دولـة الـرفـاة
بالرغم من أن الكلمة تكتب بطريقتين، فيقال (رفاة) أو
(رفات)، الا أنني اخترت الأولى نكاية بدولة الرفاه المزعومة
في السعودية. فعلى عكس دولة الرفاه (بدون نقطتين على الهاء)،
التي ينعم أهلها بخيرات الأرض وهبات السماء بالقسط والميزان،
فلا حقوق مضيّعة ولا حدود معطّلة، فإن دولة الرفاة تورث
الفقر، والخراب، والضياع، فهي دولة ثاوية في العدم والتلاشي
حيث يسدل الستار على عالم الحياة فوق الأرض بكل مدلولاته،
وتنشق الأرض عن عالم آخر، يكون مدفناً لرفاة الدولة، وآمال
قاطنيها، وأسرار من نهب ووهب، وعلا وهبط، وعدل وجار.
من فرائد سيرة الدولة السعودية، أن المسافة الفاصلة
بين النشوء والإضمحلال تكاد تتقلص الى حد أن المرء يعجز
عن متابعة مراحل السير التي يمر خلالها نشوء الأشياء وزوالها.
أن تمسي فقيراً وتصبح ثرياً فذلك طموح كل فرد، ولكن أن
تمسي فقيراً مدقعاً بعد أن كنت ثرياً فذلك كابوس لا يرجو
أحد أن يدهمه. وما يقال عن المال ينسحب على الموضوعات
الأخرى، التي لا تقلّ أثراً وتأثيراً.
بدأت الدولة فقيرة لا تلوي على شيء سوى ما تحصل عليه
من مكوس مقتطعة من حجاج بيت الله الحرام، ومن بيع المحاصيل
الزراعية في الشرق والجنوب، ثم ما لبثت أن دخلت عالم النفط
ففتح القدر طاقته على هذا البلد، وامتلأت خزانة الدولة
بالأموال الطائلة، فارتفعت موارد البلاد من ما يقل عن
40 مليون دولار (سنوياً) الى ما يربو على 600 مليون دولار
(يومياً)، دع عنك المصادر الأخرى، بما فيها الصناعية.
المبالغ الطائلة كانت كافية لأن تقيم دولة رفاه حقيقية،
ينعم أهلها بالعيش الكريم، ويحققون فيها أحلامهم وطموحاتهم،
ولكن بلغ الجشع بأهل الحكم الى حد أن خزانة الدولة في
عهد الملك سعود قد نضبت ولم يبق فيها سوى بضع حفنة من
الريالات، قيل بأنها لا تتجاوز المئات.
لم يكن هناك ما يمنع قيام دولة الرفاه، وحتى بعد هبوط
أسعار النفط في بداية الثمانينات التي كانت قابلة للاستيعاب،
لأن الطلب على النفط تزايد بوتيرة كبيرة بفعل انشغال بلدين
نفطيين (العراق وايران) بحرب طاحنة طيلة ثماني سنوات،
وتزايد القلق من احتمالات انقطاع خطوط تصدير النفط عبر
الخليج، ما يجعل الطلب على النفط مرتفعاً. ولكن الانفاق
المفرط على آلة الحرب العراقية آنذاك، وجنوح الملك فهد
الى اقتطاع جزء كبير من الثروة الوطنية (ما ظهر لاحقاً
في ثروته الفلكية)، وإبرام صفقات أسلحة بأسعار خيالية
من قبل وزير الدفاع وولي العهد الحالي الأمير سلطان، والفوضى
العارمة في التعامل مع الحاجات الأساسية والضرورية للفرد
والدولة معاً، أدى الى استنزاف الثروة الوطنية، لتبدأ
حركة ارتدادية في الاقتصاد الوطني معلنة عن ظاهرة عجز
مزمن في الموازنات السنوية، وجاءت حرب الخليج الثانية
العام 1991 لتدفع الحكومة السعودية الى إنضاب المخزون
النقدي الاحتياطي في البنوك الدولية ليهبط به من 120 مليار
دولار الى 5 مليارات دولار فقط، بعد تسديد فاتورة حرب
الخليج التي بلغت ما يربو عن 620 مليار دولار، التي تكفّلت
السعودية منها حصة الأسد. لقد جنت العائلة المالكة حصرماً
من سنوات لم تزرع فيها سوى الوهم، فجاءها السيل العرم
من الجبهة التي أنفقت عليها من المال العام الذي كان أهله
أحق به من شراء تحالفات خاسرة بل ومدمّرة.
الانعكاسات الاجتماعية والسياسية فضلاً عن الاقتصادية
لتجفيف الثروة الوطنية كانت واضحة، فالدولة التي تنوء
حتى الآن بدين داخلي وصل قبل سنتين الى مايزيد عن 700
مليار ريال لابد أنه قد أطلق نداء الاستغاثة من قبل خبراء
الاقتصاد المحليين والدوليين من أجل وقف مسلسل الانهيار.
لقد بدت الدولة وكأنها قطار يسير بسرعة فائقة دونما كوابح
ويخشى عليه من الانقلاب بمن يقلّهم على متنه.
الامبراطورية المالية تحطّمت، وباتت ظواهر البطالة
وانهيار الخدمات العامة، وتفشي الجريمة الفردية والمنظمة،
والفساد سمات جوهرية من الدولة السعودية.
وجاءت حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لتعلن عن
بدء نهاية إمبراطورية أخرى، فمنذ أطلق الملك فهد العنان
للتيار السلفي في بداية الثمانينات من القرن الماضي ليبني
إمبراطورية كونية تغطي قارات العالم، بذريعة مواجهة الاسلام
الثوري الايراني، فإذا بهذه الامبراطورية تتشظى وتصبح
رماداً تذروه الرياح، بعد أن أنجبت جماعات لا تتقن سوى
لغة الدم في التعامل مع الآخر، المسلم وغير المسلم، طالما
أنه لا يندرج في قائمة (صحيح المعتقد) من (أهل التوحيد)!!
وحين بدأت أسعار النفط بالانتعاش تدريجياً في منتصف
العام 2004، اشرأبت الأعناق، ونصب مجتمع الحرمان أشرعة
الأمل بانتظار عهد جديد من الاصلاح والتصحيح في مسيرة
التدهور. وتدفقت الأموال مجدداً من مبيعات النفط، وعادت
خزينة الدولة للامتلاء، بيد أن المتربصين بها لم يمهلوها
طويلاً، فقد تكالب الأمراء الكبار عليها، فبدأ الامير
نايف بتخصيص ما يقرب من 40 مليار ريال لوزارته، غير ما
يحصل عليه من الموازنة السنوية، فيما كان الأمير سلطان
يخوض معاركه البطولية (!!) عبر مفاوضات جادة وحضارية لإبرام
صفقات عسكرية مع دول أوروبية والولايات المتحدة بأسعار
خيالية، فمع فرنسا بخمسة مليارات يورو، وبريطانيا بأكثر
من سبعين مليار جنيه استرليني (135 مليار دولار)، والولايات
المتحدة بعشرات المليارات من الدولارات.
وها نحن نقترب مجدداً من عملية نهب واسعة النطاق للثروة
الوطنية تحت عناوين مختلفة، مرة بإسم الأمن، وأخرى بإسم
الدفاع، وثالثة بإسم مشاريع تنموية، ورابعة بإسم مشاريع
توسعة، والحبل على الجرار.
نصيب المواطنين في كل الاحوال كان بالناقص دائماً،
فحتى سوق الاسهم التي أوحي إليهم بأنها فرصة الثراء السريع
أصبحت (شفّاطة) لمال العباد، فبعد أن قفز المؤشر قبل أكثر
من عام الى ما يزيد عن 21 ألف نقطة، عاد ليهبط صاروخياً
ليفقد نحو ثلثيه (اي ما يزيد قليلاً عن ثمانية آلاف نقطة)
مخلّفاً أزمات مالية ونفسية واجتماعية. تنقل في السياق
نكتة تقول: ستسمح السعودية للحجاج والمعتمرين بالتعامل
في سوق الأسهم حتى يعودوا إلى بلدانهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
فهل قدر الناس أن يجنوا من الدولة غير الرفاة؟!
|