صناعة العنف السعودي
مصادرة السلاح ودعم مضخات الدفع باتجاه اقتنائه
خالد شبكشي
السلاح في مجتمع قبلي يمثل أزمة.
والدولة لا تقوم ولديها شعب مسلّح بدون انضباط.
وثقافة السلاح واقتنائه تنتشر بشكل خاص في المجتمعات
التي يضعف فيها سلطان الدولة، أو حين يختلّ ذلك السلطان
فلا يحمي ولا يردّ المظالم.
والمملكة حين استكملت قيامها ونشأتها، شهدت أكبر عملية
إخضاع (للقبيلة) لم يعرفها التاريخ الحديث.
ونقصد بالإخضاع: نزع مخالب القبيلة، وخضد شوكتها، والإستحواذ
على سلطة قيادتها في إعلان الحرب وقرار السلم والقضاء
وغير ذلك، بحيث لم يعد هناك سوى سلطة الدولة.
وجاء متساوقاً مع ذلك، تجريد أكثر القبائل من قواها
الحيّة: حيّز الأرض (الديرة) الذي تعيش عليه أو ترعى فيه
إبلها، وكذلك تجريدها ـ أو بعضها على الأقل ـ من أسلحتها،
وأحياناً من خيولها!
شيء مهم لم تفعله (السلطة) السعودية، لأنه كان خارج
إطار إمكاناتها، بل كان خارج إطار وعيها، وهو القضاء على
الثقافة القبليّة، من خلال صناعة ثقافة جديدة، ثقافة وطنية،
ثقافة مواطنة.
ثقافة القبيلة، أو الثقافة القبلية، تكفّلت عمليات
التحديث والتديين (التوهيب ـ أي قسر الآخر على المعتقد
الرسمي الوهابي) بتشذيب بعضها، وإضعاف بعضها الآخر. ولكن
الى حين فقط.
فقد بقيت تلك الثقافة حيّة لم تمت، ولم تزل حيّة، بل
أن حيويتها لاتزال في أوجها منذ أكثر من عقدين.
الحكومة السعودية حاولت أن تهيل التراب على الصراعات
القبلية القديمة، ومنعت من انتشار ثقافة بعض القبائل (غير
الموالية) سياسياً لآل سعود، كما شمّر. بل منعت من انتشار
شعر الحرب (الرزف) الشعبي، وأي كتب تتحدث عن غابر القبيلة
وتراثها وشخصياتها، خاصة تلك التي أُشغلت بالسياسة، أو
لعبت دوراً سياسياً ما في حقبة سابقة ضد السعوديين.
لقد جرت عملية تفريغ، سواء في المجتمع الحضري أو القبلي،
من السلاح المادي بل وحتى المعنوي، عبر المنع والمصادرات
وحظر اقتناء السلاح والمواد المكتوبة.
نعم.. كانت هناك فئة مأمونة الجانب، موالية للسلطة،
بل هي يد السلطة وعينها، وهذه الفئة سمح لها بأن تحتفظ
بسلاحها تحسّباً لـ (يوم أسود) قد يأتي على حين بغتة فيهدد
النظام ومعه تلك الفئة المدينية النجدية.. ولكن فيما بعد،
وجد النظام أن قيام المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتحت
سيطرة تلك الفئة يلغي مسألة بقاء السلاح (خارج إطار الدولة)
وهو التعبير الذي صار شائعاً اليوم كلما جرى الحديث عن
الوضع في لبنان أو العراق.
بيد أن ثقافة اقتناء السلاح استمرت بتكتم بين الأفراد
من مختلف الخلفيات الإجتماعية، حتى صارت ظاهرة هذه الأيام.
الذي حدث هو أن كميات كبيرة من السلاح تسللت بادئ الأمر
عبر الحدود: من اليمن، ثم من العراق بعد تحرير الكويت،
وأخيراً في التسعينيات ـ وبعد الإنتكاسات الإقتصادية وضعف
ضبط الدولة ـ صار السلاح يهرّب من مخازنه في الجيش والحرس
الوطني، كما قطع الغيار الأخرى، يباع برخص التراب، ومع
سقوط صدام وانفتاح الحدود زاد الطين بلّة.
الفلسفة العامّة للدولة السعودية لا تميل ولا تقبل
بأي حال أن ينتشر السلاح بين المواطنين، بل وأكثر من ذلك
هي حريصة أن لا يتعلّم شعبها فنون القتال، ولم تقبل يوماً
(التجنيد الإجباري) أو سن قانون الخدمة العسكرية ولو لأهداف
تربوية واجتماعية أخرى. فمن يحمل السلاح أو الذي يحق له
التدرّب على حمل السلاح يجب أن يكون موالياً من بيئة معينة،
ينتمي الى مذهب معيّن وغير مرتبط قبلياً بإحدى القبائل
المشاغبة ضد الحكم السعودي في التاريخ.
هذا على علاّته الكثيرة قد يكون محموداً في كثير من
الجوانب. فلا عسكرة المجتمع مطلوبة، ولا ثقافة العسكر
والسلاح مطلوبة. لكن المشكلة التي تواجه السعودية دوماً
أمران:
أولهما ـ رغم نجاح السعودية النسبي ولفترة طويلة في
مصادرة السلاح من الأيدي في مجتمع يعتبر خزّاناً للعصبيات
القبلية والمناطقية والطائفية، وذلك بسلطان الدولة وقوتها،
إلا أن العملية تبدو ـ اليوم ـ وكأنها فشلت، لأن المخزون
(الثقافي) لتلك العصبيّات بقي على حاله متأجّجاً باحثاً
عن تجسيد مادّي (سلاح في اليد) تكتمل به الرجولة!، ويدافع
به عن الشرف!، وتسترد به الحقوق الضائعة، سواء تلك التي
عند الدولة أو المجتمع! لم تطرأ على المجتمع ثقافة مختلفة،
ولا أداءً سياسياً رشيداً يمنع ظهور (الشعور بالحاجة)
لوجود السلاح. بل لم تنشأ عصبيّات (عليا) ونقصد بها (العصبية
الوطنية) تزيح العصبيات الفرعية عن تربعها على عرش الإنتماء.
وثانيهما ـ إن هناك نزعة ثقافية ـ طائفية حادّة تشجّع
على القتل واستخدام السلاح لإنهاء الآخر، المخالف في الداخل
أو الخارج. والحكومة السعودية لم تأبه يوماً الى أن النزعة
الطائفية الحادّة في المذهب الوهابي يمكن أن تنعكس حية
على أرض الواقع، خاصة على الحكومة السعودية نفسها. ولكن
هذا ما حدث بالفعل. لقد ارتدت النظرة السوداوية التي أطلق
لها العنان لتصبغ حياة المملكة طيلة عقد كامل بسواد المتفجرات
والعنف. لكن هذا العنف ليس إلا قمّة الجبل. فالشحن الطائفي
شديد التوتر ولأتفه الأسباب، قد ينعكس على المواطنين في
شكل صراع دموي وحرب داخلية، من المرجح أن يشنّها السلفيون/
الوهابيون في أي لحظة قادمة.
الشحن الطائفي، الملغوم بالتوترات السياسية المحليّة
والإقليمية، والمترادف مع الإحباطات الإجتماعية والإقتصادية،
ولد لدى البعض مشاعر الخوف والرهبة فاندفع باتجاه اقتناء
السلاح؛ وولد لدى البعض الآخر ـ الوهابي المتطرف رغبة
عارمة في تفريغ شحنات نفسه المقروحة رصاصاً وتفجيراً في
رؤوس أعدائه المخالفين له في الرأي والفكر والموقف.
ستكون الحكومة السعودية عاجزة عن إيقاف انتشار السلاح،
إن لم تستطع أن توقف ماكنة الشحن الطائفي فضلاً ان تعتبره
إحدى أسلحتها السياسية التي تستخدمها داخلياً وخارجياً.
وستكون الحكومة السعودية عاجزة عن فعل ذلك أيضاً ما
لم توفر الأرضية المناسبة لقيام ثقافة وطنية متسامحة مبنيّة
على احترام خيارات الشعب في الإصلاح السياسي وغيره.
والحكومة السعودية فوق هذا لا تستطيع ان تلعب لعبتين
متناقضتين في آن واحد: فمن جهة هناك التحريض والثقافة
العصبوية وفشل الدولة، ومن جهة ثانية هناك العصا لمن يبحث
عن حل في (السلاح).
|