الدولة اللاوطنية في زمن العولمة
السعودية وأسئلة المرحلة القادمة
لم يكن الانفتاح الثقافي والاعلامي المعلم الوحيد لمشروع
العولمة، وإن كان يمثّل أبرز تمظهراته، فثمة تبدّلات كبرى
تعصف حالياً بمنظومات قيمية وثقافية جنباً الى جنب التغييرات
الجوهرية في السياسات الاقتصادية والقانونية والتعليمية.
سؤال الهوية لم يعد قائماً، لأن الحديث عن الـ(أنا) والآخر
يصبح مشروعاً حين تكون حدود هذا الأنا وذاك الآخر واضحة
ومحددة، وهو ما تلغيه العولمة التي تجعل من الكرة الارضية
كتلة تفاعلية موحّدة.
صحيح أن العولمة تمثّل شكلاً متطوّراً للامبريالية،
وقد ينظر البعض اليها على أنها مرحلة متقدمة من الغزو
الثقافي، ولكنها في الوقت ذاته خيار دولي فيما لو تظافرت
جهود الدول على تحويلها الى مشروع تكامل عالمي. بالنسبة
لكثير من الدول، والسعودية من بينها، أن العولمة باتت
قدراً مفروضاً عليها من أجل المناورة في ظل الاختناقات
المحتملة على المستويين السياسي والاقتصادي، بالرغم من
أنها لم تحقق حتى الان ما يمكن وصفه اختراقاً.
ما تجدر الاشارة اليه أن العولمة كشفت الاختلالات البنيوية
الخطيرة في بنية الدولة السعودية، فمناخ العولمة يسمح
بتفجير الثنائيات الممتدة ثقافياً وسياسياً وتشريعياً.
فالمجتمع المعولم ينتقل ثقافياً واتصالياً ونفسياً خارج
فضائه التقليدي، ويتعاطى كل منتجات العولمة بل يهضمها
بوصفها ضرورات وجودية، وهو ما يهيء لانقلاب قيمي وثقافي
من أسفل. العولمة تنجح في تحقيق أغراضها بسهولة لأن الدولة
السعودية أخفقت في بناء وطن حين كان تشييد الوطن ممكناً،
وحين كان قطاع كبير من المجتمع يتطلع لهوية وطنية، وهنا
تكمن المفارقة بين تحديات العولمة التي تواجه الدول ذات
الصبغة الوطنية وبين الدول التي تفتقر الى تجهيزات وطنية:
ثقافة وطنية، عمل وطني مشترك، أهداف وطنية عليا.
سؤال مصيري تبعثه العولمة حول ثقافة المرحلة القادمة،
في ظل انكسارات متوالية للمشاريع الثقافية التقليدية.
الجدالات المتواترة حول الدولة الدينية والدولة المدنية،
ومناهج التعليم، ومرجعية المؤسسة الدينية، والمفاهيم الثقافية
الدينية السائدة، هي موضوعات جدلية حضيت باهتمام متقطّع
وضمن حدود الصالونات المغلقة، ولكنها اليوم تطرح في الهواء
الطلق، فثمة في الفضاء الثقافي العولمي ما ينادي بدفع
موضوعات الجدل الى السطح. فالنقد يسمح الآن بولوج أكثر
المناطق وعورة في مرجعياتنا الفكرية، لأننا نعيش انتقالاً
حقيقياً من زمن الى آخر، وهذا الانتقال يزيل رداء القداسة
عن منظومة ثقافية وقيمية كانت حاكمة لعقود من الزمن كجزء
من تركيبة الدولة السلطانية الواحدية.
إننا نعيش مرحلة ثنائيات بكل أبعادها وأشكالها، وستكون
مرشّحة لجدالية واسعة النطاق ستطال الثقافي والاجتماعي
والديني والتشريعي وصولاً الى السياسي. إنها بمعنى آخر
ستعيد تشكيل الدولة، ولكن لا تمنحها هوية خاصة، لأن مهمة
العولمة هدم الابنية القديمة واحلال مكانها بنى تتناسب
مع أهداف واستراتيجيات فوق قومية. مرحلة الثنائيات هذه
تعتبر انتقالية لتأمين العبور وتصميم الاعدادات لدولة
المستقبل المتناغمة في تكوينها واغراضها مع مشروع العولمة.
مايجري الآن في السعودية لا يشبه ما جرى في الثمانينيات
حين كانت تجهيزات الدولة السلطانية قادرة على تحييد تأثيرات
الثقافات المضادة، فكل أسلحة الحماية الشاملة وخصوصاً:
البطش الامني والردع الديني كانت تعمل بأقصى طاقتها، ولا
تشبه التسعينيات من حيث بقاء القشرة الايديولوجية للدولة
مصونة، بالرغم من الاختبارات الطفيفة التي خضعت لها من
الداخل، فيما كان المسعى ينزع نحو إعادة انتاج البنى القديمة
للدولة، والاسس الايديولوجية التي وفّرت لها مشروعية الوجود
والاستمرار، وإن كانت الدولة السلطانية رجّحت خيار القوة
في تحقيق مشروعيتها.
مع بداية الألفية الثالثة واجهت الدولة السلطانية اللاوطنية
في السعودية تحديات من نوع آخر، فلم يعد الاحتفاظ بمجمل
التجهيزات الضابطة لتماسكها واستمرارها محصّنة أمام حاجات
ملحّة يعبّر عنها زيادة منسوب الوعي السياسي، وتراخي قبضة
الدولة على مصادر التوجيه الثقافي بفعل تسونامي العولمة
الذي أنتج أنساقاً انقلابية في ثقافات الشعوب، وأصبحت
وسائل الاعلام الفضائي وشبكة الانترنت الفضاء الحر والمفتوح
الذي يتم عبره انتقال منظومة قيم جديدة، تتجاوز حدها المعرفي
التجريدي وتصل الى مستوى انتقال التجارب، وتبادل الخبرات
على مستوى الافراد والجماعات والدول أيضاً.
على شبكة الانترنت، كأحد منتجات العولمة، يتيح لقاء
الاشباح بأسماء وهمية فرصة التعبير بطلاقة عن مواقف سياسية
محظورة، ويستعمل روّاد تلك الشبكة أقصى ما يجول في أذهانهم
حول النظم السياسية في بلدانهم. وقد نجحوا في أحيان كثيرة
في إحداث تغييرات كبرى في اوضاع بلدانهم، كما يصدق ذلك
على مواقع حوارية مثل (طوى) و(دار الندوة) وغيرها. فقد
شكّلت هذه المواقع لقاء وطنياً حقيقياً يتحاور فيه أفراد
من مختلف الطيف السياسي والاجتماعي والايديولوجي حول قضايا
الاصلاح والتغيير في بلدانهم، وصنعوا من خلال هذه المواقع
نواة منتدى حوار وطني مفتوح بعيداً عن هيمنة الدولة، وقدّموا
رؤى في الدولة الوطنية المنشودة. وفي حقيقة الأمر، أن
النقاشات التي كانت تدور في هذه المواقع نجحت في تشخيص
أزمة الدولة من خلال تحديد مواطن العطب في بنيتها، وساهم
المشاركون في تلك المناقشات وفيهم من الاكاديميين والمثقفين
والخبراء، في بلورة رؤى إصلاحية متطورة.
وبالرغم من محاولات الدولة كبح تأثيرات العولمة الثقافية،
الا أن تيارها تصاعد بوتيرة عالية ولم يتوقف عند محطة
واحدة، فقد اخذت المناظرات الثقافية وعمليات المراجعة
والنقد لكل الاسس الفكرية التي ترتبط بالدولة السلطانية
أشكالاً متعددة، عبر منتديات ثقافية أصبحت جزءا من الحراك
السياسي الداخلي، وحوارات فكرية ممتدة ومتسلسلة بين تيارين
ديني وليبرالي بتموجاتها السياسية والاجتماعية، ونشاط
مطلبي متقطع تمثّل المرأة فيه وجهاً بارزاً فيه.
بالرغم من قرار الدولة السلطانية بإحداث تغييرات بطيئة
وتدريحية، الا أن حجم التغييرات وطبيعتها تبدو على درجة
كبيرة من الاهمية، حيث يشارك قطاع كبير من المجتمع في
عملية التحوّل، ويصبح الأمر الواقع أقوى من قرار الدولة
نفسه، فقد اتسع الفتق على الراتق ولم يعد بالامكان تطويق
التغيّرات الحاصلة على الساحة المحلية. ولذلك يكون القول
بأن التغييرات الكميّة تفضي الى تغييرات نوعية منطقياً
ودقيقاً في مثل هذه الحالة، وخصوصاً حين تعجز الدولة السلطانية
السعودية عن مواكبة حركة العولمة في بعدها الثقافي والسياسي.
ضرب التيار الاصلاحي في مارس 2004 لم يقبر خيارات الاصلاح
الاخرى، فقد عدّل كثير من الاصلاحيين خياراتهم مع تخفيض
الايقاع، واختاروا المجتمع بديلاً عن السلطة في تحقيق
هدف الاصلاح، وبالتالي أصبح التغيير من أسفل مأموناً لتوفير
قاعدة إصلاحية أكبر تتسع تدريجياً لتشمل الدولة.
إن ما خسرته الدولة في إخماد التيار الاصلاحي ليس مقتصراً
على مصداقيتها التي تعرّضت للتصدّع الحاد، وإنما في تقليص
خياراتها المستقبلية فيما لو أرادت إعادة صياغة الدولة
على قاعدة وطنية متجانسة مع متطلبات العولمة، وبالتالي
قضمت من رصيدها المستقبلي. ومن جهة أخرى، فإن ضرب التيار
الاصلاحي، سيلحق ضرراً فادحاً بخيارات مشروعيتها، التي
لن تقدر دعوى الحق التاريخي للعائلة المالكة والالتزام
بالعقيدة السلفية على توفيرها في ظل العولمة بما تتطلبه
من شروط تنسجم مع المنظومة الدستورية للدولة الحديثة،
أي الديمقراطية، وحقوق الانسان، والشفافية، والمسائلة،
والمساواة أمام القانون، واحترام حقوق المرأة والاقليات،
وتشجيع المؤسسات الاهلية اضافة الى تحرير الاقتصاد من
قبضة الدولة، وفتح آفاق الاستثمار وفق تشريعات مختلفة.
الدولة ليست راسخة الجذور لأنها ابتغت ان تكون إطاراً
خاوياً لسلطة، ولذلك فشلت كدولة في انتاج وطن وأمة، وتفشل
الآن كسلطة لأنها لم تعد تملك أدوات استقرارها واستمرارها
بالطرق التقليدية. وإذا كان هناك من كفل لهذه السلطة بالمشروعية
فهو الآن يخضع للمسائلة المفتوحة، في عملية نقد واسعة
النطاق، وأن الذين صادرت السلطة حقوقهم في عقود سابقة
يجهرون الآن بأصواتهم للمطالبة باستعادة حقوقهم المشروعة
التي حرموا منها بدون وجه حق.
ليس نجاح الدولة السلطانية السعودية متوقفاً على حجم
المداخيل المالية التي تجنيها من بيع النفط بأسعار عالية،
ما لم تدرك بدقة التحديات التي تنطوي عليها المرحلة القادمة
حيث تخترق رياح العولمة المجال الحيوي للدولة، فالمجتمع
ينظر الى الاخيرة باعتبارها قنطرة يمرّون فوقها نحو عولمة
منتظرة منذ أمد بعيد للخلاص من أشكال الهيمنة الثقافية
والسياسية والاجتماعية.
إن الخشية من إحداثات العولمة هي مشروعة، وأخطر ما
يمكن توقّعه يكمن في القطيعة المحتملة بين المجتمع والدولة
السلطانية، فيما لا مجال حينئذ لترميم العلاقة المختّلة
منذ زمن التأسيس. وقد نبهّت تجارب الدول السلطانية المشرقية
بأن سيرورة الدولة منذ انطلاقتها الاولى كانت تتجه نحو
المزيد من القطيعة بين الحاكم والمحكوم، وتقطيع أواصر
المجتمع من أجل احكام القبضة عليه، وليس توثيق الرابطة
بين فئات المجتمع والسلطة، فقد حشدت الطبقة الحاكمة حولها
شريحة من المنتفعين الذين استعاضت بهم عن غالبية المجتمع
في تشكيل قوة دفاعية للسلطة ومصدر حماية لوجودها، وانتهى
الحال الى عزل الأغلبية وتهميشها.
توفّر العولمة اليوم فرصة نهوض الاغلبيات المهمّشة
لتأخذ مواقعها المصادرة من قبل الدولة السلطانية، ومن
المرشح أن تشهد بلدان المشرق تجاذبات حادة، هكذا تخبر
حركات الاصلاح في المشرق العربي كما لحظنا ذلك بوضوح في
مصر، دول الخليج (البحرين والكويت والسعودية)، وعدد من
البلدان العربية ولكن بصورة أقل كما في سوريا.
فالتحركات الشعبية المدفوعة برغبة الاصلاح تخضع نموذج
الدولة السلطانية المشرقية بكامل حمولتها وتجهيزاتها للمحاكمة
المفتوحة، وبالرغم من الممانعة العنيدة من رعاة هذه الدول
في تشويه أو كبح المطالب الاصلاحية أو حتى رفضها بالمطلق
الا أن إرادة التغيير باتت حازمة في تغيير تركيبة الدولة
ووجها السلطاني الاستبدادي.
لا شك أن ثمة تقليصاً لخيارات الدولة السلطانية السعودية
في إنتاج دولة وطنية مكتملة النمو، وبشروط مقبولة دولياً،
ولكن ما يجب البحث فيه وعنه هو سبل خروجها من مأزق وجودها
كدولة سلطانية لا تنسجم مع واقع العولمة ومتطلباتها.
قد يقال بأن الدولة السلطانية قادرة على تكييف نفسها
مع تحديات من خارجها طالما لم تطل أسس الدولة، وبالتالي
فإن العيش مع متناقضات يبدو ممكناً بعيداً عن المساس بجوهر
السلطة، ولكن قدرة التكييف تضعف تدريجياً حين تكون الدولة
عاجزة عن تطوير خيارات بديلة، أو تكون القضية المراد التكيّف
معها تتناقض جوهرياً مع تركيبة الدولة كأن تكون متعلقة
بالسيادة، والمشروعية، والهوية، وصولاً الى تكوينها.
|