السعودية: حملة لإحياء القبور أم هدم للقصور؟
د. مضاوي الرشيد
يوما بعد يوم تتبلور ملامح حركة حجازية تعني بالحفاظ
على ما تبقي من آثار اسلامية في مكة المكرمة وغيرها من
مناطق الحجاز. لقيت هذه الحركة التراثية والثقافية في
ظاهرها والسياسية في ابعادها تجاوبا من قبل الصحافة العالمية
والعربية. خرجت عدة مقالات في الصحف الغربية والعربية
منطلقة من وجهة نظر واضحة وصريحة. كل هذه المقالات تدين
النظام السعودي وتتهمه بممارسة حملة تطهيرية قضت على الكثير
من المعالم الاثرية الاسلامية في منطقة الحجاز كالقباب
المبنية على القبور والمقابر والمباني المشيدة عليها بالاضافة
الى بعض المساجد القديمة والمنازل المرتبطة بتاريخ الاسلام
الاول. اعتمدت هذه المقالات على مقابلات مع رموز حركة
احياء التراث الاسلامي من كتّاب ومثقفين ومختصين بالتراث
وعلم الآثار. الكل يدين ما يسمونه بالهيمنة السعودية ـ
الوهابية على الإرث الاسلامي العالمي، وفرض نمط معين من
التفسيرات والممارسات الدينية ليس فقط على سكان المنطقة،
بل على من يزورها من مسلمي العالم، وكذلك فرض المذهب الواحد
الذي همش وحتى ألغى التعددية المذهبية، ورسخ الاقصائية،
الى ما هنالك من تهم وأوصاف ونعوت تعودنا على سماعها من
معارضي الهيمنة السعودية بكافة أشكالها السياسية والثقافية
والاقتصادية والمذهبية على منطقة الحجاز.
وبينما حركة احياء التراث الاسلامي الأثري تنشط في
المجال العالمي تظهر بشكل مواز لها بعض الادبيات التي
تحاول جاهدة لتثبيت وبلورة هوية ثقافية للإحياء من سكان
منطقة الحجاز.. يعتمد هؤلاء على قاعدة ما يسمي بالعادات
والممارسات الاجتماعية والطقوس الدينية واللغة المحلية،
او بالأصح اللهجة المحلية الحجازية كأساس لهذه الهوية
المزعومة المشتركة بين أبناء المنطقة، هذا بالاضافة الى
منظورات التعددية العرقية والتي جعلت مدن الحجاز تشتهر
بانصهار الأجناس والأعراق، وهو ما يميز هذه المدن عن الريف
الحجازي، حيث سكنت قبائل ربما لم تختلط مع غيرها من الوافدين
الى المنطقة بسبب الحج.
تشكل هاتان المحاولتان أي محاولة إحياء التراث الأثري
ومحاولة إحياء تراث الإحياء الثقافي بداية مرحلة جديدة
في العلاقة بين المركز السياسي ـ الرياض، وبين المركز
الديني المتمثل بالحجاز. اطلت هاتان المحاولتان في مرحلة
حرجة على الصعيد الداخلي السعودي والاقليمي العربي، إذ
تشهد المنطقة كلها حالة اعادة صياغة للهويات بجملتها،
فبينما ترفع الأنظمة شعارات جديدة على مسامع مواطنيها،
كشعار هذا الوطن اولا، والذي قد فسره البعض على انه تنصل
من مسؤوليات عربية تقع خارج حدود القطر الجغرافي، نجد
ان شعوب المنطقة بمثقفيها وعامتها تدور في حلقة تحاول
ان تصيغ من خلالها مفاهيم وشعارات ضيقة. فالكل اليوم ينبش
المخزون الإقليمي والطائفي والمناطقي والحضري والبدوي.
يحصل هذا في حلبة تتسم بهيمنة خارجية غير معهودة.
يجب ان نقيم حركة إحياء التراث الإسلامي المنطلقة من
الحجاز ومحاولات صياغة الهوية الجديدة (القديمة طبعاً)
من باب العلاقة بين المركز السعودي السياسي والطرف (مع
الأسف اصبح الحجاز طرفا سياسيا رغم انه المركز الديني)،
خاصة وأن إحياء التراث الاسلامي لا يلقى صدى في الحجاز
فقط، بل أنه يجد تجاوباً مع مجموعات مسلمة اخرى منها مثلا
أبناء الطائفة الشيعية والذين هم أيضا يعتبرون الإرث الاسلامي
لآل البيت قد تم طمسه في أماكن كمقبرة البقيع. كان آخر
هذه المحاولات ما قام به مقتدى الصدر عندما زار الملك
عبد الله في الرياض العام الماضي. الكل يعلم ان محاربة
هذه الآثار الاسلامية لها تاريخ طويل بدأ عندما تمت الهيمنة
السعودية على مكة في بداية القرن التاسع عشر ثم انحسرت
وعادت من جديد عام 1925 وهو العام الذي سقطت فيه مدن الحجاز
في القبضة السعودية.
كيف لنا ان نفسر ظاهرة إحياء التراث هذه؟ نحن امام
عدة خيارات. الأول: هل هذه محاولة مباشرة لتدوين تاريخ
المعول السعودي والذي حسب أرشيف حركة احياء التراث قد
هدم معظم الآثار العريقة في المنطقة من أجل الحفاظ على
ما تبقي منها؟ طبعا هذا هو الهدف المعلن والذي يتردد دوما
في تصريحات النشطاء في هذا المجال. ولكن أي تحليل لا يتخطى
هذا الطرح هو قاصر على قراءة الوضع الحالي والمحلي الذي
يدور في بيئة قد تغيرت ملامحها من خلال التدخل الأجنبي
الواضح في العراق والتوسع الامريكي في المنطقة بالذات.
نتساءل هل يا ترى أن حركة إحياء التراث هي محاولة استباقية
تمهد لمشروع تجزئة السعودية وإقامة دولة الحجاز مثلا؟
هل هذه الحركة تستند على أجندة إنفصالية قد تتبلور في
المستقبل؟ أم هل هي يا تري محاولة لإخراج الأماكن المقدسة
من الهيمنة السعودية ووضعها تحت هيمنة اسلامية تشترك فيها
الدول الاسلامية؟ التساؤل الاخير مبني على طروحات كنا
قد سمعناها تصدر من جهات كثيرة تخرج عادة مع مواسم الحج
وخاصة عندما تحدث الكوارث التي تودي بحياة الحجاج إما
بسبب الازدحام او بسبب سوء التدبير من الجهات السياسية
والأمنية السعودية.
التساؤل الاخير الذي نطرحه هو هل يمكن يا ترى اعتبار
هذه المحاولات محاولات لتقويض سلطة القصور السعودية عن
طريق إحياء تراث الآثار؟
لا بد لنا ان نذّكر بالخلفية التاريخية التي انطلقت
منها حركة إحياء التراث الاسلامي هذه.
تمت الهيمنة السعودية على منطقة الحجاز من منظور قطع
دابر الشرك والمشركين، وخير دليل على ذلك رسالة وجهها
احد أئمة الدعوة النجدية الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل
الشيخ الى إمامه سلطان نجد حينها عام 1918 وقال فيها ما
معناه ان الشيطان قد فعل فعله في منطقة الحجاز وعسير،
وبعد زيارة لهذه المناطق اخبره انه قد رأى بأم عينه كيف
ان هذا الشيطان يعيش في تلك الأرض ومع أهلها، فسقط هؤلاء
ولم يروا النور والهداية بل تمرغوا في جاهلية اسوأ من
جاهلية كفار قريش قبل الرسالة المحمدية، وها هم اليوم
على هاوية جهنم اذ انهم يعبدون القبور ويقيمون الأضرحة
عليها ويطلبون الشفاعة من الأولياء الأحياء منهم والأموات.
هذا الخطاب التاريخي القديم لم ينقطع بل استمر وهو مستمر
حتى يومنا هذا وليس للمرء الاّ زيارة المواقع الالكترونية،
وليس القبور ليرى كيف ان الاتهامات والاتهامات المضادة
تتأصل وتزداد حدة ببركات التكنولوجيا الاتصالاتية الحديثة.
منذ البداية قام علماء الحجاز وأهمهم حينها مفتي مكة الشيخ
احمد دحلان الشافعي بالرد على اتهامات التكفير الجماعي
لمنطقة الحجاز فكتب كتابا عنوانه الدرر السنية في الرد
على الوهابية يبرئ فيها منطقته وأهلها من هذه التهمة الخطيرة
ووصمة (القبوريين) التي روجت في الخطاب السياسي والديني
السعودي عندما يذكر أهل الحجاز في مروياتهم.
نستطيع أن نجزم ان حركة إحياء التراث الاسلامي في الحجاز،
هي نافذة نطل منها على مستقبل السعودية وليس ماضيها، اذ
ان هذا الماضي سيبقي في الأرشيف حتى يحين موعد كتابته.
نعتقد ان هذا المستقبل اما سيكون خطيرا للغاية وذي عواقب
وخيمة على الجميع، او سيكون فرصة تاريخية لاعادة صياغة
وحدة الجزيرة العربية على أسس ثابتة لا مجال فيها لهيمنة
مركز واحد وتهميش للاطراف، والتي قد يكون بعدها الديني
أهم بكثير من المركز السياسي الوقتي.
نستطيع الجزم بان معركة إحياء التراث الاسلامي هي معركة
سياسية بالدرجة الاولي وما تاريخ القبور وتراثها إلاّ
محاولة لدفن القصور في منطقة هي بالدرجة الاولى إرث لكل
المسلمين وليس فقط لمن سكن واستوطن الحجاز ومن هيمن عليه
سياسياً، رغم ان تدابير أمور المنطقة الدينية والحياتية
لا بد ان يكون لسكانها المحليين أولا وأخيرا بسبب ارتباطهم
تاريخيا ومكانيا بهذا الإرث العالمي، ومن مبدأ اهل مكة
أدرى بشعابها.
منذ فترة والنظام السعودي يرصد محاولات أهل الحجاز
ولكنه خرج عن صمته مؤخرا واعلنها حربا على صفحات الكتب
حتى هذه اللحظة، اذ ظهرت بعض الأدبيات التي تدين دعاة
الهوية الحجازية بشكل واضح وصريح.
اعتقد ان المعركة لم تتضح معالمها حتى الآن، ولكن نجزم
ان محاولة حماية الارث الاسلامي الاثري يعرضها بشكل تلقائي
لهجوم مضاد يلعب على الخوف من التمزق والتشرذم ودعوات
الانفصال خاصة في نظام سياسي يتخبط في شرعيته لا يدري
هل هي في السلفية الدينية أم الليبرالية الغربية أم الانفتاح
الاقتصادي أم السيف؟ يعلم النظام ان الكثير من ابناء البلد
عندهم ربما حساسية زائدة من موضوع القبور وزوارها فهو
مستعد ان يجند هؤلاء في حرب سياسية لا علاقة لها بالطقوس
والممارسات الدينية كما فعل في السابق. ولا بد لنا ان
نعترف ان زيارة القبور من اجل التبرك او الصلاة او النحر
او حتى الذكرى هي من الامور التي مزقت وقسمت ولم توحد.
فيجب على كل مخلص ان يركز على القواسم المشتركة وليس ما
يثير الجوانب الوحشية التي عادة تغذيها الإنقسامات الفرعية.
هذا الموقف الذي ندعو له لا يعني ولا يجب ان يعني مهادنة
السلطة القمعية المركزية التي فُرضت في السابق بالسيف
وعلى جثث الكثير في الطائف وغيرها من المناطق الحجازية.
يجب على حركة إحياء التراث ان تتجاوز الأحجار والقبور
والآثار، وتطور ذاتها لتصبح حركة شاملة معنية بالإحياء
وخاصة حاضرهم ومستقبلهم. على هذه الحركة ان تقف موقفا
جريئا وتبحث عن جسور ليس فقط مع ريفها القروي الحجازي
وانما مع الفعاليات الاخرى في المناطق المتعددة التي تتكون
منها الدولة السعودية. عندها فقط ستخرج هذه الحركة من
تهمة الانفصالية والمناطقية في مرحلة تاريخية خطيرة تعاد
فيها محاولات رسم الخرائط والجغرافيا.
يجب على الجميع ان يستفيد من تجارب الشعوب الاخرى،
خاصة تلك المتصفة بالتعددية الثقافية والمذهبية. تجربتنا
في الجزيرة قد تكون سهلة وأكثر سهولة من تجارب الأمم الاخرى
في الشرق والغرب من بريطانيا مرورا بسويسرا وانتهاء بالهند
ذات التعددية العرقية والدينية. ففي الجزيرة كلنا عرب،
وكلنا مسلمون وان فرقتنا الممارسات الاجتماعية واللباس
واللهجة والعادات والتقاليد. ما يجمعنا اكثر بكثير مما
يفرقنا، ولكن لا ننسى ان التفرقة بيننا كانت من اهم المخططات
السياسية التي انطلقت تحت شعار اعادتنا الى الاسلام، وهو
شعار واه، وصمنا بالكفر، واختزل الرسالة المحمدية، بل
حتى أنه ألغاها عندما قرر ان الشيطان قد عشش في أقدس الأماكن
.
يجب على حركة إحياء التراث الإسلامي ان توسع نطاقها
وتتبني منظورات جديدة يتم على أساسها بناء هيكلية سياسية
وادارية يمكن الجميع من العيش في وحدة حقيقية قائمة على
الإعتراف بالجميع وليس على منطلق التكفير والهيمنة السياسية
والتي بنيت على مثل هذه المنطلقات. هذه الهيكلية الجديدة
تضمن للمناطق المختلفة استقلالها المحلي وشخصيتها الثقافية
وممارساتها الاجتماعية ومذاهبها المختلفة. هذه الهيكلية
لن تتم عن طريق مجالس بلدية محلية لم تستطع ان تحارب انواعا
مختلفة من البعوض المسؤول عن حمم تفتك بسكان المنطقة فما
بالك بتمثيل أهل هذه المنطقة. نحن هنا نتحدث عن تمثيل
سياسي حقيقي ليس فقط للحجاز بل لجميع المناطق يأتي من
خلال مجالس محلية تتمتع بقدر عال من الاستقلالية. كذلك
نتحدث عن قضاء محلي ومحاكم محلية تدار من قبل قضاة المنطقة
وليس اولئك الذين تصدرهم السلطة السياسية المركزية وحليفتها
الدينية. كذلك نتحدث عن اعلام وصحافة محلية تعني بشؤون
المنطقة الداخلية وثقافة اهلها واحلامهم وليس إعلاما مركزيا
يفرض اخبار من استقبل وودع على الجميع. مثل هذه التطورات
تتطلب إعادة النظر بالدولة المركزية وتوزيعها للثروة وهيمنتها
الثقافية وقبولها بالتعددية القضائية والتربوية والاجتماعية.
عندها فقط سننتقل الى كيان لا يعتمد في مشروعه السياسي
على مقولات الشرك والكفر والتخوين والعمالة والعنصرية
الى كيان يعتمد على المشاركة في صنع القرار والمساواة
في توزيع الثروة المركزية. في مثل هذا الكيان الجديد لا
يوجد مكان لاحياء أمجاد زعامات سابقة ماتت ودخلت ارشيف
التاريخ بل هناك المكان لزعامات تمثل الشرائح الجديدة
وتطلعاتها ندق لكم ناقوس الخطر القادم وبصراحة واضحة حتى
لا نتفاجأ بمخططات تطبخ اليوم على نار هادئة. يجب على
الجميع ان يتمسك بوحدة هذه الجزيرة ككيان يحتضن اهم المقدسات
واكبر الثروات. هذه الوحدة لا تهددها سوي عنجهية المركز
السياسي والتي يقامر عليها الخارج من اجل تمرير مشاريع
لا تخدم إلاّ مصالحه. مشروع احياء التراث والقبور لن يعيد
الاموات الى عروشهم والحل في اللامركزية السياسية التي
تضمن حقوق الجميع وتعترف بشخصيتهم المحلية. وربما يأتي
اليوم الذي نرى فيه مشروع الولايات العربية المتحدة يتطور
ويزدهر ويكون مثالا يتطلع للانضمام اليه اخوان لنا في
اليمن والخليج بجميع دويلاته، سيأتي هؤلاء من منطلق المساواة
واحترام المحلي وليس من مبدأ هيمنة الأخ الأكبر.
القدس العربي ـ 1/5/2006
|