاح السياسي ليس فقط العائلة
المالكة (النجدية) بل كل الطيف النجدي السياسي (انظر مثلاً
دراسة متروك الفالح، وإن لم تضع النقاط على الحروف تماماً).
لكن الباحثة توصلت الى النتيجة المؤلمة، وهي نتيجة
صحيحة حين قالت: (نستطيع أن نجزم ان حركة إحياء التراث
الاسلامي في الحجاز، هي نافذة نطل منها على مستقبل السعودية
وليس ماضيها... نعتقد ان هذا المستقبل اما سيكون خطيرا
للغاية وذي عواقب وخيمة على الجميع، او سيكون فرصة تاريخية
لإعادة صياغة وحدة الجزيرة العربية على أسس ثابتة لا مجال
فيها لهيمنة مركز واحد وتهميش للأطراف، والتي قد يكون
بعدها الديني أهم بكثير من المركز السياسي الوقتي).
أين الأطراف؟
العلاقة بين المركز والأطراف، التي أشارت اليها الدكتور
مضاوي، لم تأتِ عليها في النقاش أصلاً. وكان يفترض أن
توصف طبيعة العلاقة بين الطرفين (المركز النجدي والطرف
الحجازي) لكي نعرف سرّ نزعة الحجازيين الإحيائية للتراث
الإسلامي المهدور في الأماكن المقدسة، ولكي يدرك القارئ
بعدئذ جملة العوامل التي تغذي الهوية الفرعية الحجازية
وتمنحها الزخم ومن ثم الإنطلاق في آفاق إعادة دولة الحجاز
المستلبة منذ عشرينيات القرن الماضي.
ان توصيف العلاقة يقتضي ادانة المركز ويقتضي في الآن
ذاته تبرير رد فعل الضحية او الضحايا. وإدانة المركز تتم
وفق سياساته المتعددة في ادارة الدولة، والتي اعتمدت احتكار
السلطة وسياسة الهيمنة والبطش بمن يعتقد أنهم (أطراف الدولة)
رغم أنهم يعيشون عمقها الديني (الحجاز) وعمقها الإقتصادي
(الشرقية) وعمقها الديمغرافي (الجنوب). ولو بذلت الباحثة
بعض الجهد في هذا المجال لاكتشفت أن تدمير هوية الآخر
(غير النجدي وغير الوهابي) والتي يعتقد أنها سلاح بيد
السلطة المركزية النجدية لتسويد هويته، ومنع الأطراف من
مكافحة المركز عبر تغذية المشاعر الإنفصالية، إنما هي
سياسة خاطئة (وآل سعود حتى الآن لم يدركوا بجهلهم هذا)
تؤدي الى عكس ما يريده الوهابيون، أي أن هذه الممارسات
ـ وبينها تدمير الآثار الإسلامية في الحجاز ـ قد تحقق
نصراً مذهبياً، ولكنها تضغط على الوتر الحساس الكامن في
عمق الشخصية الحجازية خاصة (والمسلمة بشكل عام) وتستثيره
الى أبعد حدود، وبالتالي تتضخم لديه الهوية الخاصة وتتمدد
بسرعة في غياب الهوية الوطنية. اما أن النظام قد أعلن
حربه الصريحة على الهوية الحجازية، ومعه فلول الوهابيين،
واعتماد الحرب العلنية عبر الكتب أو عبر إعلام الدولة،
من أجل إدانة (دعاة الهوية الحجازية) بشكل صريح، والتنقيص
من شأنهم بالقول أنهم من دعاة الإنفصالية مقابل الوهابيين
دعاة الوحدة والتوحيد! إن هذا كلّه لا يعتبر نذير شؤم
بحق الحجازيين، بل هو نذير شؤم للدولة النجدية الفاشلة
في صناعة هوية وطنية قائمة على المساواة والحرية والعدالة.
وحتى تجنيد السلطة ودعاتها الوهابيين (عبدة آل سعود) لمكافحة
من أسمتهم بالقبوريين الحجازيين والشيعة وغيرهم، في معركة
تبدو غير متكافئة، فإن هذا التجنيد لا يعدو تحشيداً للطيف
النجدي الوهابي على أساس هوية طائفية مناطقية، ولن يكون
له سوى الأثر السلبي لدى الطرف الآخر أو الأطراف الاجتماعية
الأخرى في المملكة، والتي تكون أول ردات فعلها هو مكافحة
الهوية والثقافة والهيمنة الطائفية الوهابية، والقيام
بمزيد من التعزيز للهوية الخاصة. واذا كانت الباحثة تعتقد
أن (الكثير من أبناء البلد عندهم ربما حساسية زائدة من
موضوع القبور وزوارها) يمكن استخدامهم في اللعبة الطائفية
وصراع الهويات، فإن الصحيح هو أن هؤلاء لا يمثلون إلا
أقلية في البلاد، والوهابيون لازالوا أقلية، وحساسيتهم
مهما بلغت لا تقارن بحساسية وألم بقية المواطنين خاصة
سكان الحجاز، بل وبقية المسلمين المذعورين من الأفعال
الوهابية المقيتة.
ومن الإستنتاجات غير المنطقية وغير الصحيحة التي توصلت
اليها الباحثة هو قولها: (ولا بد لنا ان نعترف ان زيارة
القبور من اجل التبرك او الصلاة او النحر او حتى الذكرى
هي من الامور التي مزقت وقسمت ولم توحد). الصحيح عكس هذا
تماماً، لأن اعتقاد الأكثرية من المسلمين هو المهم، ومن
يشذّ كالوهابيين الذين يريدون فرض رؤيتهم على الآخر، هم
من يمزّق. ولو تركوا للمسلمين الخيار بأن يفعلوا ما يشاؤون
حسب معتقداتهم، هل كانت المسألة ستؤدي الى انقسام.
ان الطقوس الدينية وغيرها لها علاقة بالهوية، ولسنا
هنا أمام بحث ديني نقول فيه ما يجوز وما لا يجوز، وهذه
الطقوس موجودة في كل البلدان العربية والإسلامية، فلماذا
لم تصبح عامل تقسيم في مصر مثلاً او حتى الهند او أندونيسيا؟!
لماذا في السعودية؟ لأن المسألة لا تتعلق بممارسة الطقس
بذاته، بقدر ما تتعلق بالهوية التي يراد استحضارها من
خلال ممارسة الطقس. ان من يستحضر الهوية، يبحث عن التميز،
فالهوية تقوم على التميز في الفكرة والممارسة، وهوية الوهابيين
قائمة على نفي الآخر بكل ما لديه، وهم لا يهتمون بالتالي
بالعوامل المشتركة بقدر ما يبحثون عن التميّز العقدي وادانة
الممارسة التي لا تعجبهم باعتبارهم محتكري الحق والحقيقة.
ولو ان مشكلة المواطنين مع الوهابية تقوم على البحث عن
المشتركات الثقافية وعدم إقحام أنفهم في هويات وخصوصيات
الآخرين، إذن لحلت المشكلة منذ زمن. ولكن ماذا نصنع مع
جماعة تعتبرنا كفرة هراطقة، ماذا نصنع مع جماعة احتكارية
لله ورسوله وقرآنه وتراثه فضلاً عن احتكار الدولة برمتها؟!
هل المطلوب من الحجازي أن يغمض عينيه عن تراثه وتراث المسلمين
الخالد وهو يهدم بمعاول الوهابية، بحجة البحث عن المجال
المشترك. المشترك هنا هو ان تدين بالوهابية! وهذا مستحيل،
ولو كان للوهابية أن تنجح لنجحت في الداخل رغم عنفها وشراستها
ودعم آل سعود لها.
وإذا كنا في موضع القسمة الصحيحة، خاصة وأن لكل طرف
مسلم حججه الدينية، فإن فرض رأي الأقلية الوهابية على
عموم المواطنين خطأ، ويكون الخطأ مضاعفاً حين يفرضونه
على كل العالم الإسلامي، لمجرد أنهم يمتلكون القوة والبطش
والسيطرة على الأماكن المقدسة. ان ظهور الوهابية كمذهب
في العالم الإسلامي هو بمثابة انشقاق عن المسلمين عامة
ورؤيتهم الخاصة بهذا الشأن، وبدل أن ينقد ممارسو الطقس،
يجب أن يدان الوهابيون الذين منعوا تلك الممارسة.
بالطبع، فإن هدف البحث عن القواسم المشتركة السياسية
شأن كل عاقل ومواطن، والمشترك هو الدين، وتراث النبي الأمين،
واللغة، والمواطنة بكل ما تحمله من معاني. فهل القابضون
على زمام السلطة يؤمنون بهذا؟ هل يقبلون أن يتمتع المواطن
عامة بمثل ما يتمتع به النجدي، الذي تحفظ له هويته المذهبية
وتدرس وتنشر في الإعلام المحلي وفي العالم وتطبق فتاوى
علمائه فحسب، هل يقارن هذا بالحجازي الذي منعوا حتى مؤذنيه
من الأذان، وعلمائه من الوعظ؟!
هل يقبل النجدي المساواة مع الحجازي وغيره من المواطنين
فيحصل على نصيبه من السلطة والثروة والإهتمام وخدمات الدولة
مثل غيره؟
هل يقبل هؤلاء بتوزيع مغانم السلطة على الجميع بالتساوي،
فلا يصبح الجيش نجدياً، ولا الحرس الوطني نجدياً، ولا
القرار السياسي بيد الفئة النجدية؟
هل يقبلون بإصلاح سياسي كهذا؟
هذا من المشتركات، وعنوانها العريض: الإصلاح السياسي!
فلتقم الإنتخابات الصحيحة، ولتقم اللامركزية بحيث تدير
كل منطقة شؤونها دون أن يكون على رأسها أمير نجدي وطاقم
نجدي. ولتتمتع كل منطقة بخصوصياتها في التعبير والممارسة
الدينية، ولتعبر عن هويتها في ظل هوية وطنية أعلى، لا
هوية وهابية ولا هوية نجدية ولا هوية مسعودة مزورة.
ان النزعة باتجاه الإنفصال سببها قمع هذه الهويات،
ووضع هوية نجد مكانها.
وإن زيادة تلك النزعة سببه عدم وجود أو حتى قبول بمشروع
إصلاحي وطني يحفظ للمواطنين كرامتهم من تغول الوهابية
النجدية.
لأن الإصلاح غير ممكن في الزمن المنظور القادم، سنشهد
نزوعاً متزايداً باتجاه الإنفصالية كحل وحيد متبقي أمام
المواطنين غير النجديين.
لقد حاولنا البحث عن شركاء وعن مشتركات سياسية تبقي
البلاد موحدة، وكان هذا دأب النخب الحجازية منذ سقوط الدولة
الحجازية على يد النجديين، ولكن مع الزمن بهت الأمل، وتغوّلت
سياسة التنجيد، ومضت الإحتكارية الى أبعد مداها في عهد
الملك فهد، فهل بعد هذا من عتب على النخبة الحجازية؟ ام
ان العتب واللوم على من يزعم الدفاع عن وحدة ظالمة، ويمارس
كل ما ينقضها.
لا يهمنا توصيف (النجدي) لنا بأننا انفصاليون. فالإنفصالي
الحقيقي في الممارسة هو الثلاثي الأشر: المسؤول النجدي،
والامير السعودي، والطائفي الوهابي. بأفعال وسياسات هؤلاء،
صارت الإنفصالية ملاذاً لكل مشاعر البؤس والألم والإحتقان.
ولذا لن تتوقف مشاعر العداء للمركز ولا للوهابية المتطرفة
ولا مشاعر النزوع الإنفصالي، في حال استمرت الدولة وحلفاؤها
في سياستهم القديمة الجديدة. والحل اليوم ليس بيد النخبة
النجدية، بل يمكن القول ان الشارع الحجازي تتملكه النزعة
أكثر من النخب. الحل اليوم بيد الدولة والقابضين عليها:
إما دولة قانون يحترم ويتساوى فيها الجميع وفق قواعد المواطنة،
وإما طلاق لا رجعة فيه بالثلاث!
لا نختلف مع الدكتورة مضاوي الرشيد بأن الوحدة مع الإصلاح
أفضل، ولكن أين هو الإصلاح، وال سعود يطيلون مخالب الوهابية
لضرب الإصلاح وضرب الجماعات المناطقية والمذهبية؟ ولا
نختلف مع الباحثة في المطلوب الذي حددته وهو (تبني منظورات
جديدة يتم على أساسها بناء هيكلية سياسية وادارية يمكن
الجميع من العيش في وحدة حقيقية قائمة على الإعتراف بالجميع
وليس على منطلق التكفير والهيمنة السياسية والتي بنيت
على مثل هذه المنطلقات. هذه الهيكلية الجديدة تضمن للمناطق
المختلفة استقلالها المحلي وشخصيتها الثقافية وممارساتها
الاجتماعية ومذاهبها المختلفة.. كذلك نتحدث عن قضاء محلي
ومحاكم محلية تدار من قبل قضاة المنطقة وليس اولئك الذين
تصدرهم السلطة السياسية المركزية وحليفتها الدينية. كذلك
نتحدث عن اعلام وصحافة محلية تعني بشؤون المنطقة الداخلية
وثقافة اهلها واحلامهم وليس إعلاما مركزيا يفرض اخبار
من استقبل وودع على الجميع. مثل هذه التطورات تتطلب إعادة
النظر بالدولة المركزية وتوزيعها للثروة وهيمنتها الثقافية
وقبولها بالتعددية القضائية والتربوية والاجتماعية. عندها
فقط سننتقل الى كيان لا يعتمد في مشروعه السياسي على مقولات
الشرك والكفر والتخوين والعمالة والعنصرية الى كيان يعتمد
على المشاركة في صنع القرار والمساواة في توزيع الثروة
المركزية.. يجب على الجميع ان يتمسك بوحدة هذه الجزيرة
ككيان يحتضن اهم المقدسات واكبر الثروات. هذه الوحدة لا
تهددها سوى عنجهية المركز السياسي. الحل في اللامركزية
السياسية التي تضمن حقوق الجميع وتعترف بشخصيتهم المحلية).
مَنْ يمكن له أن يرفض حلاً مثل هذا؟
هذا ما يريده المواطنون في كل المناطق عدا نخبة نجد!
فهي التي تحتاج الى إقناع والى ضغط حتى لا يكون الحل الوحيد
هو التقسيم.
فإلى تلك النخبة النجدية ـ وهي صاحبة الفعل والقرار
ـ لا إلينا ـ أصحاب الخيارات المحدودة وردود الفعل ـ نتوجه
بما كتبته مضاوي، وما كتبناه تعليقاً عليه!
|