معضلة العنف والديكتاتورية السياسية
الخيار الديمقراطي المؤجـّل
العلاقة الجدلية بين العنف والحل الديمقراطي تشبه الى
حد كبير لغز البيضة والدجاجة، فبعد أن كان الإتفاق معقوداً
على ضرورة السير في تبني خيار الدمقرطة من أجل إزالة الإحتقانات
الإجتماعية والأمنية التي أنتجتها الأنظمة الديكتاتورية
في الشرق الأوسط، عادت الكرة، مرة أخرى، الى نقطة البداية
الأولى، بعد تجدّد الهواجس من اختطاف الديمقراطية من قبل
حركات دينية متشددة، خصوصاً بعد فوز حركة حماس في فلسطين،
ووصول مرشّحين إسلاميين الى السلطة في مصر والاردن والبحرين
والكويت. في المناظرات الساخنة التي جرت مؤخراً بين الديمقراطيين
والجمهوريين في الولايات المتحدة ما يشير الى تحوّل في
توجّهات الادارة الجمهورية فيما يرتبط بمشروع الديمقراطية
في الشرق الأوسط والذي ارتبط بثلاثة معطيات رئيسية: هزيمة
القوات الأميركية في العراق، وصول حماس الى السلطة عبر
صناديق الاقتراع، انتصار حزب الله في حرب تموز 2006.
مهما يكن، فإن ثمة قناعة صلبة تسود الدوائر السياسية
الغربية تفيد بأن بقاء الحكومات الديكتاتورية، الفاسدة،
والظالمة في السلطة في الشرق الأوسط، تفضي الى حقيقة باتت
معلومة وهي أن الظاهرة العنفية ومغذيّاتها ستستمر، ومهما
شهدت المنطقة من فترات متقطعة من الرخاء الأمني، فإن العنف
ما يلبث أن يشق طريقاً آخر ويستقطب معه أنصاراً جدد.
إن التركيز المبالغ فيه على أشكال العنف التي تنشأ
داخل الشرق الاوسط قد جعل تحديد قضايا الحكم والسلطة في
الشرق الاوسط والفضاء الديمقراطي للبديل السياسي مهملاً،
ما يوفّر مسوّغات عقلية وعملانية للعنف بالانتشار والتصاعد.
فالركون الى النجاح الظاهري للأجهزة الأمنية في إخماد
بؤر العنف والتطرف يلهي كثيراً من الحكومات في الشرق والاوسط
والغرب عموماً عن التفكير بجدية أكبر في توفير البديل
الديمقراطي القادر على امتصاص التشنجات السياسية والخضّات
العنيفة التي تضرب المجتمعات وأسس الاستقرار الأمني والاقتصادي
فيها.
فقد أثار اكتشاف شبكة تنظيمية مؤلفة من خلايا عسكرية
ولوجستية لا تنتمي الى خط الجماعات المسلّحة التي اعتادت
عليها الساحة الداخلية خلال السنوات الأربع الماضية، إهتماماً
استثنائياً لدى طائفة من المراقبيين لما اعتبر مفاجأة
غير متوقّعة، بعد تصريحات ذات طابع تطميني أطلقه كبار
الأمراء (سلطان، ونايف بوجه خاص) تزعم بأن العنف قد بلغ
درجة قريبة من التلاشي التام. في حقيقة الأمر، أن هذا
الكشف يصلح توظيفه في تعزيز رؤية العائلة المالكة التي
تريد تسويقها لدى الحكومات الغربية وخصوصاً الحكومة الأميركية
التي كانت تتبنى مشروع الدمقرطة في الشرق الاوسط، فهي
تريد القول بأن الديمقراطية مازالت خياراً خطيراً على
استقرار الاوضاع الأمنية وعلى المصالح الغربية في المنطقة،
إذ أن ثمة جماعات مستترة تتربص بهذه المصالح وستجد في
الديمقراطية فرصة نموذجية من أجل تحقيق مآربها السياسية
بطريقة سلمية أم عنفية.
ما يراد إخفاؤه في هذه المماحكات النظرية، أن العنف
في بلدان عديدة من الشرق الاوسط، وفي السعودية بوجه خاص،
موصول بصورة حميمية بالطبيعة التسلطية والإستبدادية للأنظمة
السياسية هناك. فالديكتاتوريات السياسية التي تفرض قيوداً
صارمة على الحريات وتضع رعاياها تحت وطأة حصار ثقافي وسياسي
وأمني تمثّل مصدر التهديد الأكبر للأمن والإستقرار في
زمن بات فيه الحصول على أدوات التدمير متوفّراً. يتعانق
هذا العامل مع عامل آخر لا يقل أهمية وخطورة وهو أن هذه
الديكتاتوريات متحالفة مع قوى إمبريالية تسلّطية مثل الولايات
المتحدة، ما يمنح قوى المقاومة والمعارضة مصداقية أكبر
حيث أن مصدر التهديد ينظر إليه باعتباره مهدداً بوضوح.
وفيما يزداد دعاة الدمقرطة في الشرق الأوسط تردداً
في السير نحو خيارهم التاريخي، تتبجح الديكتاتوريات العتيقة
في المنطقة في تأكيد ذاتها كخيار نهائي ووحيد للإستقرار،
فيما تضفي الإدارة الاميركية مسحة سحرية عليها باعتبارها
الضمانة الوحيدة لمصالحها الحيوية. ولكن ماذا ينتج عن
ذلك؟ الجواب عن ذلك ببساطة أن شعبية الجماعات العنفية
والمتشددة تتزايد على حساب شعبية القوى الديمقراطية، لا
يغير من ذلك تصاعد وتيرة العنف ضد الأجانب والمسؤولين
الحكوميين والمدنيين، فهذه الممارسات لم تضع نهاية لشعبية
الجماعات المسلّحة، وهو ما يحصل في السعودية التي واجهت
عنفاً سياسياً خلال عقدين منذ انتفاضة الحرم وحتى الآن.
فقد راهنت العائلة المالكة على الحل الأمني لتصفية الجماعات
العنفية، التي لم تنكسر ولكن حظيت بمزيد من الشعبية والقوة،
بل طوّرت تقنيات في العمل المسلّح والتنظيمي ونجحت في
تهديد الإستقرار الأمني والإجتماعي بما جعل كثيراً من
الشركات الأجنبية تحجم عن الدخول الى السوق السعودية خشية
تعرَض منشآتها وموظفيها لهجمات قاتلة.
لم يكن مدهشا البته أن أولئك الذين عبّروا عن إستنكارهم
إزاء سقوط ضحايا في التفجيرات التي قامت بها الجماعات
المسلّحة داخل البلاد خلال السنوات القليلة الماضية، وأدانوا
صراحة العنف لم يهاجموا، في المقابل، المشروع السياسي
لهذه الجماعات، فكثيرون يتطلعون الى نهاية الاضطهاد الداخلي
والاستعمار الخارجي مهما كانت الطريقة التي تؤدي الى هذه
النتيجة المأمولة. وحدهم الحكّام الذين يلجأون الى الإسلام
كمصدر دفاعي عن سياساتهم الاستبدادية لجهة تجريم أعمال
العنف باعتبارها غير متوافقة مع التعاليم الاسلامية.
وفيما تنعى القوى الديمقراطية رهانها البائس على دعم
المجتمع الدولي لمشروع الدمقرطة، يتجدد الهواء في قنوات
التشدد، التي تخوض حروبها الأيديولوجية بسلاح العنف ضد
الدولة والمصالح الاجنبية دون عناء تقديم فاتورة مبررات
لتلك الحروب، طالما أن أفق الدمقرطة كبديل عن العنف مسدود،
وربما يكون هذا الانسداد هذه المرة مؤسساً على تحالف محكم
بين أنظمة ديكتاتورية وقوى أجنبية أصبحت تتبنى الرؤية
الاسرائيلية في أن الديمقراطية بالمواصفات الغربية تعتبر
جريمة كبرى في الشرق الاوسط، حيث سترفع قوى التطرف الى
الواجهة للانقضاض على مراكز القرار بما يحيل المنطقة الى
جحيم على الغرب فضلاً عن الدولة العبرية التي قد تواجه
حتفها بسلاح الديمقراطية التي تخلق نقيضها الموضوعي والتاريخي.
وطالما أن مثل هذه الرؤية ستكون حاكمة على سياسات الغرب
وخصوصاً الولايات المتحدة، فإن موجة العنف ليست مرشحة
للإنحسار، بل من الحماقة توقّع استجابة شعوب المنطقة للّهجة
المضللة التي توسّلت بها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا
رايس في صيف العام الماضي حين أسبغت وصفة (الاعتدال) على
أنظمة ديكتاتورية في الشرق الاوسط مثل مصر والإردن والسعودية،
في إشارة الى التحوّل الإنقلابي في استراتيجية إدارة بوش
في الشرق الاوسط، ونقض خيار الدمقرطة باعتباره وصفة غير
مناسبة أو ربما قاتلة من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية
لا يمكن منحها لشعوب غير مؤهلة للافادة من الديمقراطية،
فيما يتعامى أصحاب هذه الرؤية عن العوامل الجذرية التي
تجعل من الوصفة الديمقراطية قاتلة، أي وجود دول تسلّطية
مازالت تحكم بعقلية ترتد الى العصور الوسطى، وتلقى دعماً
طائشاً من قبل قوى إمبريالية تسلّطية تجعل من الديمقراطية
أداة لضمان مصالحها الحيوية دون حساب للتداعيات الخطيرة
للديكتاتورية السياسية المساندة من الغرب على الأمن والاستقرار
في العالم.
وفيما تتخلى الحكومات الغربية الديمقراطية عن خيار
الدمقرطة فإنها تتبنى أجندة حليفاتها الديكتاتورية في
تصفية الحسابات مع خصومها بطريقة قمعية، لا تفرّق فيها
بين الجماعات العنفية وأضدادها من القوى الديمقراطية.
لقد أصبحت الديكتاتوريات في الشرق الأوسط تتوسل بالحرب
على الارهاب كمصدر أساسي لمشروعيتها الدولية، تماماً كما
الحال نفسه بالنسبة لإدارة الرئيس بوش، وحلفائه في الغرب.
وهنا تصبح الحرب على الارهاب وليس تشجيع الديمقراطية طريقاً
آمناً للخروج من معضلة دعم الدكتاتورية المنتجة للعنف،
حيث يصبح الإسناد غير المشروط للنظم الديكتاتورية مبرراً
طالما أن الهدف هو أكل العنب وليس قتل الناطور.
الغرب يريد ديمقراطية تكفل أمن الدولة العبرية والمصالح
الحيوية للغرب، وهو شرط غير مضمون، لأن الجهتين المراد
تأمينهما خصمان معتديان، من وجهة نظر الغالبية العظمى
من شعوب الشرق الأوسط، وهذا ما يجعل تسويق مشروع الديمقراطية
يواجه تحديات تبدأ بالمصداقية وتنتهي بالجديّة في استعمال
آليات مرنة ومحايدة في تنفيذه. إن أخطر ما يحمله مشروع
الدمقرطة بالمواصفات الغربية أنه جاء لتصفية الحسابات
مع الحركات الاسلامية التي توصم عادة بالعدو، ما يبطن
نوايا التهميش لقطاع كبير من شعوب الشرق الاوسط والمناصر
لحركات دينية تعقد آمالاً عليها في تحقيق تطلعاتها في
الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية. في المقابل، تهدف
هذه الديمقراطية الى المحافظة وشرعنة المعادلات السياسية
المحلية والاقليمية القائمة دون تغيير، وهذا ما يجعل ديمقراطية
من هذا القبيل مرفوضة حين تكون شرطاً لإقرارها، لأنها
تجعل حق الشعوب في اختيار حكّامها عن طريق صناديق الاقتراع،
وانتخاب ممثليها في المجالس البرلمانية، وإقرار نظام محاسبة
وشفافية يحول دون تعديات رجال المؤسسات البيروقراطية،
مشروطاً بضمان حق الحصول على النفط والتسهيلات العسكرية
والاستثمارات الاقتصادية للغرب من جهة، وضمان أمن الدولة
العبرية من جهة ثانية.
لم يعد مثيراً للإنتباه أن يصدر تقرير عن حقوق الانسان
هذا الشهر (مايو) بأن الاصلاحات في الشرق الاوسط فاشلة،
لأن نباح واشنطن كان أسوأ من نهشها كما يقول تعليق لمجلة
(الايكونوميست)، فقد تخلّت إدارة بوش التي أطلقت دعوتها
الاصلاحية في صيف 2005 على لسان وزيرة الخارجية كونداليزا
رايس في كلمة لها بالجامعة الأميركية بالقاهرة، حين حذّرت
حكومات عربية مثل مصر والاردن والسعودية وغيرها من مغبة
التلكؤ في تطبيق إصلاحات سياسية وإقتصادية في بلدانها.
افتقار الدعم للخيار الديمقراطي شجّع الحكومات الديكتاتورية
خصوصاً بعد حصولها على وسام (الاعتدال) الاميركي على السير
في سياساتها الشمولية بعد اطمئنانها الى أن واشنطن المشغولة
حتى النخاع بالتفكير في الخروج من الوحل العراقي لن تعير
إهتماماً لما يجب أن تكون عليه الحكومات في المنطقة. وهنا
تكمن خطورة المأزق الأميركي الذي يتلقى الآن الضربات الموجعة
من حلفائه الذين يطلقون رسل الموت الى العراق ليردوا الصاع
صاعين للقوات الأميركية ويشيعون الموت في صفوفه وصفوف
المدنيين في العراق الذين يدفعون ثمناً باهظاً كانتقام
غير مباشر من الادارة الاميركية كيما تبقى مشغولة بنموذجها
الديمقراطي ـ الضحية، قبل التفكير في تعميمه، الأمر الذي
يجعل التفكير في خيار الدمقرطة معلولاً كحل لحكومات ديكتاتورية،
وهو ما تريد الاخيرة إيصاله الى واشنطن.
|