الـد ولـة المـو قـتـة
ما يشكّل عامل حسم بين المؤقت والدائم ليس فارق الزمن
فحسب، بل حاصل جمع عوامل متداخلة منها ماهو متصل بالنظرة
والإحساس، ومنها ما هو مندغم في السلوك والممارسة العامة
التي تحدد عملياً العلاقة بين ماهو مؤقت وماهو دائم. ويلزم
التذكير دائماً، أن التطابق بين النظرة الى الشيء وممارسته
ليس حتمياً، فقد يؤمن الإنسان بقضية محددة ولكنه قد يمارس
في ظرف ما خلافاً لمقتضى الدفاع عنها، وليس بالضرورة أن
يكون عدم التطابق ناشئاً عن جهل بالقضية أو بأساليب الدفاع
عنها، بل قد تتدخّل عوامل أخرى تحجب الرؤية، أو تحرف المسار
الموصل الى الهدف، وللقارىء أن ينشّط ذاكرته قليلاً لاستذكار
أمثلة لذلك التنافر بين الإيمان بقضية ما عادلة والعمل
على خلاف مقتضياتها.
بعض الذين مازالوا يأنسون إلى العودة بصورة خاطفة إلى
حساب الضمير، يعتب على الزمن نفسه بقسوته وظروفه المتقلّبة
التي جعلته أسير واقع خادع، أو مصالح طارئة، ولكن المأساة
هي أن يتحول هذا الواقع الخادع في كثير من الأحيان إلى
سبب وجيه لدى هذا البعض لتبرير الإنغماس فيه، وإن بدت
مؤشرات الفناء في نهايته.
ما سبق من وضمات تمهيدية يدعونا إلى طرح الفكرة الجوهرية
التي نريد تكثيف الضوء عليها هنا وهي الدولة حين تسير
عكس صيرورتها التاريخية، لا بوصفها مجرد حالة ثابتة من
حيث هويتها ووحدتها فحسب بل ومن حيث دينامياتها ووظائفها
المعزّزة لتماسك الدولة نفسها.
فالدول، في إنطلاقتها الأولى لا تحكم مصيرها أو تؤسس
بنيانها وفق مديّات زمنية محددة، فهي ترتبط بالجماعات
التي تتناسل فيها وتحكمها من خلال تنظيم مصالح متبادلة،
وحاجات مشتركة مثل الأمن، والعيش المشترك، والسلام الإجتماعي،
والرفاه العام. إذاً هي حالة تراكمية في التجربة بوصفها
فعلاً بشرياً متحرّكاً ومتطوّراً وهي ثابتة في التكوين
والهوية باعتبارها إطاراً جيوبوليتيكياً مستقراً. هذا
يعني أن ثمة مؤقتاً مندمج في الدائم، ولكن ليس على سبيل
التعارض والتزاحم وإنما على سبيل التفاعل والتكامل والتعاضد.
فالدولة هنا مضمار تطوّر المجتمع بتعاقب إجياله خلال مراحل
تكامله، وهي مرصد لحاجات، وخبرات، ومطامح، وأهداف مواطنيها
عبر الزمن. ولذلك فلكل دولة مخزونها من التجارب وحلقات
التطوّر الخاصة بها، وهي الكفيلة بتوفير المناعة للدولة
أمام خطر التفسّخ الداخلي أو العطالة التاريخية أو حتى
العدوان الخارجي.
ولربط ما بدأنا به نقول بأن الدولة تحقق ديمومتها من
خلال نظرة وإحساس القائمين عليها بوصفها كياناً دائماً،
ولا يكفي ذلك وحده، بل وأن يترجم عملياً في سلوك الطبقة
الحاكمة والجهاز الذي يدير شؤونها. فمن أجل أن تحمي هذه
الطبقة مصير الدولة لابد أن تدرك بأن لا بقاء لدولة يكون
العمل على خلاف مقتضى ديمومتها، كمن يأكل من بستان ثم
يقطع أشجاره الواحدة تلو الأخرى أو يحرمه من السقاية،
حتى يأتي بعد فترة من الزمن ليرى أن ما يملكه ليس أكثر
من قاع صفصف، فقد أمات فيه عنصر الديمومة فلم يعد بستاناً.
ثمة فارق بين الدولة الدائمة والدولة المؤقتة هو درجة
إنفتاحها على الداخل والخارج، فمتى ما كانت دولة منفتحة
على ذاتها أصبحت دائمة لأنها تكون خاضعة للتصحيح والإصلاح
الذاتي، وبالتالي فهي تكتسب ديمومتها من مصادرها المشروعة
والحقيقية التي يمثّل الشعب أهم أركانها، كما أن الإنفتاح
على الخارج يجعلها في حالة تفاعل مع الآخر الذي يلتقي
معها في نقاط مشتركة عدة منها المصالح والحاجات المتبادلة.
للتذكير فحسب، لا يمكن أن تجمع بين انغلاق الدولة على
الداخل وانفتاحها على الخارج، فهما عنصران متظافران وليسا
متنافرين، يعضد أحدهما الآخر، ومهما تم تزييف الواقع لفترة
من الوقت فلن يصمد طويلاً، ولن يثمر كثيراً.
الطبقة الحاكمة في ديارنا، بالرغم من أنها تنتمي إلى
أسرة مالكة ترى في الدولة إمتيازاً عائلياً لها، فهي،
أي الدولة، على حد العبارة المشهورة (ملك الآباء والأجداد)،
فهي تمثل مستند وأساس الرؤية للدولة القائمة، بأنها ملك
متوارث خاص، ويفترض أن يشكّل هذا دعامة وحافزاً للحفاظ
على ديمومة الكيان الذي تزعم بأنها أنشأته وتوارثته، فهل
ذلك الزعم يتطابق مع الممارسة العملية لهذه الطبقة؟
ينبىء كل سلوك الأمراء الكبار عن أن عمر الدولة قصيرٌ،
وليس هناك ما يكفل إطالته (والأعمار بيد الله)، فاللهاث
الشديد نحو وضع اليد على الأموال العامة (والخاصة إذا
أمكن)، والعقارات العامة (والخاصة إذا تيسّر)، يوحي وكأن
الأمراء يتسابقون الى آجال معجّلة ويتنافسون على أمر يخشون
فوات وقته، فكم من أمراء العائلة من هم متورّطون في قضايا
رشى وفساد مالي وسرقة أراضٍ وعقارات في أرجاء مختلفة من
المملكة، وكم صفقة عسكرية أو حتى مدنية مع الخارج ليس
لهذا الأمير وذاك نصيب من المال أو الإمتيازات فيها. وهذه
لم تحصل لكون الأمراء ينظرون فيما يفعلون بأنه حق خاص
لهم كما كان لآبائهم وأجدادهم، ولو كان الأمر كذلك لأخذوا
ما يشبع نهمهم، وأبقوا على ما يبقى دولتـ(هم) كما يزعمون.
ولكن ما لا يفصحون عنه وإن كان غائراً في سرائرهم أنهم
لا يأمنون بقاء الدولة فهم يريدون أن يسرقوا قرش الدولة
الأبيض ليوم المنفى الأسود.
|