السيد الراحل محمد علوي مالكي ينبذه مطلقاً وأبو زيد
يعتبره مشروطاً
الموقف الشرعي من التصنيف
تفاوتت الرؤية الشرعية في الموقف من التصنيف بين أقطاب
المدارس الفكرية داخل المملكة، وهو يعكس حدّي التشدد والاعتدال
بينها، كما يكشف عن منبع التصنيف ومصدر رواجه في المجتمع،
وبالتالي يمكن فهم الجهة المقصودة في دعوة الملك عبد الله
بوقف الممارسات التصنيفية، خصوصاً وأن هناك من يحاول خلط
الأوراق في ظل المشكلات التي يتم تداول النقاش بشأنها
في وسائل الاعلام. ونقدّم هنا نموذجين من الموقف الشرعي
من التصنيف أحدهما للعالم السلفي وعضوء هيئة كبار العلماء
الشيخ بكر عبد الله أبو زيد والآخر لعالم الحجاز البارز
السيد الراحل محمد علوي مالكي.
رؤية وهابيّة
ذكر عضو هيئة كبار العلماء في السعودية الشيخ بكر عبدالله
أبو زيد في كتابه المعنون بـ (تصنيف الناس بين الظن واليقين):
(أقول عن هذه الظاهرة ـ تصنيف الناس):
إن كشف الأهواء، والبدع المضلة، ونقد المقالات المخالفة
للكتاب، والسنة، وتعرية الدعاة إليها، وهجرهم، وتحذير
الناس منهم، وإقصائهم، والبراءة من فعلاتهم، سنّة ماضية
في تاريخ المسلمين في إطار أهل السنة، معتمدين شرطي النقد:
العلم، وسلامة القصد.
وجوب العلم بثبوت البينة الشرعية، والأدلة اليقينية
على المدعي به في مواجهة أهل الهوى والبدعة، ودعاة الضلالة
والفتنة، وإلا كان الناقد ممن يقف ما ليس له به علم، وهذا
عين البهتان والإثم.
ويرون بالاتفاق أن هذا الواجب من تمام النصح لله ولرسوله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وهذا
شرط القصد لوجه الله تعالى؛ وإلا كان الناقد بمنزلة من
يقاتل حمية ورياء، وهو من مدارك الشرك في القصد.
وهذا من الوضوح بمكان مكين لمن نظر في نصوص الوحيين
الشريفين، وسير الأئمة الهداة في العلم والدين.
ولا يلتبس هذا الأصل الإسلامي بما تراه مع بلج الصبح،
في غسق الليل من ظهور ضمير أسود، وافد من كل فج استعبد
نفوساً بضراوة، أراه: 'تصنيف الناسب وظاهرة عجيب نفوذها
هي: (رمز الجراحين) أو: (أمرض التشكيك وعدم الثقة) حمله
فئام غلاظ من الناس يعبدون الله على حرف، فألقوا جلباب
الحياء، وشغلوا به أغراراً التبس عليهم الأمر فضلُّوا،
وأضلِّوا، فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل، وتدثَّروا
بشهوة التجريح، ونسج الأحاديث، والتعلّق بخيوط الأوهام،
فبهذه الوسائل ركبوا لج التصنيف للآخرين، للتشهير، والتنفير،
والصدّ عن سواء السبيل.
ومن هذا المنطلق الواهي، غمسوا ألسنتهم في ركام من
الأوهام والآثام، ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم، والتشكيك
فيهم، وخدشهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم، والتشهير
بهم، وتوزيعهم أشتاتاً وعزين:
في عقائدهم، وسلوكهم، ودواخل أعمالهم، وخلجات قلوبهم،
وتفسير مقاصدهم، ونياتهم... كل ذلك، وأضعاف ذلك مما هنالك
من الويلات، يجري على طرفي التصنيف، الديني، واللاديني.
فترى وتسمع رمي ذاك، أو هذا بأنه: خارجي، معتزلي، أشعري،
طرقي، إخواني. تبليغي، مقلد متعصب، مُتطرف، متزمت، رجعي،
أصولي. وفي السلوك: مداهن، مراء، من علماء السلطان، من
علماء الوضوء والغسل.
ومن طرف لا ديني: ماسوني، علماني، شيوعي، اشتراكي،
بعثي، قومي، عميل. وإن نقَّبوا في البلاد، وفتَّشوا عنه
العباد، ولم يجدوا عليه أي عثرة، أو زلة، تصيدوا له العثرات،
وأوجدوا له الزلاّت، مبنية على شبه واهية، وألفاظ محتملة.
أما إن أفلست جهودهم من كل هذا رموه بالأخرى فقالوا: متستر،
محايد، إلى غير ذلك من ضروب تطاول سعاة الفتنة والتفرق،
وتمزيق الشمل والتقطع.
ويضيف أبو زيد:
وقد جرَّت هذه الظاهرة إلى الهلكة في ظاهرة أخرى من
كثرة التساؤلات المتجنية ـ مع بسمة خبيثة ـ عن فلان، وعلان،
والإيغال بالدخول في نيته، وقصده، فإذا رأوا 'شيخاًب ثنى
ركبتيه للدرس، ولم يجدوا عليه أي ملحظ، دخلوا في نيته،
وكيفوا حاله: ليبني نفسه، لسان حاله يقول: أنا ابن من
فاعرفوني، ليتقمص شخصية الكبار، يترصد الزعامة، وإن ترفَّقوا،
وغلبهم الورع، قالوا: محترف بالعلم. وإن تورع 'الجراحب
عن الجرح بالعبارة، أو استنفدها، أو أراد ما هو أكثر إيغالاً
بالجرح، سلك طريق الجرح بالإشارة أو الحركة بما يكون أخبث،
وأكثر إقذاعاً. مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه،
والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه،
والتغير، والتضجر. أو يسأل عنه، فيشير إلى فمه، أو لسانه
معبراً عن أنه: كذاب، أو بذيء. ومثل: تقليب اليد، أو نفضها.
إلى غير ذلك من أساليب التوهين بالإشارة، أو التحريك.
ألا شلَّت تلك اليمين عند حركة التوهين ظلماً، وصدعت تلك
الجبين عن تجعيدها للتوهين ظلماً.
رؤية السيد علوي مالكي
أما العالم الراحل السيد محمد علوي مالكي فكان له موقف
صارم وحاسم من المصنّفين حيث عدّهم من شرار الخلق والخليقة،
وذكر السيد المالكي رحمه الله في كتابه: (التحذير من المجازفة
بالتكفير): وفي باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر: إعلم
أن كراهة المسلمين ومقاطعتهم ومدابرتهم محرمة، وان سباب
المسلم فسوقاً وقتاله كفراً إذا استحل. وكفى رادعاً في
هذا الباب حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في سريته
إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام، فلما انتهى إليهم تلقوه،
فقال لهم: أسلموا، فقالوا: لا والله، ما بعد وضع السلاح
إلا القتل، ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك، قال خالد: فلا
أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم وتفرقت بقية
القوم. وفي رواية: انتهى خالد إلى القوم فتلقوه، فقال
لهم: ما أنتم؟ أي: أمسلمون أم كفار؟ قالوا: مسلمون، قد
صلينا وصدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنينا المساجد
في ساحتنا وأذنا فيها.
وفي لفظ: لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا
صبأنا، قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين
قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح،
قال: فضعوا السلاح فوضعوه، فقال: استأسروا، فأمر بعضهم
فكتف بعضاً وفرقهم في أصحابه، فلما كان السحر نادى منادي
خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتل بنو سليم من كان
معهم وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وأرسلوا
أسراهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل خالد،
قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، قال ذلك مرتين.
وقد يقال: إن خالداً فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة
وعدم الإنقياد إلى الإسلام، وإنما أنكر عليه صلى الله
عليه وسلم العجلة وعدم التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد
من قولهم صبأنا، فخالد معذور كيف وقد قال عليه الصلاة
والسلام: (نعم عبدالله أخو العشيرة خالد بن الوليد سيف
من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين).
وكذلك قصة أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه فيما
رواه عنه البخاري عن أبي ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد
يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة،
فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً
منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفّ الأنصاري
عنه، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى
الله عليه وسلم وآله وسلم، فقال: يا أسامة! أقتلته بعد
ما قال لا إله إلا الله، قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها
حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت ذلك اليوم. وفي رواية أخرى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا شققت على
قلبه، فتعلم أصادق أم كاذب؟).
قال أسامة: لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله إلا الله.
وقد سئل علي ـ رضي الله عنه ـ عن المخالفين له من الفرق
أكفار هم؟ قال: لا، إنهم من الكفر فروا، فقيل: أمنافقون
هم؟ فقال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً،
وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، فقيل: أي شيء هم؟ قال: قوم
أصابتهم الفتنة فعموا وصموا.
وفي باب (أقوال السلف وبعض العلماء في التحذير من التكفير)
يقول السيد رحمه الله:
روى أبو يعلي والطبراني في 'الكبيب أن رجلاً سأل جابراً
رضي الله عنه هل كنتم تدعون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟
قال: معاذ الله، ففزع لذلك. قال: هل كنتم تدعون أحداً
منهم كافراً؟ قال: لا. وروى أبو يعلي عن يزيد الرقاشي
أنه قال لأنس بن مالك: يا أبا حمزة! إن ناساً يشهدون علينا
بالكفر والشرك قال: أولئك شر الخلق والخليقة.
قال الإمام أحمد: إن الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب
والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا
حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم
ما حرمه الله ورسوله، وتصديق ما أخبر الله به ورسوله.
وقال الطحاوي ـ رحمه الله ـ هم أهل القبلة: ولا نشهد
عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من
ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى، وذلك لأنا قد أمرنا
بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به
من علم.
وقال الغزالي ـ رحمه الله ـ والذي ينبغي أن يميل المحصل
إليه: الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة
الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول
(لا إله إلا الله محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك
ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم
مسلم.
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: الكفر من الأحكام الشرعية،
وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل يكون كافراً، ولو
قدر أنه جحد بعض صرائح العقول، لم يحكم بكفره حتى يكون
قوله كفراً في الشريعة.
وقال أبوبطين: وبالجملة؛ فيجب على من نصح نفسه أن لا
يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر
من إخراج رجل من الإسلام لمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن
إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين،
وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها، بل حكمها في الجملة
أظهر أحكام الدين، فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع.
فاتضح لنا مما سبق من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة
ومن سار على طريق السلف من العلماء المتقدمين والمتأخرين،
أن الحكم على المسلم بالخروج عن دين الإسلام، أو الدخول
في الكفر لا ينبغي أن يقدم عليه مسلم يؤمن بالله واليوم
الآخر إلا ببرهان أوضح من شمس النهار. وحتى من ثبت لنا
كفره ببرهان واضح، فرأينا منه كفراً بواحاً، فإنا نحكم
عليه بالكفر مع احتياط وتحرر في اللفظ، فلا نتعدى الإطلاق
الذي أطلقه الكتاب والسنة، ولا نتعدى منهج السلف في التكفير،
فقد كانوا يعرضون ما ظهر من الناس على ما جاء في الكتاب
والسنة، فإن وجدوا فيهما إطلاق الكفرة أطلقوه، وإن لم
يجدوا توقفوا وحكموا على القائل أو الفاعل بالخطأ والذنب
العظيم، ثم إنه يستفسر هذا القائل أو الفاعل عن مراده،
فإن اتضح أنه يريد الكفر حكم عليه به، وإلا اكتفى بإطلاق
الخطأ أو المخالفة أو الفسق عليه دون التكفير الاعتقادي.
|