المعتدل ليس إصلاحياً
تحدي الإصلاح في المملكة.. شروطه ومعوّقاته
نظرياً، قد تأخذ الاصلاحات شكل التحديث الاجتماعي والاصلاح
الاداري التي تتطلب إعادة تأهيل أجهزة الدولة. على أية
حال، فإن الاصلاح المعني هنا وفي الوقت الراهن من قبل
الناشطين والقوى السياسية في المملكة هو عملية الانتقال
من الحكم التسلّطي الى الحكم الديمقراطي.
النظام السعودي، كما الانظمة المصنّفة في معسكر الاعتدال
في المنطقة، ليست جادة حول الاصلاح، ولحد الآن فإن هذه
الانظمة فشلت في استيعاب الحقائق الجديدة التي ظهرت بعد
الحرب الباردة، والتي فرضت الحاجة لبدء اصلاحات سياسية
واقتصادية جادة. لقد شعرت السعودية بالتهديد بآفاق الاصلاح
والخوف من التداعيات المزعزعة للبنى السلطوية القائمة،
وأنها لن تضطلع بالاصلاحات سوى في حال ضمنت بقاءها، وإنها
ستحجم عن القيام بأية إصلاحات إذا كانت قد ضمنت بقاءها
بدون الاضطرار الى إدخال إصلاحات على أجهزة الدولة وسياساتها
وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية. ولاشك، أن انعدام الامن
والاستقرار في المملكة خلال السنوات الماضية قد قوّى دور
المؤسسة والامنية ومكّن الحكومة من إدامة السلطة والحفاظ
على الواقع القائم.
مبادرات الاصلاح الخارجية وبخاصة مبادرات إصلاح الشرق
الاوسط الكبير كان ينظر اليها على أنه مهدّدة لهوية وسيادة
الدول في المنطقة، وأن الهدف النهائي من هذه المبادرات
كان لمحو الهوية لبلدان هذه المنطقة عن طريق إدماجها في
الفضاء الثقافي الشرق أوسطي الكبير.
كانت المقاربة الاصلاحية الأولية تقوم على اعتبار أن
ضمان نجاح العملية الاصلاحية يقوم على تقوية مؤسسات المجتمع
المدني، التي هي الآن ضعيفة وغير قادرة على المطالبة بأجندة
إصلاحية من النخب الحاكمة. وكانت الرؤية الاصلاحية تؤكد
على أن الاصلاح الديني والتعليمي والثقافي يجب أن يكون
أولوية في جدول الاصلاحات في المنطقة، ليفضي الى استئصال
الأمية وإرساء قيم التسامح والتنوع وحقوق المرأة. وهذا
يتطلب مقاربات نقدية لتحرير الدين من قبضة الانظمة الابتزازية
والجماعات المتطرفة.
لقد بدا لاحقاً أن مقاربة أخرى تميل بقوة الى اعتبار
الاصلاح السياسي أولوية ومدخلاً، ويجب دمقرطة نظام الحكم
قبل إجراء إصلاحات ثقافية واجتماعية واقتصادية. في الوقت
نفسه، يجب تشخيص الفساد والتباينات الاقتصادية، متزامناً
مع توفير العلم والمسكن والملبس للشعوب بوصفها حاجات ضرورية
للحياة قبل أن يبدأوا بالانشغال بمسائل الاصلاح السياسي
والثقافي.
إن إدماج الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية
في المنطقة يملي الاعتراف بالقوة السياسية للاسلام السياسي.
وهناك ميل قوي بين الخبراء السياسيين في الشرق الاوسط
نحو استئصال التطرف في المنطقة من خلال إقامة دول إسلامية
ديمقراطية حديثة تسمح باندماج ناجح للاسلاميين. وهناك
عدد كبير من الخبراء من يجادل بأن الاسلام السياسي ليس
المشكلة الرئيسية ولكن فشل الانظمة العربية في إقامة دول
ديمقراطية استيعابية.
في المقابل، هناك رأي تدعمه الحكومات العربية يقوم
على فصل الدين عن السياسة وأن الاسلام يجب أن يتوقف عن
كونه قوة سياسية ويعود الى كونه جزءً من الخلفية الثقافية
والدينية للمنطقة.
هناك اتفاق عام بأن الحكومات الغربية التي تدعو للاصلاحات
في المنطقة يجب أن تتوقف عن دعم الانظمة التسلطية. وأن
الاصلاحات يجب أن تكون نتاج الجهود المتواصلة من قبل القوى
المحلية. الناشطون والقوى السياسية في المملكة يرون بأن
انتشار الفساد يجب أن يحارب عبر إقامة دولة ديمقراطية
حديثة. وأن الامم المتحدة بحاجة الى دعم مبادرات الاصلاح
العربية الشعبية. فمن السخرية، أن تضطلع المملكة ذات السمعة
السيئة في مجال حقوق الانسان بدور هام في لجان حقوق الانسان
التابعة للأم المتحدة.
إن مسائل الاصلاح والتحول الديمقراطي قد تراجعت للوراء
على وقع قضايا سياسية ملتهبة على علاقة مباشرة بالمصالح
الغربية في المنطقة بدءً من لبنان وصولاً الى العراق مروراً
بفلسطين وسوريا ودول الخليج إلى جانب الاردن ومصر اللتين
أصبحتا مهملتين في مشروع الدمقرطة بعد انضمامهما إضافة
الى السعودية الى معسكر الاعتدال بحسب المقاييس الاميركية
على خلفية التوتر بين ايران والولايات المتحدة.
قضية الاصلاح السياسي في المملكة تعود الى بداية التسعينيات،
حين صدرت عدة عرائض موقّعة من قبل مئات من شخصيات بارزة
من خلفيات أيديولوجية وسياسية مختلفة تطالب بإجراء إصلاحات
فاعلة ومؤثرة في أجهزة الدولة.
في ذلك الوقت، كانت الادارة الاميركية وكذلك معاهد
البحث مثل معهد الشرق الأوسط الذي كان يرأسه مارتن أندك
قد مرر توصية الى الادارة الاميركية بأن السعودية، من
بين دول أخرى، غير مؤهّلة للتعامل بحذر مع الديمقراطية
على أساس أن الديمقرطية قد تسقط في أيدي المتطرفين.
وعموماً، فإن النظرة النمطية في الغرب القائمة على
أساس أن سكان المملكة غير جاهزين أو غير قادرين على ممارسة
الديمقراطية مازالت قائمة، وهي نظرة صنعت وتعممت من قبل
النظام بهدف كبح المطالب المتزايدة بالاصلاح السياسي من
قبل الشعب وبعض الغرب.
الا أن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا شهدت بلدان مثل
اليمن والكويت والبحرين وقطر تحولات سياسية لافتة فيما
لم تشهد السعودية ذلك؟. الجواب عن ذلك يكمن في المعوّقات
التالية:
1ـ العائلة المالكة: ويقصد بها الجيل القديم من العائلة
المالكة الذي يبلغ أعمار أفراده الثمانين أو ما يقرب منه.
ويمسك هذا الجيل بالمواقع الحيوية في الأجهزة الحكومية،
وفي الوقت نفسه يرفض التغيير الذي يقود الى تآكل القبضة
على السلطة. وهذا الجيل مازال غير قادر على الاستجابة
بصورة فورية وفاعلة لمنطق الزمن. على أية حال، فإننا يجب
أن نتعامل بحذر في إختبار مشيئة ما يسمى الجيل الثالث
إزاء الاصلاحات الديمقراطية، حيث لم يصدر عن أفراد هذا
الجيل حتى الآن ما يؤكد رغبته في تحقيق تلك الاصلاحات،
بل هناك مؤشرات تبعث على القلق من أن توارث التقاليد الاستبدادية
قد يجعل من هذا الجيل أشد تمسّكاً بخيارات مناهضة للاصلاح.
2 ـ المؤسسة الدينية: فهي كانت من منطلق أيديولوجي
وتقليدي معارضة للتغيير مهما كان، وأن الدور غير المقيّد
وتزايد حجم ونفوذ المؤسسة في المجتمع يمثّل مؤشراً سلبياً
بالنسبة لموقف كل من العائلة المالكة والمؤسسة الدينية
معاً في مجال التغيير والاصلاحات السياسية والدينية. فالاصلاحات
السياسية من وجهة نظر النخبة الدينية تتطلب أولاً تناقص
سلطتها النافذة وحصتها في الدولة، وثانياً أن الاصلاحات
السياسية ستغير بالضرورة طبيعة الدولة، أي أن القشرة الدينية
ستتحجم بصورة دراماتيكية، وثالثاً فإن الاصلاحات السياسية
ستطيح بالتوجيه المهيمن والواحدي الذي كان يخضع عادة تحت
سيطرة المؤسسة الدينية ويقود في نهاية المطاف الى التعددية.
وعليه فإن المؤسسة الدينية تعارض الاصلاحات، حيث ستكون
الخاسر الرئيسي.
3 ـ الثقافة السياسية: فحتى نهاية 1989، كانت غالبية
السكان في السعودية غير مسيّسة، أي في الوقت الذي كانت
فيه الدولة الريعية مهيمنة وقوة كابحة، ومازال هناك إصرار
لدى العائلة المالكة على إبقاء السكان خارج مجال تأثير
التحولات الديمقراطية في المنطقة.
4 ـ العامل الخارجي، وخصوصاً الدور الاميركي. فالغرب
عموماً والحكومة الاميركية بصورة خاصة كانت حتى هجمات
الحادي عشر من سبتمبر مترددة إن لم تكن رافضة تشجيع الديمقراطية
في السعودية. ويمكن إرجاع الموقف الاميركي الى الخوف من
اختطاف الاسلاميين للديمقراطية، والذي قد يفضي في النهاية
الى تهديد المصالح الاستراتيجية الاميركية في المنطقة.
وعلى أية حال، فإن التعديل الحاصل في سياسة الولايات
المتحدة في الشرق الاوسط بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر
بقي مشكوكاً في كونه لصالح دعم وتشجيع الديمقراطية. وهذا
يلحظ في الانتكاسة المفاجئة في اللهجة الديمقراطية لدى
الادارة الاميركية عقب تحسّن العلاقات السعودية الاميركية
على أساس ارتفاع مداخيل النفط، والحرب على الارهاب والتعاون
في القضايا الاقليمية في العراق ولبنان وفلسطين، ومشروع
السلام في الشرق الاوسط، والأزمة النووية الايرانية.
يبقى القول بأن السعودية يجب أن تصلح نفسها عاجلاً
أم آجلاً، وأن الاصلاحات السياسية لم تعد خياراً ولكنها
ضرورة من أجل ضمان الاستقرار السياسي في البلاد وفي المنطقة
عموماً.
لاشك أن الصراع على السلطة داخل العائلة المالكة يعيق
عملية الاصلاحات السياسية. ومنذ 1995، حيث أصيب الملك
السابق فهد بجلطة دماغية أقعدته عن مزاولة الحكم، أصبحت
الدولة معاقة، حيث كانت تفتقر الى جدول زمني للاصلاح فيما
كانت مؤسساتها القائمة بحاجة الى تغييرات جوهرية.
وهناك ثلاث عوامل أساسية تسهم في قرار عاجل وفاعل في
الاصلاحات السياسية على النحول التالي:
ـ العامل الاقتصادي ـ الاجتماعي: بالرغم من تحسّن الاوضاع
الاقتصادية فإن الموضوعات الرئيسية والخطيرة لم تشهد تغييراً
ملحوظاً: فمازال معدل البطالة عند مستوى خطير يصل الى
20 بالمئة بين المؤهّلين للانضمام لسوق العمل، فيما لا
يزال مستوى الدين العام عند وتيرة عالية يصل الى مايربو
عن 600 مليار ريال.
إن خطورة المشكلة تكمن الآن فيما أحدثه سوق الاسهم
من أزمة إجتماعية واقتصادية كارثية أدّت الى إفقار عشرة
ملايين مواطن، حيث بلغت الخسارة الدنيا 100 ألف ريال مثّلت
تسونامي اقتصادي ضرب أسس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي
للسكان. حين نضع هذه الحقائق جنباً الى جنب عوامل أخرى
من بينها أن 70 بالمئة من السكان ولد بين 1982 ـ 2006
فإن هذا يعني أن الغالبية العظمى من السكان لا تنتمي الى
دولة الرفاه السعودية. وهذا يجعل ولاء الغالبية مورد اختبار،
بسبب العلاقة العضوية بين الولاء والدولة الريعية السعودية
التي تفرض تدفقاً مستمراً للنقد والمنافع المحددة التي
يمكن تقديمها من قبل الدولة لرعاياها.
ـ العامل السياسي: كشفت حوادث الحادي عشر من سبتمبر
أن البلاد مرشحة دائماً لمواجهة تحديات من الداخل والخارج
بسبب غياب أجندة وأهداف سياسية واضحة. فلم يكن هناك من
يدرك تماماً الاتجاه الذي تسير فيه البلاد ومن يقودها،
خصوصاً بعد أن تبين الدور الهزيل الذي يلعبه الملك عبد
الله في السياستين الداخلية والخارجية، ووقوعه رهينة بيد
الجناح السديري والادارة الاميركية، الأمر الذي حرمه من
كل مزاعمه القديمه في مناصرة قضايا العرب، وكونه رمز الوحدة
الوطنية، فيما ثبت الحوادث لاحقاً بأنه ملك أقل من عادي.
أ ـ العامل الداخلي:
السؤال المبدئي: الى أي حد يمكن القول بأن المجتمع
في المملكة مازال جاهزاً للاصلاح السياسي؟
هناك أربعة أسباب يمكن ذكرها للاجابة عن هذا السؤال:
1 ـ نمو طبقة سياسية واسعة وفاعلة على مستوى المجتمع،
وتلعب هذه الطبقة دوراً مؤثراً في حركة الاحداث الداخلية.
ومنذ يناير 2004 كان واضحاً بأن ثمة طبقة جديدة من السياسيين
من مختلف التوجّهات الايديولوجية قد دخلت الى حلبة التجاذب
الداخلي، وأن التشققات الحاصلة لاحقاً على خلفية أيديولوجية
في التيار الاصلاحي الوطني لم تمكّن الحكومة من احتواء
هذه الطبقة أو تحييد ميولها نحو التغيير أو تقلل من قوة
الاجماع الداخلي على الحاجة الى الاصلاح السياسي في البلاد
وإن من منظورات ايديولوجية متباينة.
2 ـ الثقافة السياسية: فقد شهدت المملكة تغييراً ملحوظاً
منذ العام 1991 على مستوى تداول الثقافة السياسية التي
تشيعها وسائل الاتصال الفضائية والانترنت. ودلالة ذلك،
أن ما حدث منذاك هو انفراط سلطة إحتكار الدولة للمعلومات
ومصادر التوجيه.
3 ـ هذا التغيّر، أي تطوّر الوعي السياسي الشعبي قد
تعجّل بفعل تدهور الاوضاع الاقتصادية التي قادت الى ارتفاع
وتيرة العنف ومعدل الجريمة.
4 ـ تسييس الدين: فقد تم تجنيد عدد كبير من الافراد
عبر القنوات التقليدية (المساجد، مراكز التعليم الديني،
والنشاطات الثقافية الاجتماعية). وفي غياب مؤسسات المجتمع
المدني، فإن البنى التقليدية والدينية بصورة أساسية أصبحت
مراكز الجاذبية السياسية والاجتماعية بالنسبة لكثير من
الجماعات. وهناك سلسلة من أنوية المجتمع المدني (المنتديات
الثقافية والادبية، والجمعيات النسائية والعلمية مثالاً)
قد تبرعمت في الخمس سنوات الماضية بما يشير الى تحوّل
مهم في المجتمع.
4 ـ العامل الهيكلي: إعلان الانظمة الثلاثة في مارس
1992 كانت حينذاك أدنى من توقعات السكان وطموحاتهم. وأن
النزعة المتنامية بين السكان باتجاه الاصلاحات السياسية
تحفّز برغبة إحداث تغيير مؤسسي داخل الدولة من أجل خلق
قاعدة عريضة لجهة الاندماج السياسي والمشاركة، وهو ما
عبّرت عنه العرائض التي رفعها التيار الاصلاحي الوطني
في الفترة ما بين يناير 2003 وحتى اعتقال عدد من الناشطين
في التيار في الخامس عشر من مارس 2004.
ب ـ العامل الخارجي:
باستثناء التصريحات المتقطعة، فإن العامل الخارجي لعب
دوراً سلبياً فيما يرتبط بدعم الاصلاحات السياسية في المملكة.
وهناك عدد كبير من الاصلاحيين قد راقبوا بقدر كبير من
الاهتمام المبادرات الاميركية وفيما اذا كانت ستؤدي الى
عهد جديد على أساس مبادرة برنامج الشرق الاوسط الواعدة،
والتي أصبحت من الماضي منذ أن أعلنت وزيرة الخارجية الاميركية
رايس في يونيو 2006 عن شرق أوسط جديد يتألف من معسكر المعتدلين
الذي يضم السعودية ومصر والاردن.
إن استثناء السعودية، قاعدة التطرف بحسب تصريحات سابقة
لمسؤولين أميركيين، فإن الحكومات الغربية لم تعد تلتزم
بقيمها الديمقراطية في علاقتها مع الحكومة السعودية وتخليها
عن دعم مطالب الاصلاح السياسي.
|