تركة الماضي
إعادة (بطركة) السلطة الدينية
المصاهرة بين العقيدة السلفية التقليدية والفكر الحركي
الاسلامي أنتجت سلطات دينية فرعية، ورموز شعبية قادرة
على تعبئة الشارع عبر توظيف الموروث الديني المسكوب في
قالب أيديولوجي.. انعقدت هذه المصاهرة ضمن شروط تاريخية
مؤاتية وتبدّلات داخلية وخارجية سياسية وفكرية ساهمت في
تنضيج ظروف المصاهرة.
وقد أثار تصّدع النظام المراتبي السلفي الرسمي في بداية
التسعينيات من القرن الماضي قضية مستقبل النظام الديني
القديم مع بروز طبقة جديدة ناشطة ناضلت ببسالة شديدة نحو
تأسيس نظام مراتبي فرعي داخل المجتمع االسلفي، في مسعى
لصنع سلطة دينية موازية تضطلع بدور قيادي وتوجيهي في مقابل
طبقة العلماء التقليديين الذين تآكلت مصادر مشروعيتهم
ونفوذهم.
عملية الانفصال التي قادها عدد من أفراد الطبقة الثانية
في النظام المراتبي الديني بعثت أسئلة مركزية حول أسباب
الخلخلة الخطيرة التي أصابت التحالف الاستراتيجي بين العائلة
المالكة والمؤسسة الدينية، خصوصاً وأن هذا التحالف استطاع
لعقود طويلة أن يحافظ على تماسكه في ظروف بالغة الحرج
ونجح الطرفان في تجاوزها عبر التوافق الضمني على توفير
آليات المساندة المتبادلة. ولكن ثمة تطوّرات حصلت منذ
بداية الثمانينات ساهمت في تنشئة إتجاه جديد داخل المؤسسة
الدينية الرسمية أعلن عن نفسه خلال أزمة احتلال العراق
للكويت في أغسطس 1990.
الانشقاق الحاصل في المؤسسة الدينية في تلك الفترة
لم يكن، بالتأكيد، وليد أو رد فعل على متغيّر سياسي آني،
بل هو تعبير عن إشكالية عميقة ترتد الى التعارض بين مشروعي
الدولة والدين. فما أفصح عنه الاتجاه السلفي الصحوي في
خطابه الاحتجاجي كان بالغ الوضوح في تعبيره عن رؤية شاملة
حول مشروع الدولة الدينية، وإن جاءت رؤيته سلبية، في هيئة
فاتورة حساب طويلة حول المخالفات الشرعية في أنظمة وسياسات
وأجهزة الدولة السعودية.
لقد ضبط التيار السلفي الصحوي الدولة متلبّسة بجرمها
العلماني، متمسكاً بخيار العودة بها الى المجال الديني،
واستبدال ردائها ومكوّناتها. لم يكن هذا التيار معنياً
البته بأصل نشأة وتكوين وهوية الدولة، بما هي دولة تميل،
في نهاية المطاف ومهما جرت محاولات كبح مسارها التاريخي
والموضوعي، الى استعادة هويتها الاصلية العلمانية ومن
الطبيعي أن يُحدِث هذا التجاذب بداية افتراق بين الدولة
والدين.
كان الاعتقاد بان وجود مؤسسة دينية داخل الجهاز الاداري
للدولة سيحقن الاخيرة بمصل وقائي يحصّنها أمام عدوى العلمنة،
الا أن هذا الاجراء لم يوفّر نظام حماية شامل للدولة،
التي تظل مشدودة نحو وظائفها الاصلية. وكان لظروف التحول
الداخلي الاقتصادي والفكري والاجتماعي وكذلك الاوضاع الخارجية
دورها النافذ لجهة تحرير الدولة من القوى الضاغطة عليها
والمعيقة لسيرورتها.
في تجربة الدولة السعودية، كان نجاح التوفيق والتكييف
الذي حققته المؤسستان السياسية والدينية متوقفاً على وجود
علماء نافذين يضطلعون بمهمة تبرير سياسات الدولة بما فيها
المتعارضة مع النص السلفي. وقد برعت طبقة العلماء التقليديين
في توفير الغطاء الشرعي للسياسات غير الشرعية للدولة على
مدى عقود طويلة، وكانت هذه الطبقة قادرة على (تأجيل الخروج
على الدولة).
وبحسب الرؤية الشرعية للعلماء التقليديين، فإن دورهم
يظل مقتصراً على شرعنة الدولة دون أن يهبها ذلك شيكاً
مفتوحاً، وبإمكان المرء العثور على أمثلة حول مجاهرة العلماء
بالاعتراض على الاخطاء الشرعية الجليّة والتي غالباً ما
ترتبط بقضايا ذات طابع معاملاتي (التشريعات التجارية والاجتماعية)،
وهذه المجاهرة لا تصل الى حد تفتيت المعادلة الدقيقة للموقف
المتوازن الذي يضبط العلاقة مع السلطة، فقد أصرّوا على
موقف ثابت حيال خيار الخروج على الدولة، واعتبروا أخطاءها،
مهما بلغت مستوى فداحتها، محصّنة أمام أي محاولة لاطاحتها،
واختاروا تصحيح مسار الدولة وإبقائها ضمن خط الدين بالقدر
الممكن والمتاح، وأن التوسّل بمبدأ المناصحة هو الخيار
النهائي المعتمد مع الدولة، تأسيساً على أن الفتنة المحتملة
والناشئة عن الخروج على الدولة أفدح في الأثر وحتى لا
يصدق المثل القائل كمن (يبني قصراً ويهدم مصراً).
مشكلة الطبقة الدينية التقليدية العليا تكمن في كونها
تفتقر الى مستند رصين نقلي وعقلي في مسألة معارضة خيار
الخروج على الدولة، خصوصاً مع موجود كتلة من النصوص السلفية
الملتهبة الداعية لمجاهدة المستحلّ لحرام الله والمخالف
جهاراً لأحكام الشريعة والمحرّضة على نزع يد الطاعة من
والخروج على الظالم، سيما مع مرور فترة طويلة من المناصحة
التي لم تؤد الى تصحيح مسار الدولة وإعادتها الى خط الشريعة،
بل عظم انحرافها وتفاقم فسادها، بحسب رؤية الشيخ سفر الحوالي،
أحد رموز التيار الصحوي.
لقد أفضت النزعة التسويغية لدى العلماء التقليديين
الكبار الى استنزاف رأسمالهم الشعبي والروحي، وفتح الطريق
أمام شخصيات دينية من الطبقات الدنيا للصعود واعتلاء منابر
التعبئة الدينية التي حشدت وحصدت قطاعاً كبيراً من المجتمع
السلفي. ولابد من الاشارة الى أن ميل العلماء الكبار الى
المحافظة والمهادنة لم يكن تكوينياً بالضرورة، ففي تجارب
بعضهم يظهر أنهم تمرّدوا في مراحل مبكرة من أعمارهم ولكن
ضمن دوائر محدودة وإزاء قضايا مختلفة (قد تكون اليوم مرفوضة
من المؤسسة الدينية نفسها)، وأن نزوعهم نحو الدعّة والمسالمة
مع السلطة السياسية قد تمت مع تقدّمهم في العمر أو لخضوعهم
لعملية ترويض مكثّفة من قبل أهل الحكم أفضت الى تبنيهم
مواقف محافظة.
المثال البارز هنا هو المفتي السابق الشيخ عبد العزيز
بن باز الذي افتى حين كان طالب علم شاب بفتوى كادت أن
تودي بحياته وقد هدده الملك عبد العزيز بالقتل حينذاك،
ولكنه انتهى تقليدياً ومهادناً للسلطة، واستعملته الاخيرة
في مرحلة بزوع التيار الصحوي في التسعينيات كأداة لترويض
وكبح جماح رموز التيار، حيث كان يجتمع ويبعث الموفدين
من قبله لتحذيرهم من الجهر بمعارضة الدولة والخروج عليها.
ويدرك مشايخ الصحوة الدور المرسوم للعلماء التقليديين
في مثل هذه الحوادث، وقد سبق جهيمان أن كتب في رسالة (الامارة
والبيعة والطاعة، وكشف تلبيس الحكام عن طلبة العلم والعوام)
ما نصه: (وتجد حكمهم وسلطانهم ـ أي آل سعود ـ قائماً على
ثلاث قواعد من معاملة أهل العلم والدين: إن وافقتهم وسكتّ
عن باطلهم قرّبوك واتخذوك حجة على من خالفهم، وإن سكتّ
عنهم سكتوا عنك وربما زادوك وأرسلوا لك الهدايا، وإن خالفتهم
قتلوك بشبهة يسكتون بها الأرانب ـ أي الشعب أو الرعية
ـ فيقولون هو خارجي).
التيار السلفي الصحوي، الذي تدور حوله الاتهامات في
هذه الفترة أصبح وسيطاً كيميائياً لتفاعلات أيديولوجية
وسياسية واجتماعية أفضت فيما بعد الى ترويج ثقافة العنف،
واستطاع بنشاطيته اللافتة الحلول في جوف الطبقة العليا
للمؤسسة الدينية، حتى بات رموز التيار الصحوي، بعد الانهاك
الشديد الذي أصاب أفراد الطبقة القديمة أو بحسب وصف الشيخ
محسن العواجي (الديناصورات)، هم الامناء الحقيقيين على
العقيدة السلفية، ولكونهم متحررين جزئياً من ضغط معادلة
المصالح المملية لالتزمات متبادلة بينهم وبين الحكومة،
كانوا أقدر على إعلان حالة التمرد على الدولة والمؤسسة
الدينية معاً، وشكّلوا، لاحقاً، سلطة دينية بديلة وقدّموا
رؤويتهم في مشروع الدولة الدينية.
في واقع الأمر، أن التيار السلفي الصحوي، حطّم هيبة
الطبقة التقليدية لتحصّنه داخل النص السلفي النقي، ولقدرتها
على الحشد والتعبئة وسهولة كشف عيوب الدولة وأخطائها،
ولا ننس عجز الطبقة القديمة عن تجديد ذاتها، واخفاقها
في ازالة التناقض الفاضح بين النص الديني الذي تعتنقه
والموقف البراغماتي الذي تسلكه، بما جردها من جزء جوهري
من مصداقيتها.
واجمالاً، استطاع التيار السلفي الصحوي تشييد عالم
جديد، مستثمراً الظروف المحيطة والمنجزات القائمة حتى
المعارضة له. فرغم خلافه المبدئي مع الثورة الايرانية،
استلهم التيار الصحوي منها الرؤية الايديولوجية المركزية
حول دور العلماء السياسي وقيادة الدولة، وهو ما نبّه اليه
الدكتور غازي القصيبي في كتابه (حتى لا تكون فتنة)، وقد
لحظنا أيضاً استمرارية هذا التأثير في كتابات رموز الصحوية
مؤخراً مثل الشيخ ناصر العمر والشيخ البراك وغيرهما.
مصدر قوة التيار السلفي الصحوي يتمثل في انفتاحه على
أدبيات الاسلام السياسي، ما منحه فرصة العثور على إجابات
عن اسئلة مرتبطة بالمشروع السلفي وبالعلاقة مع الدولة،
فبدأت مصطلحات جديدة مستعارة من أدبيات حركية خارجية تروج
في الكتابات السلفية الجديدة، بل إن قائمة الموضوعات المتداولة
تبدّلت فبعد ان كانت مرتبطة بقضايا تاريخية أو فقهية موغلة
في القدم، بات المجتمع السلفي يستقبل كتابات حول ما اصطلح
عليه بـ (فقه الواقع).
تجدر الاشارة الى أن التيار الصحوي لم يحتفظ ببنية
صلبة فقد ظل على الدوام مرشَّحاً لتشققات فرعية، فقد سنّ
هو مبدأ الانشقاق ثم لحقته تبعاته، فصار الزمن بتحولاته
كفيل بتوليد خطوط أخرى بما فيها خط العنف المنشق من باطنه.
من هنا يمكن الزعم بأن تعدد مصادر الفتوى في المجتمع
السلفي يعكس تعدد الانشقاقات، مع ضرورة الاشارة الى أن
النص السلفي لا يساعد على بناء سلطة افتائية موحّدة، لأنه
يمنع حصر الاجتهاد في جهة واحدة، بل يفتح الباب واسعاً،
وأن تأخُّر بروز الظواهر الانشقاقية في النظام الديني
السلفي يعود الى أسباب معروفة منها: قلة عدد طلبة العلم
في العقود الماضية (وبصورة محددة ما قبل الثمانينات من
القرن الماضي)، وانغلاق المجتمع على ذاته وعلى العالم
الخارجي، وبساطة الموضوعات الاشكالية، وغياب الحراك الثقافي.
ولكن زوال تلك الاسباب أدى الى إحداث تبدلات عميقة
في البناء الديني السلفي، فقد مدّ الانفتاح على العالم
الخارجي أفق وسلطة عالم الدين السلفي حتى بات يفتي في
شؤون الكون، كما تضاعفت اعداد طلبة العلم والمشايخ بوتيرة
سريعة، فطبقاً لبعض التقديرات فإن 4 من كل 6 من كل شهادات
الدكتوراة في السعودية هي في قسم الدراسات الاسلامية.
ويمكن تلخيص أسباب نشأة سلطات دينية فرعية أو بديلة
على النحو التالي:
الاول: عدم مواكبة السلطة الدينية التقليدية للزمن
وحاجاته وانشغالها شبه التام بموضوعات قديمة غير صالحة
لزماننا. وقد تحدث الشيخ الصحوي محسن العواجي عن هذه المشكلة
في سياق نقده للمؤسسة الدينية الوهابية، حيث وصف في مقابلة
مع (إيلاف) في الحادي عشر من يوليو علماء المؤسسة الدينية
بأنهم: (مجموعة من كبار السن الذين أخفقوا كثيراً في تشخيص
القضايا ذات الطابع العولمي، مما تسبب بالكثير من الحرج
للمثقفين الاسلاميين).
الثاني: التصاق الطبقة التقليدية الشديد بالدولة وتحوّلها
الى جهة تبرير ومصدر مشروعية للدولة بكل أخطائها، الى
مستوى غير محتمل مع انكشاف الواقع الفعلي لعيوب الدولة
ونقاط ضعفها واخفاقاتها، بما لا يمكن تبريره شرعياً.
الثالث: قلة وضعف تأثير أدوات تواصل الطبقة القديمة
مع الجمهور في مقابل منظومة فاعلة من الادوات التي يديرها
التيار الصحوي الذي كان له حضور كثيف وطاغٍ بين الجمهور.
السبب الرابع: فقدان الكاريزما، خصوصاً بعد موت العلماء
الكبار الذين كانت لديهم سلطة روحية ونفوذ على الشارع
السلفي. ولذلك، نشأت كاريزمات دينية بزي عصري يتناسب ومنسوب
الوعي الحركي الاسلامي العام، وهنا بدأت عملية إعادة بطركة
المجتمع الديني السلفي.
وقد باتت الدولة تدرك حجم وقوة ونفوذ التيار الصحوي
في الشارع، وإليه لجأت في لجم العنف، ومنه اختارت أعضاء
(لجنة المناصحة) لإقناع أفراد الجماعات المسلّحة بالتخلي
عن السلاح، ويبقى السؤال كيف ستكون علاقته معه في المرحلة
القادمة خصوصاً بعد أن أصبح جزءاً من معادلة الصراع على
السلطة، وهل سيمهّد السبيل أمامه لوراثة الطبقة القديمة.
|