مسلسل طاش مثالاً
التيار السلفي يخشى الإقصاء!!
يبدو أن قرار فرض قيود صارمة على مصادر الفتيا لم تفلح،
فتوحيد مصدر الافتاء بات حلماً بعيد المنال، طالما أن
السلطة الدينية منقسمة على قاعدة فتح باب الاجتهاد في
الاحكام داخل المدرسة السلفية، التي تسمح بنمو أجيال متعددة
من رجال الدين المخوّلين بحيازة سلطة إفتائية وإن لم تكن
غير ملزمة، بفعل ارتباط المدرسة بنظام تراتبي تقليدي،
وإن فقد هذا النظام قدراً كبيراً من زخمه الاجتماعي والديني
بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، أي مع صعود الطبقة الثانية
في التراتبية الدينية السلفية الى مركز الصدارة في مجال
النفوذ الروحي والتأثير الاجتماعي.
حاولت الحكومة تطويق الانهدام الحاصل في النظام المراتبي
السلفي عبر توحيد مصدر الافتاء، خصوصاً بعد صدور فتاوى
تهدد وحدة المجتمع من جهة ومشروعية السلطة من جهة ثانية.
في المقابل، يبدي عدد كبير من المشايخ إصراراً شديداً
على الاضطلاع بمهمة الافتاء في الموضوعات الخلافية والمثيرة
للجدل على الساحة المحلية.
ويبدو مسلسل (طاش ما طاش) محوراً سجالياً بارزاً في
التجاذبات الداخلية على قاعدة اجتماعية وايديولوجية وأيضاً
سياسية. وينظر بعض المشايخ الى المسلسل التلفزيوني لا
بوصفه كوميديا إجتماعية نقدية، وإنما باعتباره أحدث أدوات
الحملة ضد التقليدية الدينية المحافظة، وهذا ما يجعل حصر
سلطة الافتاء بعلماء المؤسسة الدينية الرسمية الذين ينظر
إليهم كعلماء بلاط، وإن كانت لهم تحفظاتهم حيال هذا المسلسل
الكوميدي على وجه التحديد، أمراً غير مقبول.
وكما في الأعوام السابقة، فقد انبرى عدد المشايخ السلفيين
في إصدار فتاوى تحريمية ضد مسلسل (طاش ما طاش) تمثيلاً
ومشاهدة. فقد أصدر الشيخ المثير للجدل عبد الرحمن بن ناصر
البراك، وهو من الشيوخ البارزين في المدرسة السلفية المحلية،
فتوى مطوّلة بعنوان (الى المعجبين بمسلسل طاش ما طاش)
شمل أيضاً المسلسلات التلفزيونية مؤكداً فيها عقيدته بما
نصه (وإني لأدين لله بتحريم تمثيل ومشاهدة هذه المسلسلات
والتي منها « طاش ما طاش). وكما هي العادة أيضاً في هذا
المسلسل وفي غيره من القضايا، أن البراك، الكفيف البصر،
لم يشاهد المسلسل وإنما أفتى اعتماداً على ما نقله الآخرون
على قاعدة (نقل لي ممن أثق به)، حيث عبّر عن موقفه بما
نصه (ومن هذا الباطل المسلسل المعروف بـ « طاش ما طاش»
وقد أفاد المتابعون له لرصد مضامين حلقاته أنه يشتمل على
أنواع من المنكرات).
ووجّه البراك نقداً شديداً لمنتجي وممثلي المسلسلات
التلفزيونية التي تبثها القنوات العربية بصورة عامة معتبراً
(أن كل ما يبثه الإعلام من هذه المسلسلات لا يخلو من باطل
بدرجات متفاوتة، من اللهو الجالب لغفلة والصاد عن ذكر
الله وعن الصلاة الى تزيين الفواحس والمنكرات، والى الكفر
بالله والاستهزاء بآياته وأنبيائه وأوليائه وبأهل طاعته).
وتثير انتقادات البراك أسئلة حول التوقيت، حيث يتم
استعمال مسلسل (طاش ما طاش) الذي يتضمن حلقات ذات طابع
نقدي ضد ممارسات بعض المؤسسات الدينية، الامر الذي يصعب
إدراجها ضمن المسلسلات الداعية الى (نشر الفساد وتحقيق
أهداف الكفار في المسلمين)، كما تثير دعوته للمعجبين بالمسلسل
والمتابعين له (أن يتوبوا إلى الله من الافتتان به ومتابعته)
تحفظاً شديداً لما يبطن من حكم بالخروج عن الدين، وارتكاب
موبقة كبيرة.
الفتوى التي نشرها موقع (نور الاسلام) على شبكة الانترنت
بإشراف الشيخ محمد الهبدان في الخامس من رمضان، حرّضت
بعض المتشددين على إطلاق تهديدات صريحة بالقتل والاغتيال
ضد أعضاء فريق المسلسل (طاش ما طاش)، منها ما اشتمل على
وعد للشيخ البراك بتنفيذ عملية انتحارية ضد ممثلي مسلسل
طاش.
ولم يغفل الشيخ البراك توجيه النصيحة لولاة الأمر،
الذين يحاول استجلابهم الى معركته ضد الذين ينقدون الممارسة
الدينية السلفية، فقد رصف فتواه بكل مبررات الحضور الكثيف
للسلطة في هذه المعركة، حيث اعتبر المسلسل مفسدة للدين
والاخلاق واعتبره مجرد قناة غير شرعية لكسب المال والربح
الحرام، بل والأشد خطورة أن هذا المسلسل، وغيره الكثير
بحسب البراك، يسهم في نشر الفساد (وتحقيق أهداف الكفار
في المسلمين فعليهم من وزر الإفساد والإضلال بحسب تسببهم
و تأثيرهم).
ينتقد البراك الوظيفة التي يقوم بها مسلسل طاش ما طاش
كونه يعالج مشاكل إجتماعية، ويقول بأنه لا يخرج عن هدفين:
إمتاع المشاهدين بما تحويه من اللهو و اللعب والباطل،
والهدف الآخر: نشر أفكار وأخلاق تساير وتوافق التوجهات
المنحرفة. مادام هكذا هي أهداف المسلسل فلم لا يكون تخصيص
حلقة لعرض سلوك بعض المؤسسات الدينية للنقد بمثابة نوايا
مبيّتة للنيل من العلماء والصحلاء وإظهار الاعجاب بالكفار!
يبدو أن التباين الفكري داخل التيار السلفي حيال موضوع
مسلسل طاش شبه مفقود، شأن قلة أخرى من الموضوعات المرتبطة
بالتيار الليبرالي والحداثي والمرأة. يبقى بين المعتدلين
من رجال الدين السلفيين الشيخ سلمان العودة الذي ينطلق
في نقده لمسلسل طاش من زاوية الاستهزاء بالدين وتالياً
المتدينين بوصفه أمراً معيباً يؤاخذ عليه صاحبه. يلزم
الإقرار بأن اللهجة التي يتعاطى بها الشيخ العودة مخففة
الى حد ما وتميل الى المناصحة الهادئة والنقد الوادع،
وقال (لنعبر عن رأينا بالكلمة الطيبة، الصالحة، الهادئة،
والقوية الواضحة). لا يعارض الشيخ العودة مبدأ النقد بل
هو مطلوب ويشمل (نقد المجتمعات، والحكومات، والجماعات
الإسلامية، والخطاب الديني، ونقد الممارسات الاجتماعية)،
لكن هذا مشروط بأسس وضوابط يدرجها العودة في سياق (العدل).
أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الملك خالد الدخيل
اعتبر انتقاد المسلسل بأنه يعكس أزمة الفكر الديني. وكتب
الدخيل في مقالة بعنوان (الفكر الديني..عقبة أمام التغيير
في السعودية) نشرتها صحيفة الاتحاد الاماراتية في الحادي
عشر من أكتوبر، جاء فيه بأن الحملة الشرسة على المسلسل
يعكس أزمة الفكر الديني، والنزعة التقليدية التي يتكئ
عليها هذا الفكر. .ويرد الدخيل الاتهامات الموجّهة للمسلسل
بأنها غير موضوعية، بأن الموضوعات التي يتناولها المسلسل
تحظى بشعبية وقبول واسع وهو يعكس مصداقية المسلسل خارج
إطار وصاية الفكر الديني.
الكاتب والاعلامي عبد الرحمن الراشد تحدث في مقالة
في (الشرق الاوسط) في الحادي عشر من أكتوبر بعنوان (أكثر
من مجرد طاش) عن أن زمن مسلسل طاش قد تأخر ردحاً من الزمن،
واعتبر ان موضوعاته هي مادة المجالس المغلقة، وأن المسلسل
لامس جروحاً قديمة. وينظر الراشد الى المسلسل باعتباره
منّبهاً استباقياً للحكومة من أجل اتخاذ القرارات الصائبة
في الزمن المناسب، وأن التغيير الذي يأتي من تحت لا يلغي
دور الاعلام كيما يسهم في تسريع عملية التحديث الاجتماعي
عبر فتح النوافد للنقاش والاقناع، وليس هناك مناسبة أفضل
من المائدة الرمضانية.
ويمثل بيان المحامي فراج العقلا في حملته لمقاضاة طاش
ماطاش وجميع ما أسماه بالبرامج الاعلامية الهابطة ذروة
التصعيد الاعلامي والاجتماعي ضد مسلسل طاش. البيان رقم
(1) بدأ بلغة تحريضية بالغة الشراسة، وبدأها بعبارات شديدة
الالتهاب من قبيل (الدم الدم.. الهدم الهدم)، والتي اعتبرها
الوثاق الذي تعاهد عليه محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد
الوهاب، وأريد له أن يبقى حاكماً على علاقة السلطة بالمجتمع.
رؤية العقلا الدينية تنطلق من أن التعاقد الذي جرى
بين بن سعود وبن عبد الوهاب أسس لعلاقة تحالفية بين العلماء
والأمراء في نجد ووضع أساساً لانشاء سلطة موحدة في نجد،
وما لبث أن تحوّل الى مشروع دولة، ويكون التعاقد ملزماً
لكافة المناطق والفئات التي لم تشهد زمن ومكان وموضوع
التعاقد.
يذكّر المحامي العقلا، على غير خلفية قانونية، الى
بيان اللجنة الدائمة للافتاء بشان تحريم المسلسلات المخالفة
للشرع بحسب رأي اللجنة الصادر في في السابع من رمضان عام
1421هـ ومنها مسلسل طاش ما طاش، حيث يبدي العقلا دهشة
من استمرار عرض المسلسل خلال شهر رمضان من كل عام. لا
ينكر العقلا على رعاة المسلسل من ممثلين وممنتجين تناولهم
لموضوعات إجتماعية حقيقية ولكنه يعارض بشدة اسلوب المعالجة
حيث ينظر الى أن العيوب الاجتماعية التي يكشفها المسلسل
(بالإمكان معالجتها بأسلوب إصلاحي بعيداً عن نشر الغسيل
أمام الآخرين ممن تسرهم الشماتة بـالمواطن أياً كان موقعه).
العقلا، شأن عدد من المحافظين في المدرسة السلفية،
يرى بأن مسلسل طاش يمثل مخالفة شرعية، وفي ذلك حسب رأيه
انزلاق نحو اقتراف المزيد من المخالفات، ويحسب أن في استمرار
المسلسل انحطاطاً أكثر بما يستدعي تدخل السلطة لمنعه.
ويزعم العقلا بأن وجهة نظره هذه تعبّر عن موقف كثير من
المواطنين الذي طلبوا منه تمثيلهم أمام الجهات التشريعية
والقضائية للمطالبة بوقف العمل مالم يغيّر القائمون عليه
توجهاتهم. تجدر الاشارة الى أن المسلسل عرض بعض الحلقات
التي تتناول تصرفات رجال الدين والقضاة بطريقة نقدية وهو
أمر أثار إستياء التيار الديني السلفي، الذي رأى في المسلسل
مادة للتشهير والتشويه.
العقلا رفع برقية الى وزير الداخلية بطلب إحالة القضية
الى هيئة الادعاء العام والتحقيق لفتح الملف، ومطالبة
الملك بالتدخل وإحالة القضية الى المحكمة الجزئية وفقاً
للأمر السامي الخاص بقضايا الحسبة. كما تقدم العقلا ببرقية
عبر الهاتف الى أمير الرياض الامير سلمان يطلب فيها بإحالة
القضية للمحكمة الجزئية للنظر في الدعوى، وينوي العقلا
إحالة أوراق القضية الى لجنة الأوراق في مجلس الشورى بطلب
التصويت على ما أسماه العقلا بـ(البرامج الإعلامية الهابطة
بما في ذلك مسلسل طاش ماطاش حسب نظام مجلس الشورى).
تجدر الاشارة الى منع حلقة (جمس الهيئة) في مسلسل طاش
14 لهذا العام، حيث أثارت الحلقة جدلاً واسعاً قبل عرض
حلقات العمل، وكانت مقاطع من الحلقة قد انتشرت عبر الهواتف
المحمولة، يظهر فيها تجاوز رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، مما أثار خلافاً حاداً بين مؤيدين ومعارضين
لنشر الحلقة، بالرغم من أن اللقطة المنتشرة تعكس جانباً
من موضوع الحلقة، وقد سعى فريق العمل في المسلسل الى إحداث
توازن في مقاربة موضوع الهيئة، ولكن الفريق المعارض لبث
الحلقة يرى بأن فيها ما يعرّض بشعيرة دينية، فيما يرى
المؤيدون بأن هذه المؤسسة تخضع كغيرها من المؤسسات الحكومية
الى المحاسبة والنقد كونها تضطلع بمهمة مرتبطة بالشأن
العام، وبالتالي ليس هناك حصانة من أي نوع لدى هذه المؤسسة
وإن حاول البعض إضفاء صبغة دينية تحول دون نقدها وتقييم
عملها بصورة نقدية.
لقد انتقلت أصداء الجدل حول مسلسل طاش الى الاعلام
الخارجي، فقد كتبت صحيفة فايننشال تايمز مقالة في الحادي
عشر من سبتمبر حول منع حلقة (جمس الهيئة)، وذكرت هبة صالح
مراسلة الصحيفة بأن طاش 14 أثار غضب المحافظين بتحديهم
الشرطة الدينية [هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
التي تجول في الأماكن العامة في المملكة للتأكد من أن
النساء يرتدين حجابهن بشكلٍ ساتر ولمنع الاختلاط بين الجنسين
وإغلاق المحال وقت الصلاة.
وكتبت الصالح عن البعض المشاهد التي عرضها المسلسل
بخصوص الهيئة والتي تعكس طريقة النقد في تناول أداء رجال
الهيئة أو حراس الفضيلة بحسب المسلسل. وركّزت الصالح على
مشهد تعامل (حرّاس الفضيلة) مع النساء بدعوى حمايتهن،
حيث اقترح أحدهم حفر قنوات للنساء وحدهن، بينما اقترح
آخر ان تجلس النساء في صناديق خشبية مغلقة على ظهور الحيوانات
وأن يقدنها باستعمال المنظار، وفي النهاية بني جدار يقسم
القرية الى قسمين: أحدهما للرجال والآخر للنساء. كما سلّطت
الصالح الضوء على موضوعات خاصة بالمرأة مثل قيادة السيارة
والعمل في المحال التجارية التي أصبحت موضوعات متداولة
في أغلب المسلسلات السعودية الكوميدية هذا العام بما في
ذلك (ماكو فكه) و(ابو شلاخ).
وتذكر الصالح بأن أفراد العائلة المالكة يبدون رغبة
خجولة للتقليل من تأثير المحافظين على التعليم والاعراف
الاجتماعية، وكان ذلك سبباً لاضطراب التقليديين الذين
يخشون من أن يقف أفراد العائلة المالكة في صفوف الليبراليين.
ونقلت الصالح عن الناشط السلفي الشيخ محسن العواجي قوله
بأن مسلسل طاش انتقائي جداً في نقده، وأنه يستثني المتشددين
السياسيين الذين يقع في أيديهم معاقبة القائمين على البرنامج،
في إشارة واضحة الى جناح الملك عبد الله من وزراء ومسؤولين
ومثقفين.
|