الـدولـة السـلـطـانـيـة
يبدو أن التطورات الكبرى التي شهدتها الدول نحو التخفيف
من درجة السلطة وتمكين المجتمع من تحمّل مسؤولية إدارة
شؤونه العامة لم تعكس آثارها على دول الشرق، وخصوصاً الدول
التي كانت تنزع الى احتكار السلطة بصورة كاملة. السعودية
تمثل النموّذج الأبرز للدول الشرقية كما ينبىء المسمى
الذي أسبغ عليها باعتبارها دولة أسرة وليست دولة أمة.
وبصورة عامة، فقد ارتبطت أزمة الدولة القطرية المشرقية
بعقم تكويني، وبقيت تراوح في مربع الاسئلة الوجودية الاولى،
وبعد مرور أكثر من قرن على قيام الدولة القطرية بطابعها
المؤسسي لم تنجز هذه الدولة مهمة بناء الوطن فضلاً عن
تحقيق مشروع إقامة الامة بالمعنى القومي والديني. إن أقصى
ما حققته الدولة القطرية هو إنشاء سلطة مركزية مستبدة
فئوية، ضلّلت الاستقرار بالاستبداد والاستمرار بالاحتكار
الشامل للسلطة والثروة، وأصبح مصير الدولة القطرية مرتبطاً
بصورة شبه كاملة وحميمية بقدرتها على البطش وصناعة تحالفات
داخلية عمودية داخل السلطة وأفقية داخل المجتمع، لجهة
ترسيخ السلطة فحسب. ولم يعد خافياً طبيعة التحالفات القائمة
على الاستزلام والتواطؤات المصلحية بين مجموعة أفراد متنفّذين
داخل السلطة، بما نقل الاهتمام من مجال دولة الامة الى
مجال سلطة الفئة، وبالتالي تفجّرت الاسئلة الكبرى المرتبطة
بنشوء الدولة القطرية ودورها في المشروع القومي.
إن أولى الاسئلة التي طرحت في زمن المد القومي كانت
تدور حول هوية الدولة القطرية، وقد وصمت أغلب الدول ذات
المنزع القطري بالرجعية، وكان التنافر قائماً بين ماهو
لصيق بالمشروع القومي وبين ماهو حليف للمشروع الغربي.
وبطبيعة الحال، فإن جوهر المشكلة يكمن في تكوين الدولة
القطرية ذاتها، بصرف النظر عن الاشكال التي تلبّستها.
وكما هو شأن أغلب الدول القطرية المشرقية، فإن السعودية
نشأت على قاعدة بناء سلطة مركزية تستعير مشروعيتها ووجودها
من التراث السلطاني القديم، الذي ينزع الى تقديس السلطة
على حساب بناء الامة التي دخلت في حمى المناظرات الطوباوية،
وبالتالي نشأت الدولة لتكون سياجاً للسلطة المقصودة بذاتها.
لم تواجه الدولة السلطانية المشرقية تحديات تمسّ وجودها،
فقد وفّر النظام الدولي القديم مبررات بقائها ورسوخها،
كونها أصبحت جزءاً من دورة المصالح العالمية التي لا تتحقق
الا بوجود دول قادرة على تأمين استقرار في مناطق تتوافر
على مصادر حيوية للاقتصاديات العالمية، وخصوصاً الغربية.
وكان من أفدح أخطاء النظام الدولي توفيره غطاءً قانونياً
لسلطنات مستبدة تنعم بالبقاء على حساب متطلبات البناء
الدولتي الذي استكملت هياكله عبر منظومة مؤسساتية لتكون
في خدمة تعزيز السلطة، ولم تحقق الانتقال الموضوعي نحو
الدولة الوطنية.
بقيت النزعة التسلطية ناشطة بالرغم من تغيّر شكل السلطة،
فبسط الدولة سيادتها على الشعب والاقليم لم يكن شيئاً
آخر غير تمدد جبروت السلطة، بحيث أصبحت العلاقة بل التمييز
بين ماهو للدولة وما هو للسلطة مجهولاً، بسبب غياب الفاصلة
بينهما وانضواء أحدهما في الآخر. فقد راوحت الاشكالية
القديمة بين الدولة التسلطية والدولة الوطنية التعاقدية
مكانها فيما كان الجدل السياسي ينصرف بعيداً نحو تشييد
بنى نظرية دولة الامة بالمعنى الواسع. ولم يكن مفاجئاً
أن يخمد المشروع القومي العربي الذي تحوّل الى ذكرى مؤلمة
وإبناً غير شرعي يتنصّل منه الآباء الاوائل للمشروع القومي.
ولا ننس دور الحواضن القومية التي أخفقت في بناء نموذج
صالح لأن يكون قاعدة انطلاق لمشروع الدولة القومية، بل
تحوّلت في وقت لاحق الى مثال للنزعة القطرية الجانحة في
قطريتها، واستبدادها، وتخلّفها. وكانت حرب الخليج الثانية
في أغسطس 1991 بمثابة إعلان مراسيم دفن المشروع القومي
في مياه الخليج.
منحت حرب الخليج الثانية شهادة جدوى للدولة السلطانية
المشرقية، فيما لحق الخزي بالمشروع القومي، وتحوّلت النخبة
القومية الى جماعة معزولة هامشية مترهّلة، اضطر بعض أفرادها
للانخراط في مشاريع قطرية في بلدانهم. لا شك، أن تفوّق
الدولة القطرية على حساب المشروع القومي، لم يكن يعني
إنتصاراً تاريخياً لنموذج لا يزيده الاستمرار سوى تشويهاً
وإخفاقاً، وتأكد ذلك مع انطلاق حركة العولمة التي عصفت
برياحها العاتية أسس الدولة القطرية وأسقطت مبدأ سيادتها.
الانتقال الى الدولة الوطنية لم يتحقق بعد مرور ما
يربو عن ثمانية عقود على تأسيس الدولة السلطانية السعودية،
لأن تجهيزات الدولة الوطنية مفقودة، ولأن الغاية المنشودة
كانت بناء سلطة فئوية مطرّدة، تتمدد باستعمال إمكانيات
الدولة.
لا تختلف الدولة السلطانية السعودية عن السلطنات الناشئة
في حقب تاريخية بعيدة، كونها تنطلق من ذهنية واحدة تقوم
على تجميع السلطة وتركيزها في أقل عدد من الافراد يصل
احياناً الى فرد الحاكم ويتحدر الى عدد قليل من أفراد
أسرته وحاشيته المقرّبة. وبالرغم من أن الظروف التاريخية
أحدثت تبدّلات عميقة في الكيانات السياسية الا أنها لم
تسدل الستار على زمن السلطنات رغم فقدانها الصلاحية التاريخية،
فهي تستمد قدرتها في البقاء من خلال تثمير التناقضات في
الواقع الدولي القائم والفرص التاريخية القليلة، ولكنها
بالتأكيد لا تضمن ثباتها الدائم.
وحين تعجز النخبة الحاكمة عن تحويل القوة الى حق تجنح
الى تشويه الحق ذاته عن طريق تصميم أيديولوجية سلطانية
تتوسل بها لتحقيق غاياتها الخاصة، وتجري حينئذ عملية اختزال
الدولة في السلطة المطلوبة لذاتها، وسيبقى الانتقال من
الدولة السلطانية الى الدولة الوطنية متوقفاً على تبدّل
ذهنية الفئة الحاكمة وتالياً نظرتها الى الدولة باعتبارها
شأناً عاماً يرتبط بمجمل أفراد المجتمع وليس شأناً خاصاً
يقتصر على أهل الحكم.
|