احتمالات القمع الرسمي راجحة
الموج الإصلاحي الجديد الى أين؟
حـسـن الـدبـاغ
خلال الأشهر القليلة الماضية تسارعت الممارسات والنشاطات
والدعوات المطالبة بالإصلاح بشكل عام، أو بجزئية من جزئياته
الكثيرة. فقد قامت زوجات وأمهات بعض المعتقلين السياسيين
بالإعتصام في بريدة، مطالبين بمحاكمة أبنائهن أو إطلاق
سراحهم، وفقاً للأنظمة القضائية التي أصدرتها الحكومة
ولم تلتزم بها وزارة الداخلية، الأمر الذي تبعه اعتقالهن
لمدة قصيرة، وإحالة الإصلاحي الدكتور عبدالله الحامد وآخرين
الى المحاكمة بتهمة التحريض على ذلك الإعتصام.
كما أن عريضة جديدة أشبه ما تكون بشكوى من ممارسات
وزير الداخلية قدمت للملك الشهر الماضي، تطالبه بإيقاف
تجاوزات وزير الداخلية وإطلاق سراح المعتقلين أو محاكمتهم
المحاكمة العلنية مستوفية الشروط القضائية الصحيحة، ودعت
العريضة الملك الى القيام بإصلاحات كان وعد بها. وقع العريضة
نحو 124 شخصاً، وتعرض بعضهم للضغوط من وزارة الداخلية
بحيث أن أحدهم نفى أنه كان أحد الموقعين عليها وأن هناك
من تجنى عليه، وهي ذات الطريقة التي لعبتها وزارة الداخلية
سابقاً واعتمدتها حجة في سجن دعاة الإصلاح (الدميني والفالح
والحامد وغيرهم).
في ذات الفترة التي نتحدث عنها، ظهر علينا الأمير طلال
منتقداً استبداد واستئثار الجناح السديري بالحكم، وانتقد
اعتقال الإصلاحيين، وأعلن عزمه تشكيل حزب سياسي كرد فعل
على الإقصاء وغيره.
وتلا ذلك تحشيد مجموعة من النساء لجهودهن داخلياً وخارجياً
من أجل السماح للمرأة بقيادة السيارة، وانتزاع ذلك الحق
بصورة أو بأخرى. وقد رفعت عريضة بالأمر ـ تجد نصها في
هذا العدد من المجلة ـ وأجريت مقابلات مع مؤسسات إعلامية
عديدة في الخارج لدعم حق المرأة في السعودية بقيادة السيارة!
في ذات الإتجاه، أصدر الإصلاحي الدكتور متروك الفالح
بياناً بإسمه يكشف فيه عن تعرضه لمحاولة اغتيال دبرتها
عناصر تابعة لوزارة الداخلية، وأشار الفالح في بيانه الى
أن أي مكروه يقع له في المستقبل فإن وزارة الداخلية ستكون
بشخص وزيرها الأمير نايف مسؤولة عنه، مطالباً المؤسسات
الحقوقية الإقليمية والدولية بالضغط على نايف ووزارته
للكف عن مثل هذه الممارسات.
ومن الأنشطة تقدم بعض الإصلاحيين لوزارة الشؤون الإجتماعية
بترخيص لتشكيل جمعية أهلية تحمل اسم (مؤسسة الوطن للجميع)
تهتم بنشر ثقافة المجتمع المدني وحقوق الإنسان وزرع ثقافة
المواطنة ومفاهيمها.
كما أن هناك نشاطات ثقافية وإعلامية ومنتديات جديدة
تأسست على شبكة الإنترنت كلها تعكس حالة حراك إصلاحي جديد
سبق له أن أُجهض عبر الإعتقالات التي لاتزال وزارة الداخلية
تراهن عليها، وهي التي تحتجز عدداً من دعاة الإصلاح بدون
محاكمة خلاف القانون، وباتهامات باطلة مثل (تمويل الإرهاب)!
وهي تهمة لم تصدقها أية مؤسسة حقوقية، فالإرهاب له طابع
ديني سلفي وهابي، وكل المعتقلين الإصلاحيين لم يؤمنوا
بالعنف ولا هذا توجههم، كما أنهم معروفون بالنشاط الحقوقي
لدى العديد من المؤسسات الحقوقية الإقليمية والدولية.
مدلولات الحراك الإصلاحي الجديد
يشير الحراك الإصلاحي المتنامي الى العديد من القضايا
والحقائق:
أولها، أن قمع وزارة الداخلية للأصوات الإصلاحية لن
يكون له أثر مستديم، أي أن رهان العائلة المالكة في مواجهة
المطالب بالإصلاح إن اعتمدت على آلية القمع وحدها، فستكون
خاسرة، شأنها في ذلك شأن مواجهة (العنف) حيث لا يمكن مواجهته
بالأداة الأمنية وحدها، بل ببرامج سياسية واقتصادية جذرية
تزيل مسببات المشاكل. والقمع الذي لا يزال مسلطاً على
المطالبين بالإصلاح له وجهان: وجه يخدم العائلة المالكة
من حيث أنه قد يحدّ من الإندفاعة المطالبة بالإصلاح، فيجعل
العديد من الناشطين يراجعون حساباتهم ويؤجلون أنشطتهم
بانتظار فرصة أفضل للتحرك. وهناك وجه آخر لا يخدم العائلة
المالكة، وهو أن القمع قد يحفّز على المزيد من النشاط
الإصلاحي، أي أنه يصبح مبرراً للمطالبة والتحرك بدل أن
يكون عامل تجميد وتهدئة. لكن وزارة الداخلية والعائلة
المالكة عامة ترى أن القمع المتصاعد تدريجياً سيفي بالغرض،
وسيخرس الألسن، مع أن التجربة الحالية تثبت أن رؤيتها
وتحليلها غير صحيح.
وثانيها، ان النشاط الإصلاحي الجديد يأتي في مناخ محلي
ملائم، وإن كان المناخ الدولي غير ملائم بشكل كامل، حيث
لايزال الغرب يغمض عينيه عما يفعله حليفه السعودي الغني،
بغية الحصول على بعض المكاسب الإقتصادية المتوفرة من زيادة
أسعار النفط، أو الحصول على مكاسب سياسية وتنازلات استراتيجية
سعودية تتعلق بقضايا المنطقة: الحرب على إيران، ترتيب
الوضع في العراق، إخماد الحركة الجهادية في فلسطين مقابل
تسوية عرجاء.
فيما يتعلق بالمناخ المحلي يكفي أن نذكر أن موجة الإعتقالات
الأولى التي طالت الإصلاحيين جاءت في وقت كانت فيه الأوضاع
الإقتصادية والمعيشية آخذة بالتحسن حيث الصعود الصاروخي
لسوق الأسهم، وحيث الآمال العريضة بأن يقوم ولي العهد
ـ الملك الحالي ـ بتنفيذ وعوده التي تبين أنها فارغة تماماً
من أية مصداقية. في تلك الأثناء، جرى ضرب الإصلاحيين،
وكان المواطنون لاهين الى حد كبير بفورة الأسهم، وكان
الوضع الدولي يخدم العائلة المالكة فلم يستنكر أفعالها
أو يطالبها بالإصلاح.
اليوم تغير الوضع، فقد مضى عامان اختبر فيهما الشعب
الحكومة والملك، واختبر وعودهما، وتبيّن أن تلك الوعود
برفع مستوى المعيشة وبحفظ كرامة المواطن من الفقر، وبالإصلاح
الذي كرر المسؤولون انهم بصدد القيام به ما هو إلا فقاعات
فارغة المضمون. جاء الملك فانهارت سوق الأسهم وزاد الناس
فقراً حين قضى على مدخراتهم، وحول الغالبية العظمى من
أعضاء الطبقة الوسطى الى خانة الفقراء. ومع أن الدولة
تعيش منذ ثلاث سنوات على الأقل ارتفاعاً غير مسبوق في
مداخيلها النفطية (الفائض في الميزانية هذا العام يبلغ
نحو 300 مليار ريال) إلا أن الأزمات السابقة بقيت دون
علاج: فلا زال المواطن بحاجة الى سرير العلاج وقارورة
الدواء، وكرسي الدراسة، والوظيفة حيث البطالة مازالت قائمة.
لم يجد المواطن حلاً لكل هذه المشاكل رغم تقادم السنين،
ولم تحل أزمة الفقر في بلد شديد الغنى، في حين أن نحو
20% من الشعب على الأقل يعيشون تحت مستوى حد الفقر. زد
على ذلك ما جره التضخم، حيث غلاء الأسعار، وتبين أن التضخم
في المملكة خلال الفترة الوجيزة الماضية كان أرفع مستوى
له على مستوى المنطقة بمجملها حيث بلغ نحو 4%، وقد ضربت
موجة الغلاء المواد الغذائية الأساسية فأصابت الفقراء
ومتوسطي الدخل، وهي الشريحة الأكبر من المواطنين، في مقتل.
في مثل هذا الجو، هناك مبرر للمعارضة. وهناك مبرر يشتد
للإصلاح. وهناك مبرر للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين،
وهناك مبرر أكبر للضرب على أيدي اللصوص والمفسدين الذين
راحوا يضيعون ثروة الوطن سرقة وفساداً، إذ كلما زادت تلك
الثروة زاد فسادهم وزادت لصوصياتهم.
إن هذا الجو كفيل بأن يمدّ الحركة الإصلاحية المتنامية
بالوقود اللازم للإستمرار والنمو والتطور لتحقيق أهدافها.
وثالثها، إن هذا الموج الجديد من الحراك الإصلاحي يبدو
أكثر شجاعة من سابقه، واكثر إصراراً وتحديّاً، إنه موجٌ
يعتمد المراكمة في الخبرة والتجربة، ويعتمد المواجهة الصريحة
والواضحة وعدم المساومة، ويمكن للمتابع أن يلاحظ طبيعة
الخطاب الإصلاحي من هذه الناحية المتحدية، فنجدها في العرائض
المقدمة، وفي بيان الدكتور متروك الفالح، حيث الإتهام
بلا لبس لوزير الداخلية ووزارته، وكذلك في النشاطات النسوية
المطالبة بقيادة السيارة. ثم إن اللغة المستخدمة تكشف
عن استعداد مشكور لتحمل النتائج التي تترتب عليها من اعتقال
وقمع وتشويه سمعة، بل وما هو أكثر، فضلا عن الإعتقال والطرد
من الوظيفة والمنع من السفر. إن النشاط الإصلاحي يدرك
هذه المرة ـ بعكس المرة السابقة ـ بأن هناك ثمناً يجب
أن يدفعه دعاة الإصلاح لتحقيق الغاية النبيلة في بناء
وطن عصري حر يعيش فيه المواطن بكرامة ويتمتع فيه بحقوق
غير منقوصة.
ورابعها، ويتبع ذلك، أن الموج الإصلاحي الجديد يأتي
في ظل تراجع أكبر لهيبة الدولة، تلك الهيبة والمحافظة
عليها وإثبات وجودها قادت في السنوات السابقة الى تشديد
قبضة العنف والقمع الرسمي. ولكن ومع ازدياد فساد الدولة
وفشلها في الإيفاء بواجباتها تجاه مواطنيها، وكذلك مع
عجز الدولة عن إيقاف غائلة العنف الديني المتطرف، وانكشاف
الكثير من الخلايا التي قيل أنها تريد إسقاط نظام الحكم..
كل هذا جعل مكانة العائلة المالكة والحكومة صغيرة في أعين
المواطنين، الى حد أثر بشكل كبير على شرعيتها.
إن سقوط هيبة الدولة يشي بأمرين: الأول أن العنف الديني
المتطرف لن ينتهي، قد يخفّ أحياناً ولكنه قد يزداد، خاصة
وأننا على أبواب عودة المقاتلين السعوديين من العراق،
ومعهم ـ كما هو متوقع ـ ستتكرر أعمال العنف والتفجيرات،
خاصة وان البيئة المحلية لاتزال مهيئة لمثل تلك الأعمال،
ويوجد من يبررها من بين شركاء آل سعود في الحكم. الأمر
الثاني، أن انحطاط هيبة الدولة يعني عدم الخوف من قمع
السلطة من جهة، والإستعداد لتحمل نتائج المواقف السياسية
الإصلاحية السلمية من جهة أخرى، وهذا يؤدي الى نتيجة واحدة:
ازدياد أعداد المنخرطين في المطالبة بالإصلاح.
هنا، ماذا بإمكان وزير القمع ومن ورائه العائلة المالكة
المستبدة أن يفعلوا؟!
لا يبدو أن خيار الإصلاح السياسي والديني والإقتصادي
الشامل الذي تدعو له عرائض الإصلاحيين مطروحاً لدى الأمراء،
فهم ـ كما هو واقع الحال ـ تناسوا الموضوع، وانشغلوا بالنهب.
ولا يبدو أن الأمراء سيصمتون أمام تطور الدعوات الإصلاحية
وتبلورها، فيغضون الطرف عنها مثلاً، أو يعتمدون القانون
الذي وضعوه للحدّ من تلك النشاطات.
وبالتالي، لا يبدو أن بحوزة الأمراء شيء غير استخدام
الأداة الأمنية بأية حجّة، حتى وإن لم يصدقها أحد، وحتى
وإن أدّت الى عكس المراد في المدى الإستراتيجي.
لكن قد تنقلب الصورة في واحدة من هذه الحالات:
ـ أن تنخرط أعداد كبيرة في ميدان الإصلاح، خاصة من
شخصيات لها وزنها في المجتمع، وبالتالي قد تجد العائلة
المالكة أن من الحكمة تقديم بعض التنازلات لشق صفوف الإصلاحيين
وإسكات قسم منهم.
ـ أن تنجح الحكومة السعودية في توفير الرفاه وتحل المشكلات
الإقتصادية والمعيشية وتلغي الفقر والبطالة وغيرها، بحيث
يكون هذا النجاح بديلاً عن المطالبة بالحقوق.. وهذا النجاح
غير المتوقع ضمن الظروف الحاضرة يحتاج الى خطط والى جهود
كبيرة تستمر لسنوات، وبالتالي فمن غير المرجح حدوثه في
الوقت الحاضر. لكن قد يطلّ الأمراء على المواطنين ببعض
(المكرمات!) يعقبها (خبطات اعتقال) فيما يكون المواطنون
منشغلين بالتمتع بمكرمات آل سعود تلك!
ـ أن تعود قوافل الجهاديين من العراق لتمارس دورها
العنفي في الداخل، وفي مثل هذه الحالة هناك احتمالان:
الأول أن تضرب الحكومة بقبضة من القمع الجميع، وتعتبر
الحركة الإصلاحية السلمية رديفاً للعنف، تماماً مثلما
فعلت من قبل. والثاني، أن تقدم على بعض التنازلات للتيار
الإصلاحي ـ في حال اشتدّ عوده ـ من أجل تحصيل إجماع محلّي
يشرعن مواجهتها مع تيارات العنف، فإذا ما تخلصت من العنفيين
عادت الى الإصلاحيين فاعتقلتهم وضربتهم.
ـ أن تنشق العائلة المالكة، سواء في عهد الملك الحالي،
أو في حال وفاته، بحيث يرى بعض الأمراء الإستعانة بالجمهور
لتعزيز مواقعهم في السلطة، وستكون القوى الإصلاحية جاذبة
للأطراف المختلفة لاستخدامها في المعركة. وقد توفر عملية
الخلاف الداخلي هامشاً من الحرية وبعض الإصلاحات الجزئية.
ـ ان تقوم وزارة الداخلية من جديد بضرب رؤوس العمل
الإصلاحي ووضعهم في السجون، مثلما فعلت من قبل وبدون سابق
إنذار وبدون النظر الى المبررات والإتهامات.
ـ أن يتهيأ الظرف الإقليمي (هدوء المشهد العراقي) والظرف
الدولي (انتخاب رئيس أميركي جديد) باتجاه يضغط من جديد
على العائلة المالكة ـ بعد تناسيها لمدة طويلة وبعد استنفادها
مالياً وسياسياً ـ كيما تقوم ببعض الإصلاحات.
|