بعد فشل التغيير من الداخل الرسمي
خيارات التغيير: ثورة، انقلاب عسكري، عنف وشغب مستمرين
هاشم عبدالساتر
لا يوجد رهان على تغيير سلمي يقوم به الأمراء السعوديون.
فبعد وعود كثيرة منذ مطلع الألفية الجديدة، وبعد الإكثار
من التصريحات التي تعد بالإصلاح السياسي والإقتصادي والقضائي،
خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001م، ساد الصمت الملكي، وتسلّم
زمام المبادرة أمراء العنف والقسوة (التيار السديري ووزير
الداخلية)، فتم تكسير الحركة الإصلاحية الوليدة بالإعتقالات
والمنع من السفر والطرد من الوظائف وتضييق هامش الحريات
الصحافية وحرية التعبير عموماً، إضافة الى التشديد في
غلق الديوانيات، ووضع قيود شديدة على المحاضرات والندوات
وغير ذلك.
لا توجد الآن أية وعود أميرية أو ملكية بإصلاح من نوع
ما، ولا يوجد ـ من خلال الممارسة الرسمية ـ ما يشير الى
أن النهج الحاكم قد تغيّر في الأداء في مختلف المجالات
القضائية والسياسية والإقتصادية والأمنية. وبإمكان المراقب
بعد أن هدأت الضجّة، أن يقيّم ما جرى خلال السنوات الست
الماضية على الأقل، فيما يتعلق بخطوات الإنتخابات البلدية،
وإنشاء بعض منظمات المجتمع المدني (برئاسة حكومية!) كما
هي الحال مع الجمعية الأهلية لحقوق الإنسان، وهيئة الصحافيين
وأمثالهما. لن يصعب على الباحث اكتشاف حقيقة أن المنجز
يقارب الصفر، إن لم يكن ما جرى يمثّل ارتداداً عكسياً
ليكون الوضع الحالي أسوأ مما كان عليه سابقاً، كون هذه
الإجراءات التجميلية قصد منها الخداع ليس للشعب المسعود،
بل للغربيين حلفاء النظام.
وإذا كان التغيير يعتمد في جانب منه على موج دولي ضاغط
على الوضع المحلّي والسياسيين المحليين من أجل إحداث نقلة
تغييرية ما، فإن مثل هذه الضغوط تلاشت نهائياً، وعاد الغرب،
خاصة أميركا وبريطانيا الى ممارسة الدعم العلني للديكتاتوريات
في الشرق الأوسط، وبالذات حلفاء أميركا المعتدلين.
وهنا نشير الى مسألتين مهمتين:
الأولى ـ انخفاض مستوى التعبير عن دعوات الإصلاح الداخلي،
وإذا ما ذكر فإنه لا يتطرق الى الشق السياسي ولا الى الشق
القضائي. أما موضوع دمقرطة النظام، فمقابل الحديث الكثير
الذي كان يجري سابقاً لتحفيزه، جاء الآن رجال وزارة الداخلية
ليشوهوا معنى الإصلاح نفسه. مثال ذلك ما كتبه في (الوطن)
في 6/6/2007، محمد معروف الشيباني من تشويه تحت عنوان:
(ديمقراطية يريدونها)، حيث جاء: (نريد ديموقراطية ركائزُها
الانتخابات وتداول السلطة. إنها مطالب نسمعها من بعضنا
أحياناً. فلْنخْتر بين واقعنا وواقع من سبقونا بتلك المطالب).
وبعد أن يسرد ما جرى في العراق ولبنان (بسبب الديمقراطية!)
وليس بسبب غيابها كما هو واضح، تساءل: (هل تلائمنا الانتخابات
الأحادية حيث الفوز دوماً له وله فقط ب 97%، أم يناسبنا
التعامل مع الواقع؟ أم نحافظ على من يحكم ويحتكم إلى شرع
الله وحده؟ هل نبتغي ديموقراطيتهم وانتخاباتهم، أم نفضِّل
السماحة السعودية والمجالس المفتوحة فيصل المواطن للملك
ولأي أمير شاء؟). ويضيف منتصراً للملكية: (الفرق بين الملكيات
والجمهوريات، أن الأولى تربي أُسرُها الحاكمة ابنها ليكون
يوماً ما أميراً أو حاكماً أو ملكاً يخدم شعبه. أما الرئيس
فالطبيعي أن أبويه ربَّياه ليكون مبدعاً في أية وظيفة..
طبيباً أو محاسباً أو مهندساً أو أي شيء.. إلا أن يكون
رئيساً أو حاكماً لاستحالة التفكير في احتمالها. فهل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!). كنا نعتقد أن مثل هذا
الخطاب الباهت قد عفا عليه الزمن، لكن يبدو أن مثل هذا
لن تجده في أي بلد في العالم، اللهم إلاّ في السعودية،
ذات (الخصوصية) المزعومة.
الثانية ـ انكماش فضاء حرية التعبير بقوانين صارمة
من وزارة الداخلية السعودية. وقد كان آخر القرارات ما
نشرته (الجزيرة) في 6/6/2007 بعنوان: (الداخلية تحدّد
ضوابط الندوات الفكرية والثقافية) حيث جاء: (حدَّدت وزارة
الداخلية عدة اشتراطات وضوابط لإقامة اللقاءات والندوات
الثقافية والفكرية في مناطق المملكة، وتمثلت الضوابط في
أخذ موافقة إمارات المناطق عند الرغبة في إقامة أي منشط
ثقافي أو فكري، على أن تحدِّد الجهة المنظمة نوعية اللقاء،
ومحاور النقاش، ومستوى المدعوين، وهل معهم أجانب، والأعداد
المتوقعة. كما اشترطت على الجهة المنظمة للفعاليات الثقافية
والفكريّة فرض حراسات أمنية مدنية خاصة، على أن تشرف على
توزيع بطاقات الدخول للمدعوين. الضوابط الجديدة شملت أيضاً
تهيئة القاعات بأجهزة المراقبة التلفزيونية للرصد والتصوير،
وأن يكون على بوابات الخروج كاميرات فيديو لتصوير الداخلين
والخارجين، وتوثيق المناسبة للرجوع إليها عند الحاجة)!
الإنقلاب العسكري
التغيير عبر الإنقلاب العسكري صعب وإن لم يكن مستحيلاً.
وقد تحدثنا في العدد الماضي عن أحدث انقلاب عسكري جرى
في السعودية، الأمر الذي يشير الى انسداد وسائل التغيير
الأخرى، فضلاً عن إشارته الى شعور شرائح اجتماعية عديدة
بالحاجة الى تغيير من نوع ما يكسر حلقة الرتابة، ويعيد
الحيوية للدولة، ويقضي على الفساد المستشري فيها. ولقد
كانت الإنقلابات العسكرية السمة الأبرز للتغيير في العالم
العربي، وكان للمملكة نصيبها، لكنها لسبب أو آخر لم تنجح
حتى الآن، وقد اتخذت العائلة المالكة عدة إجراءات استباقية
لمنع وقوع الإنقلاب.
من بين تلك الإجراءات: إبقاء عدد الجيش صغيراً (لا
يتجاوز في الوقت الحالي ستين ألفاً)، وإبعاده عن الأماكن
المدنية في قواعد عسكرية معزولة حتى لا يتأثر بالقضايا
المحليّة. وتجريد الأسلحة ـ خاصة سلاح الطيران ـ من الذخائر،
وأيضاً: تعيين أمراء على رأس القواعد والإستخبارات العسكرية،
والدفاع الجوي، ودفع الأمراء ليكونوا طيارين عسكريين،
ووضع بديل عن الجيش في حال تمرده يعتمد على الإستفادة
من قوات الحرس الوطني. فضلاً عن ذلك، القيام بحركة تبديل
سريعة في قيادات الجيش لإجهاض أي تخطيط محتمل من قبل إنقلابيين،
وإحالة كبار الضباط على التقاعد (المبكر) لذات الغرض.
إن تجربة الإنقلابات العسكرية في التغيير غير مشجعة
في العالم العربي، فضلاً عن أن الأنظمة العربية جميعاً،
طوّرت جهاز مناعة لتفادي الإنقلابات، فصار وقوعها أقل
عدداً مما كان عليه سابقاً. وبالرغم من احتمالية وقوع
انقلاب عسكري في السعودية، أو مشاركة الجيش في حركة احتجاج
أوسع، إلا أن ضمانات نجاحه تبقى قليلة.
الثورة الشعبية
ويقصد منها تحرّك الجمهور بشكل واسع ومباشر في عملية
التغيير، عبر المظاهرات والإضرابات والإحتجاج، بغرض إسقاط
نظام الحكم. ولكن هذا الإحتمال شبه مستحيل الوقوع في السعودية،
بالنظر الى حقيقة أن السعودية بلد مفكك مناطقياً ومذهبياً
وسياسياً وجغرافياً وبيئياً وحتى اقتصادياً. وبالتالي
فإن الجماعات المناطقية والمذهبية والقبلية المشكلة للكيان
لا يجمعها (هوية وطنية) يمكن أن تولد شعوراً جمعياً وبالتالي
تحركاً سياسياً موحداً. خاصة وأن الإنشقاقات الإجتماعية
والدينية والمناطقية التي دأب آل سعود على تغذيتها والنفخ
فيها، مترافقةً مع محاباة جماعة بعينها (نجد الوهابية)..
كل هذا يجعل من الصراع بين الجماعات بديلاً عن الصراع
مع الحكم السعودي نفسه، وأن تتحول أية مواجهة بين آل سعود
وحركة شعبية الى دخول العامل المذهبي والمناطقي النجدي
لصالح النظام. لهذا، فإن الثورة الشعبية غير وارد ة الوقوع،
وبالتالي فإن الأكثر احتمالاً هو تفكيك السعودية، عبر
ثورات محلية، لن تتم إلا عبر بوابة الحرب الداخلية مع
النظام ونجد الحليفة والمحظية الرسمية.
الشغب والعنف المستمرين
البديل عن إجراء التغيير السياسي التدريجي من قبل النظام،
ومنعه أية محاولات لإصلاحه من خارج إطاره (الملوكي) هو
تنفيس الإحتقانات الشعبية على شكل موجات عنف أو شغب، ترتفع
وتنخفض وتيرتها حسب سياسات النظام اليومية، وقدراته الفعلية
على الأرض. وقد دخلت المملكة هذا الطور من عدم الإستقرار
منذ بداية التسعينيات الميلادية، وتأكدت صعوبة الخروج
منه إلا الى وضع أسوء بعد أحداث 9/11، حيث تفجرت أعمال
العنف في العاصمة ومدن سعودية عديدة أخرى، مترافقة مع
انحطاط كبير لهيبة الدولة ما أثر على قدرتها الردعية،
ولاتزال الأمور على هذا النحو. بيد أن بعض الحوادث تشير
الى فلتان سيطرة الدولة في بعض الأحيان على أحياء معيّنة
أو في مناسبات معيّنة، حيث يسيطر الشغب على الشارع ويتم
التعدي علناً وبشكل فج على المارة ويعتدى على النساء دون
أن تكون للدولة قدرة على إيقاف مثل هذه الأفعال.
نعم استطاعت وزارة الداخلية قمع التظاهرات ومنع انطلاقها
في كثير من الأحيان، لكن الشغب يختلف عن ذلك. وفي الشهر
الماضي حدثت مصادمات بين أهالي في مدينة العوامية ورجال
الشرطة بالسلاح، وبعض الاسلحة المتوسطة، كما أُفيد عن
اشتباكات في مناطق أخرى من المملكة بين رجال القبائل وقوات
السلطة. كل هذا يدفع بنا الى الإعتقاد بأن هيبة الدولة
آخذة بالتآكل، وبالتالي سيتوسع مجال التحدي الشعبي لها
وينتقل الى الشارع (المضبوط بقوة هذه الأيام) ومن ثم ستكون
المواجهة مفتوحة، وقد تتطور الى توترات أوسع تقترب من
(ثورات مناطقية).
ما لذي يميّز (الشغب) عن (الثورة)؟ وكيف تتطور الأحداث
تبعاً لذلك؟
الثورة، يقصد منها الثورة الإجتماعية التي تستهدف التغيير
بصورة راديكالية الفضاءين السياسي والإجتماعي، وهي: (سريعة،
تتضمن تحولات غير معقدة في هيكلة المجتمع والدولة والطبقات،
وتترافق مع انتفاضات طبقية من الأسفل الى الأعلى)(1).
وهذا يختلف عن الإنقلابات العسكرية التي هي بمثابة (ثورة
سياسية) قد تؤدي الى (ثورة اجتماعية) في وقت لاحق، أي
بعد أن ينجز العسكر مهمتهم في إسقاط النظام، مثلما كان
الحال في مصر والعراق عامي 1952، 1958 على التوالي. أما
الشغب فيعرّف مختصراً بأنه (اضطرابات عنيفة يقوم بها حشد
من الناس)(2).
أما الفوارق بين الشغب والثورة فيمكن ملاحظتها في النقاط
التالية:
1) من جهة إمكانية الوقوع، فإن الثورات نادرة الوقوع
في التاريخ (3)، وبالتالي لا تشكل الثورات ظاهرة يمكن
دراستها بسهولة، خاصة وأن معظم الثورات لها خصائص فريدة
من نوعها، سواء تلك التي وقعت في الغرب (فرنسا) أو المشرق
(الصين، إيران) أو أفريقيا وأميركا اللاتينية. أيضاً فإن
الثورات ـ بلحاظ التاريخ الحديث ـ لا تقع إلا في البلدان
غير المستقرة سياسياً، أو بتعبير آخر تلك الدول التي تفتقد
الشرعية. في حين أن الشغب يمثل ظاهرة كثيرة الوقوع وفي
كل البلدان الديمقراطية وغيرها من النظم السياسية.
2) من جهة الشرعية، فإن الثورات تشير الى أزمة في شرعية
النظام القائم، في حين أن وقوع شغب لا يشير بالضرورة الى
فشل في الشرعية، اللهم إلا إذا تصاعد الشغب وتواصل. وعموماً
فإن الشغب (يحدث في الغالب في المجتمعات التي تعتمد أنظمتها
على القمع للحفاظ على النظام العام)(4).
3) في التنظيم، فالثورات تختلف عن الشغب من جهة تطبيق
الأولى لمعايير تنظيمية عالية للنشاطات المخطط لها، والتي
تعتمد حسابات دقيقة لرد فعل النظام وسياساته. في حين أن
الشغب عمل غير منظم ويعود ذلك الى: (أ) وجودة القيادة،
ففي الثورات هناك قيادة معروفة أو مستترة لأسباب سرية،
وهي قيادة مثقفة ولها اتصالها التنظيمي طويل المدى ومستمر
بالأنشطة الثورية. وفي الشغب ليس هناك قيادة واضحة، وعادة
ما يكون أولئك الذين يشكلون مقدمة الإحتجاج في المظاهرات
مثلاً أساس الشغب وقادته. (ب) أيضاً هناك اختلاف بين المشاركين
في الثورة والمشاركين في الشغب، فالمشاركون في الثورات
عادة ما يكونوا متعلمين، منضبطين، ويتصرفون بعقلانية،
في حين أن المشاركين في الشغب غالباً ما يكونوا من ذوي
التعليم المحدود، ومن الفقراء، ومن الذين يتبعون عواطفهم
وليس خياراتهم العقلية. إن فعل الشغب غير مؤدلج، أو لا
يأتي بتأثيرات أيديولوجية، وفي كثير من الأحيان يتصرف
المشاركون في الشغب وفق سجيتهم وتحقيقاً لرؤيتهم لأهدافهم(5)،
وقد يقود شخص في المقدمة الجميع بفعل واحد فيصنع جوّاً
نفسياً ينخرط فيه المشاركون بدون وعي. وفي الجملة فإن
المتعلمين يمكن أن ينخرطوا في نشاطات سياسية ذات طابع
تآمري من أجل تحقيق تغييرات راديكالية في النظام السياسي،
في حين يقوم الأقل وعياً بالمشاركة في الشغب والإضطرابات.
إضافة الى ذلك، فإن المشاركين في الشغب تتحكم فيهم دوافع
اقتصادية واجتماعية، أما المشاركون في الثورات (الثوار)
فينحصر اهتمامهم في التفكير في كيفية حيازة السلطة السياسية
(6).
4) في الأهداف، تستهدف الثورة تغيير بنية النظام السياسي
بصورة راديكالية، أي تدمير المؤسسات السياسية القائمة
وإنشاء بديل لها من الثوار أنفسهم، كما يستهدفون تغيير
الأيديولوجيا والثقافة والسياسات الداخلية والخارجية ونظام
الطبقات الإجتماعية. ولهذا فإن التغييرات الجذرية التي
تستهدفها الثورات تشرح حجم حدّيتها وحجم استخدامها للعنف(7).
أما الإحتجاج الذي يتحول الى شغب فإنه لا يستهدف تغييرا
جذرياً، بل هو في الغالب رد فعل محدود على قرار أو شخص
أو سياسة حكومية معيّنة (مثال ذلك، ثورة الخبز في مصر
في 17 و18 يناير 1977 والتي وصفها السادات بانتفاضة الحرامية!،
ومثلها شغب البريطانيين ضد ضريبة الرأس في الثمانينيات
الميلادية في عهد ثاتشر، وما حدث في الأردن وتونس من احتجاجات
على رفع أسعار بعض المواد الغذائية والمحروقات).
5) الشمولية والجزئية، فالثورة عمل شامل يستهدف تغييراً
شاملاً، أما الشغب فعمل جزئي محدود ينتهي إما بتحقيق الهدف
الجزئي أو التنفيس عن الإحتقان الآني ضد سياسة معيّنة.
لكن الشغب قد يصبح مقدمة للثورة. هذا يعتمد على الطريقة
التي يواجه فيها النظام وقواه من الشرطة حالة الشغب، فقد
يكون استخدام العنف بصورة حادّة الشغب والمظاهرات في بدايتها
خطأ مميتاً في بعض الأحيان، إذ بدل كسر العمود الفقري
للعنف المدني، يتصاعد أكثر من حيث عدد الأفراد وينتشر
الى مدن أخرى. هذا ما تحكيه قصة انطلاقة الثورة الإيرانية
ـ مثلاً ـ فالمظاهرات كانت ضد الإستهزاء بالخميني في صحيفة
رسمية، فووجهت بالرصاص في قم، وانتقلت الشرارة وتواصلت
مسيرة التظاهرات حتى تحولت الى ثورة أطاحت بالشاه. وفي
اميركا اعتاد المسؤولون الأمنيون عدم مواجهة الجمهور (الأسود
غالباً) في اندفاعته الأولى وترك الجمهور ينفس عن نفسه
من خلال الحرق وتدمير الممتلكات العامة لفترة ساعات أو
حتى أيام (كما حدث في شغب لوس أنجليس 1994) الى أن ينخفض
منسوب الحماس، فتتدخل الشرطة وقواها وتكسر المتظاهرين
والمشاغبين على حد سواء.
إن طريقة مواجهة السلطات للشغب محدد أساس لتطوره أو
الى انخفاضه. وليس هناك دليل على أن المواجهة الحاسمة
بالعنف أو الإعتدال يفيد قضية دون أخرى. فأحياناً يكون
تهاون السلطات سبباً في تطور الشغب، هذا يعتمد على كل
حالة بعينها وظروفها الإجتماعية. فمثلاً في السعودية،
فإن قوات السلطة قد جرّبت ذات مرة الرصاص في مواجهة المتظاهرين
في شهر محرم 1400هـ فأدى الأمر الى مظاهرات أخرى والى
استيلاد حركة معارضة استمرت عقدين من الزمان وربما لازالت
لها بقايا. ولكن السلطات نفسها اليوم لا تواجه الجمهور
الشيعي في أيام عاشوراء، لأن نفسية الجمهور مهيّأة للصدام
وللتضحية بالذات، ولهذا ما أن تهدأ الأوضاع بعد انتهاء
موسم عاشوراء الديني حتى تبدأ الإعتقالات والتحقيقات والسجون!
الشغب قد يطور أهدافه الجزئية الى أهداف كليّة، فكل
ما طلبه الإيرانيون من الشاه اعتذاراً من صحيفة على كاريكاتير
مسيء، ولكنه رفض ذلك، واستمرّ الصدام أشهراً عدّة حتى
أطاحت به الثورة، التي تحول شعارها الى (الموت للشاه)
فأزالوا نظامه وتوفي في المنفى. ولهذا أيضاً، فإن بعض
الأنظمة تلتف على الأمر وتبادر بسرعة الإستجابة لمطالب
الشغب أحياناً، وفي أحيان أخرى تمارس أقصى العنف، فإذا
ما انتهت من ذلك قدّمت (الجزرة) وأعلنت تراجعها. ومن هنا
فإن الدول تنظر الى أعمال الشغب كإشارات تحذير أولية على
أن هناك خلل ما يجب إصلاحه في السياسة الحكومية. وفي بعض
الدول مثل السعودية، يستهان عادة بالجمهور وبقدرته على
تطوير أداة اعتراض تسجل حضورها في الشارع، لكن هؤلاء لا
ينتبهون الى حقيقة أن الجمهور نفسه ـ في حال انسداد التنفيس
ـ تتطور لديه الحالة النفسية لحرق المراحل باتجاه استخدام
العنف، وهو ما يحدث فعلاً الآن. فقد تكون مطالب الجمهور
واضحة ـ كما هي في السعودية الآن ـ إصلاح سياسي خفيف،
وشيء من الخدمات الأولية، وإيجاد فرص للعمل، وبعض من حرية
التعبير. لكن رفض هذا، أو القيام بعكسه، وحتى وإن لم يؤد
الى رد فعل سريع وصادم ـ مثلاً ضد انهيار سوق الأسهم ـ
فإن الإنحباس الداخلي للأفراد قد يكون جارفاً حاداً في
أول فرصة يجدها أمامه، وقد يكسر الماء المحتجب، السدود
بعد تراكم زمني طويل.
في المقابل، فإن الثوار المختبئون بعيداً عن أعين السلطات،
قد يشجعون الشغب لأهداف عدّة: لإسقاط هيبة النظام السياسي،
وممارسة الضغط على الحكومة المركزية ودفعها لتقديم تنازلات
من نوع ما، أو حتى لدفعها لممارسة العنف ضد الجمهور لتحويل
ولائه عن النظام، وليكون الجمهور أرضاً خصبة لتجنيد المزيد
من الأشخاص في صفوف الثورة. أيضاً يهتم الثوار بالشغب
من جهة كونه يظهر ضعف النظام السياسي، ومنظماته القمعية،
الأمر الذي يزيد من الأنشطة المعارضة للسلطة دون الخوف
من رد فعلها. أيضاً، قد يستهدف الثوار إشغال أجهزة الأمن
وحرف اهتمامها عنهم وعن نشاطاتهم المنظمة.
6) العامل الخارجي، حيث أن الشغب ذا بعد محلي محض،
أي ليست له جذور خارج الدولة، ولذا يمكن دراسته والنظر
اليه على أنه معطى محلي محض. فدوافع الشغب، كما المشاركين
والمشاغبين، كما التأثيرات التي يقومون بها، والنتائج
المترتبة على الشغب كلها ـ بشكل عام ـ ذات طابع محلي.
والشغب فوق هذا لا يستمدّ زخمه من عوامل خارجية، ولا يحتاج
في الأساس الى دعم خارجي، وهو يحدث بشكل مفاجئ في كثير
من الأحيان كرد فعل سريع على سياسة أو حدث ما، بحيث لا
يكون هناك وقت للحشد الذي تسيطر عليه حالة نفسية معيّنة
أن يفكر في التخطيط لأنه بدون عقل قائد أساساً، ولا الى
التفكير في الإستعانة بقوى خارجية لإشعال الإنتفاضة او
الشغب.
على عكس ذلك الثورات، فلها بعد دولي وإقليمي واضح،
ولا يمكن دراستها على المستوى المحلي فقط، وإنما الإحاطة
بالظروف السياسية الإقليمية والدولية. والثورات يعتمد
نجاحها على تلك الأوضاع من جهة، كما أن لها تأثيرات إقليمية
ودولية واسعة، وبالتالي فإن الثورات تلقى صدى واهتماماً
من الجوار الإقليمي كما للنظام السياسي نفسه والتي تتأثر
بالثورات بشكل مباشر(8). بمعنى آخر، بالرغم من أن الثورات
لها جذورها المحلية العميقة، فإنها لا يمكن أن تعتبر (شأناً
داخلياً) لا من جهة قيادات الثورة ولا أعدائها، خاصة وأن
الثورات ـ في الغالب ـ بحاجة الى الدعم السياسي واللوجستي
من الخارج، بعكس الشغب.
7) استخدام العنف والتعاطف الشعبي. بالرغم من حقيقة
أن الثورة كما الشغب يستخدمان العنف، فإن الثورات تركز
في استخدامها للعنف على أهداف محددة، غالباً ما تتصل بمنظمات
النظام السياسي وأجهزته الأمنية والعسكرية، وفي كثير من
الأحيان يقوم الثوار بعمليات اغتيال في مرحلة من مراحل
ثورتهم. أما الشغب فإنه في أكثر الأحوال يتعرض للممتلكات
العامة وأحياناً الخاصة وفي كثير من الأحيان يتم الحاق
الضرر بالأبرياء. ربما لهذا السبب، فإن الشغب يستقطب تعاطفاً
أقل من قبل الجمهور، وبالنسبة للثورات فإنها قد تلقى تعاطفاً
أكبر من الأشخاص، ولكن دون المشاركة فيها. فالجمهور يوازن
بين الأرباح والخسائر، وحين يجدون أن ثمن المشاركة في
الثورة عالياً فإنهم لا يجدون حينها سوى التعاطف القلبي.
وهنا يجب ملاحظة أن مطالب (الشغب) لها في الغالب وزن وتتمتع
بمصداقية ودعماً من الجمهور، ولكن لا يتم دعم الإحتجاج
الذي يؤدي الى شغب يضرّ بالأبرياء.
8) وأخيراً، هناك فارق بين الشغب والثورة يتعلق بالعمر
الزمني لكليهما. فالشغب حادث قصير العمر، بين ساعات وأيام،
في حين أن الثورات قد تستمر لمدة طويلة، أشهراً أو سنوات.
مراجع:
T. Skocpol, State
and Social Revolution
Oxford University Press, The Oxford Popular English Dictionary
- London 1998
Ted Robert Gurr, Why Men Rebel
Paul Cammack, David Pool & William Tordoff, Third World Politics: A Comparative Introduction, Kent 1993
|