الحكم في قضية المزيني
أزمة القضاء والحوار
أصدرت لجنة النظر في المخالفات التابعة لوزارة الإعلام
السعودية قراراً في الثاني والعشرين من مايو الماضي بتغريم
الكاتب والأكاديمي السعودي حمزة المزيني ورئيس تحرير صحيفة
(الوطن) السابق طارق إبراهيم مبلغ 30 ألف ريال سعودي،
بسبب تجريح أستاذ جامعي يدعى الدكتور عبد الله بن صالح
البراك في مقال كتبه المزيني في الصحيفة.
وبحسب ما جاء في نص القرار الصادر عن اللجنة بأن المزيني
خالف المادة التاسعة في فقرتي الرابعة والثامنة من نظام
المطبوعات والنشر من خلال المساس بكرامة الدكتور عبد الله
البراك في مقالة المزيني المنشورة في صحيفة الوطن في عددها
رقم 1434 تحت عنوان (مفاهيم الدكتور البراك المغلوطة).
وقد قام وكيل الوزارة المساعد للاعلام الداخلي محمد بن
علي علوان بتسليم المدّعي عبد الله البراك قرار اللجنة
بخصوص دعواه المرفوعة ضد الدكتور حمزة المزيني.
وقد برر الاعضاء الثمانية في لجنة النظر في المخالفات
قرارهم ضد حمزة المزيني وطارق ابراهيم بأن ما جرى ذكره
في المقال المشار إليه لم يكن في محله، لخروجه عن النقد
الموضوعي، وتناول المدّعي (البرّاك) بالتجريح مما يسيء
إليه وينقص من مكانته، حين تناوله المدّعى عليه (المزيني)
بنعوت وأوصاف جارحة.
ممثل وزارة العدل في اللجنة، والذي ينتمي الى التيار
الديني السلفي، تحفّظ على قرار اللجنة التي هو عضو فيها،
وطالب بإجراءات أشد ضد الكاتب، من بينها: منعه من الكتابة
في أي صحيفة أو مجلة سعودية أو مملوكة لسعوديين، عملاً
بالقاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
وكان الملك عبد الله قد أصدر قراراً العام الماضي يحيل
بموجبه ملف قضية المزيني والبراك الى وزارة الاعلام، بعد
أن حكمت المحكمة العامة في الرياض على المزيني في القضية
ذاتها بمئتي جلدة، الأمر الذي أثار تحفّظات لدى كثير من
الاعلاميين والحقوقيين، سيما وأن القضية أخذت أبعاداً
أخرى وتجاوزت بعدها الاعلامي الى البعد الايديولوجي، حيث
اعتبرها البعض فرصة لانتقام التيار الديني من خصم ليبرالي
أثار بكتاباته عموماً وجولته السجالية مع الدكتور البرّاك
غضب التيار الديني، حيث دخل في ساحة التجاذب الايديولوجي
من خلال تسليط الضوء على تأخر التعليم الاكاديمي منذ أن
خضعت جامعة الملك سعود تحت تأثير الخطاب الديني السلفي.
وكان المزيني قد نجا من عقوبتي الجلد والسجن في مارس
العام الماضي بعد صدور قرار المحكمة الجزئية بالرياض بسجن
المزيني 4 شهور و200 جلدة ومنعه من الكتابة، غير أن ولي
العهد الامير عبد الله (الملك الحالي) أصدر أمراً سامياً
يلغي بموجبه الحكم، ويحيل قضايا المنازعات الاعلامية والنشر
الى وزارة الاعلام كجهة اختصاص.
الدكتور البراك، الاستاذ في قسم الثقافة الاسلامية
في جامعة الملك سعود، طالب بمحاكمة شرعية للمزيني استناداً
الى قرار وزير العدل في 16 أكتوبر 2004 والذي يجيز فيه
تقديم شكاوى تتعلق بما ينشر في الصحف والمجلات اليومية
الى المحاكم.
مصادر مقرّبة من التيار الديني السلفي تشكو هذه الايام
من محاولة تخفيض صلاحياتها في عدد من الاجهزة الفاعلة
المرتبطة بالشأن العام، فالقضاة التابعون لوزارة العدل
يتبرمون من نشوء لجان تمارس دور الفصل في منازعات خاصة
بوزارات أخرى، وهذا يلتقي مع قرار سحب صلاحية التوقيف
والاحتجاز من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في قضية المزيني، الذي للانصاف قد تجاوزت بعض عباراته
حدود اللياقة الحوارية حين استعمل لغة تطاول فيها على
شخصية البراك، ما يشير الى أهمية رسم حدود لأدب الحوار
بين المختلفين، وفي الوقت ذاته كف سلطة غير الاعلام عن
الدخول في حقل لا يندرج في مجال اختصاصها، سيما حين يكون
الحديث عن وزارة العدل التي تمثل جزءاً من الكيان الديني
السلفي، والتي يميل رجالها تلقائياً الى مناصرة طرف على
حساب آخر، أي عدم ضمانة نزاهة وحيادية المنتسبين اليها
بصورة مؤكّدة وهو ما ألمح اليه المزيني بعد صدور الأمر
السامي، حين أحال الى نظام المطبوعات الذي يحدد جهة الاختصاص
المتعلقة بالخلافات الاعلامية، ولأن ذلك النظام كفيل بأن
بحماية (شريحة كبيرة من المثقفين الذين يمكن أن يتعرضوا
للأذى بغير حق) على حد تعبير المزيني، في إشارة واضحة
الى أن الجهات القضائية الواقعة غالباً تحت سيطرة التيار
الديني السلفي ليست مؤّهلة لوضع الحق في نصابه، وقد تنتصر
لطرف على حساب آخر نظراً لانتمائه الايديولوجي وليس استناداً
الى حيثيات القضية.
وبالرغم من خطأ المزيني في انزياحه عن المساحة الحوارية
الرسمية، الا أنه قد يكون وقع تحت وطأة الفورة التعبوية
التي أحاطت به خلال منازلته الحوارية مع الشيخ الدكتور
البراك، الا أن ذلك ليس تبريراً للخطأ بقدر ما هو تفسير
للحالة النفسية التي تكسو الحالة الحوارية في ديارنا،
وقد يكون مثال المطارحة الايديولوجية بين النقيدان والبريك
حول الدولة الدينية والدولة المدينية واحداً من تمظهرات
التجاذب الحواري الذي قد يعتمد فيه الطرفان على اخلاقيات
منفردة نابعة من تجربة كل طرف ولياقته النفسية.
لا شك أن غياب تقاليد حوارية في بلد أدمنت لعقود طويلة
صرامة التوجيه وواحديته وعلويته يجعل التأسيس لحوار أفقي
بين الفرقاء الايديولوجيين والسياسيين أو عمودي بين المجتمع
والسلطة مهمة صعبة للغاية، ولذلك فإن المنازلات الفكرية
تأخذ شكلاً حوارياً في العلن ولكنها في الجوهر نزاعاً
على سلطة بالمعنى العام، أي سلطة فكرية أو اجتماعية أو
سياسية، وهذا ما يجعل العامل التعبوي نشطاً في أي منازلة
فكرية بين شخصين متنافرين أيديولوجياً، حيث ينزع كل طرف
الى المناشدة الفرقية غير المباشرة لجهة خلق جبهة مساندة
لكل طرف عبر تحريك الأوتار الحسّاسة الكفيلة باستنهاض
الهمم والفزعات. تكفي تهمة التهكّم على تعاليم الاسلام
أو السخرية من علماء الدين لتجييش الاتباع بنقرة زر، حيث
ينبري المدافع والمناصر والتضحوي كل على قدر طاقته للدفاع
عن بيضة الاسلام وحرّاس الفضيلة، وهذا من شأنه إحالة الحوار
الى محاكمة عقدية يكره فيها المتهم على دفع تهمة التجديف
عن نفسه لينجو من عقاب مرصود في إضبارة التشريعات القضائية.
وتكفي تهمة التعصب والتشدد والدعوة الى العنف والكراهية،
لتشوية رجل الدين، بما يسلب عنه صفة الوعي وحق التعبير
والاختلاف.
فالواحدية لا هوية لها، لا فرق في ذلك بين أيديولوجية
وأخرى وفريق دون آخر، وإن ارتباطها بواقع سياسي وايديولوجي
حالي لا ينفي البته عدم وجودها لدى اطراف تناضل أحياناً
في الحرب عليها وازالتها. فقد تصدر عن دعاة للحرية في
الظاهر أفكار استئصالية، لاعتقادهم بأن غيرهم يفتقر الى
جدارة نيل الحرية تحت ذريعة عدم تمثيل المصلحة العامة،
وأن غيرهم الاقدر على تمثيل المجتمع، وهذا ما يجعلهم شركاء
في الواحدية مع الذين يصمونهم بالواحدية.
|