النظام القضائي الجديد
تحدي الإصلاح ورهان الميدان
سعيد المحيميد
الشيخ اللحيدان: أي قضاء يريد؟!
|
رد فعل فاتر وحذر من التيار الإصلاحي إزاء إعلان الملك
عبد الله في الثاني من أكتوبر عن نظامي القضاء وديوان
المظالم. مرّ الإعلان بهدوء دون أن يعقبه فعل إبتهاجي
شعبي، فالتجارب السابقة التي خاضها الإصلاحيون تجعل كل
تغيير من جانب الحكومة محفوفاً بالريبة والخوف وربما بعدم
المبالاة، خصوصاً وأن مشروع الإصلاح كما تأمله غالبية
الطيف السياسي الشعبي مازال محبوساً في طي الإرادة العليا
المحجمة عن قرار تاريخي يحدث نقلة حقيقية في الإتجاه الصحيح
للتغيير.
كان طبيعياً أن لا تحظى التعديلات الجديدة بالرضى والقبول
من التيارين الاصلاحي والمحافظ، فلا الأول على قناعة تامة
بعد معاناته الطويلة مع العائلة المالكة خلال السنوات
الماضية والتي دفع فيها الإصلاحيون ثمناً باهظاً من حرية
رموزه ومناصريه، ولقمة عيشهم ما ينفي أن تكون ثمة نوايا
مبيّتة إيجابية تمحو صورة كالحة رسمها الأمراء منذ الخامس
عشر من مارس 2004، حين أقدموا على الزج بثلّة من الإصلاحيين
في المعتقل بتهمة المطالبة بالإصلاح، ولا الثاني، أي التيار
المحافظ، يقبل أن تتآكل سلطته الروحية على وقع تبدّلات
في أنظمة وتشريعات يرونها فاسدة، ومستمّدة من عقائد الكفّار.
لاريب أن التطوّر الإقتصادي مع ارتفاع أسعار النفط
ورغبة الشركات الأجنبية في الدخول الى الأسواق المحلية
بعد توفير ضمانات قانونية لعملها وحقوقها المالية شكّلت
حافزاً قوياً للتعديلات في النظام القضائي، ولا شك أن
ضغوطات داخلية وخصوصاً من التيار الإصلاحي أجبرت العائلة
المالكة على إجراء تعديلات (بصرف النظر عن الموقف منها).
ندرك أن للعائلة المالكة خبرة طويلة في تشويه المعاني،
فهي تستعمل عناويناً منزوعة المضامين، وإطارات بلا محتوى،
وهو أهم سبب يدفع كثير من المواطنين للتريّث، والحذر،
والريبة، وإنتظار الفعل، فقد أتقنت شعوبنا فن الانتظار
حد الإدمان عليه، فشعوبنا كما قال أحد الفلاسفة الأوربيين
تعشق الوعود، وإن أصبحت قادرة بعد طول تجارب على عدم الوقوع
ضحية خداع متكرر، فقد باتت التجارب الفاشلة أكبر مصدر
للمعرفة المحبطة لشعوبنا.
لماذا لم يفرح المواطنون بنظام قضائي جديد؟ هل لأن
حلم الإصلاح كان مجرد دسيسة مؤقتة غرزتها مجرد نزوة طائشة؟
ليس الأمر كذلك على الإطلاق، فالإصلاح الشامل والجوهري
مازال السبيل الذي يسير إليه وعليه غالبية الطيف السياسي
الوطني في بلادنا.
حراسة التيار الإصلاحي الوطني على القيم الأصلية للمجتمع
لم تعد مورد فحص، فقد غادر الحرّاس الإفتراضيون مواقعهم،
فلا العائلة المالكة ملتصقة بدعاواها، ولا الحليف الديني
صامد على مبادئ الإصلاح وفق رؤيته الدينية التقليدية،
فقد يصل به الالتحام بمشروع الدولة الى حد تصنيمها إحساساً
منه بأنها، أي الدولة، وحدها الضامن لوجوده واستمراره.
التعديلات القضائية الجديدة جاءت تعبيراً أميناً عن
رؤية العائلة المالكة لنفسها، ولسلطتها، وأيضاً لمن تحكم.
فهذه التعديلات ليست إستجابات لأوضاع خارجية فحسب، بل
هي أقرب ما تكون لمضاهاة للربوبية الإلهية، حيث لا يسئل
عما يفعل وهم يسئلون ولايؤمر بفعل وهم يؤمرون، فكل ما
تفعله العائلة المالكة يندرج في سياق (الإحسان) وليس (الواجب)،
والفارق واضح بينهما، و(ما على المحسنين من سبيل).
التعديلات تندرج في إطار ما أطلق عليه (مشروع الملك
عبدا لله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء)، وقد خصِّص
له حوالي 7 مليار ريال. يعتصم المشروع بالشريعة الإسلامية
وفق الأحكام الحنبلية، ويؤكد على استقلال القضاة إستقلالاً
كاملاً، ونقل الاختصاصات القضائية من مجلس القضاء الأعلى
الى المحكمة العليا، فيما يكتفي المجلس بالإشراف على شؤون
القضاة الوظيفية، بما يجعل المحكمة العليا هي المرجع القضائي
الأعلى في البلاد. في الوقت نفسه، تم تقسيم محاكم الدرجة
الأولى الى خمسة أنواع متخصصة وهي: العامة، الجزائية،
الأحوال الشخصية، التجارية، والعمالية، وتم الإبقاء على
ديوان المظالم باعتباره هيئة قضائية مستقلة تتبع الملك
مباشرة.
وكما يلحظ، فإن الإبقاء على ديوان المظالم مستقلاً
عن النظام القضائي يمنح الملك دوراً رئيسياً كحكم بين
المتخاصمين، بما يذكّر بأعراف ما قبل الدولة، أي النظام
القبلي الذي يمنح زعيم القبيلة سلطة قضائية إستثنائية.
نلفت هنا الى أن النظام القضائي الجديد، شأن الأنظمة
الأخرى قاطبة، يمنح الملك سلطة مطلقة، فهو يعيّن ويعزل،
ويعفو ويعاقب، ويمنح ويمنع. فهذا النظام كغيره يخوّل الملك
إختيار وتعيين رئيس المحكمة العليا وأعضائها، وكذلك رئيس
المجلس الأعلى للقضاء وأعضائه، بالإضافة الى رئيس هيئة
التحقيق والإدّعاء العام. نشير الى أن الأخيرة كانت تابعة
لوزارة الداخلية، ولكن بحسب التعديلات القضائية الجديدة
أصبحت هيئة التحقيق والإدعاء العام تابعاة للقضاء.
وزير العدل ويطلق عليه وزير الظلم
|
النظام القضائي المعدّل ليس طفرة إصلاحية فهو يحتفظ
بالسمات الوراثية للدولة السعودية، كما يجمع بين القديم
والحديث، بل يمكن القول بأن تلفيقاً قضائياً قد جرى ويضفي
على النظام مسحة تطوّر ولكنه يحتفظ بكل مسوّغات العقم
التي لا تسمح بولادة أي جنين إصلاحي. والدليل على عقمه
هو الانتهاكات القضائية الصارخة، التي مازالت تجري في
السجون والمعتقلات، وفي غياب محاكمات عادلة للمعتقلين
والمتّهمين، وفي ضياع الحقوق المادية للأفراد والشركات.
وإذا ما فتحنا أفق الجدل واسعاً فإننا نستحضر كل التجارب
الماضية التي خاضها الإصلاحيون منذ نشأة الدولة وحتى اليوم،
حيث ينبيء كل شيء عن إحجام مفعم بغطرسة إزاء ما يرتبط
بالتغيير والانتقال من حال قديم الى حال حديث. موضوعات
الإصلاح كلها معطّلة: حرية التعبير، والإجتماع، حقوق المرأة،
المشاركة السياسية، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، المحاسبة،
الشفافية، حكم القانون، حق التعليم والصحة. إذ لا يمكن
لنظام قضائي أن يحقق جدارته وصدقيته ما لم تكن هذه الموضوعات
قد أنجزت.
هل سيخبرنا النظام والقائمون عليه كيف سيتم الفصل بين
المؤسسات الدينية والنظام القضائي، وحكم القانون، وهيئة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل سيخبرنا النظام
والقائمون عليه كيف سيتم الفصل بين وزارة الداخلية والأجهزة
الأمنية والنظام القضائي، والمحاكمات السريّة التي تخضع
لسلطة وزارة الداخلية، بل والقضاة المرتبطين بالداخلية
وليس للقضاء سلطة عليهم. وهل سيخبرنا النظام كيف سيكون
مستقلاً، إذا كان للملك سلطة التعيين والعزل، وإذا كان
رئيس المحكمة الكبرى لن يكون سوى رجلاً مضمون الولاء السياسي
والإنتماء الأيديولوجي.
هل نقبل بالتحليل القائل بأن التعديلات القضائية ليست
مرتبطة بتجاذبات داخلية، وإنما جاءت لتلبية أوضاع إقتصادية
مرتبطة بالخارج، أي بما حدث من تغييرات كبيرة على صعيد
التنمية والتجارة، إذ (لم يعد من الممكن أن يجلس رجل دين
وهابي ليفصل في الخلاف بين شركة بترول عالمية، والدولة
السعودية، أو بين شركة مايكروسفت ببرامجها التي لا تتوقف،
وبين وكيلها المحلي. كان لابد من أن يفصل بينهم قاض درس
القانون التجاري والدولي في جامعة حديثة، وليس شيخا معمما
لن يجد في مراجعه ما يعينه على الحكم بالعدل، حتى ولو
كانت النوايا طيبة، والعدل هو المنشود).
وبحسب معلقّين لوكالة رويترز فإن النظام القانوني الساري
منذ عشرات السنين عندما كانت البلاد مغلقة على العالم
الخارجي (لا يصلح للتعامل مع العالم الحديث).
التحديث القضائي تطلب 7 مليارات ريال من أجل بناء دور
محاكم جديدة وتدريب القضاة، وإنشاء محكمتين عليا أحدهما
للمحاكم العامة والأخرى للمحاكم الإدارية ضمن (مشروع الملك
عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء) تمثلان المرحلة
الأخيرة في النظام القضائي بعد اللجوء الى محاكم أول درجة
ومحاكم الإستئناف، وتعادل المحاكم العليا الجديدة محكمة
النقيض. لا يخبر النظام عن وظائف المحاكم القديمة الشرعية،
ومجالات اختصاصها. فالنظام الجديد يضع رئيس مجلس القضاء
الأعلى، أعلى سلطة قضائية في السابق الشيخ صالح اللحيدان
في دور إشرافي يقتصر على مراجعة القضايا الإدارية مثل
رواتب وتعيينات القضاة، فهل سينسحب ذلك على المحاكم الشرعية
أو القضاء الشرعي، ليخلي السبيل أمام المحاكم المدنية
من أجل الفصل في الخصومات. فقد كانت المحاكم السابقة تقف
عقبة أمام الشركات الأجنبية في الاستثمار والعمل وفق معايير
وقوانين معترف بها دولياً.
بالرغم من التحفّظات المتوقّعة من التيار الديني السلفي
المحافظ، والذي يتمسّك برؤيته الدينية في صياغة أحكام
الشريعة، وتسييلها في هيئة قوانين وأحكام قضائية، فإن
الملك وكبار الأمراء يراهنون على تعويضات أخرى يمنحونها
للعلماء والمشايخ من أجل شراء صمتهم. صحيح أن القضاء كان
دائماً حلبة المواجهة بين الحكومة والتيار الديني السلفي،
ولكن هي حلبة تخضع لقانون التسويات أيضاً، فقد أثبت التيار
الديني السلفي مرونة كافية حين يوضع بين خياري: المواجهة
مع المصير، أو القبول بنصف القرص أو حتى ربعه.
إذاً الأمر كله يعود الى أوضاع تجارية جديدة بحاجة
الى ترتيبات قانونية من أجل تشكيل أرضية جاذبة لاستثمارات
خارجية، وشراكات تجارية عابرة للحدود والقارات، وهذا ما
يتطلب أيضاً بنية قضائية متطوّرة توفّر ضمانات قانونية
تكفل حقوق ومصالح الآخرين.
المحامي الإصلاحي عبد الرحمن اللاحم وصف في مقالة له
في الثالث من أكتوبر في (الوطن) النظام القضائي الجديد
بأنه (خطوة إصلاحية بالغة الأهمية)، على أساس مفهوم وغاية
القضاء باعتباره (الضمان الحقيقي لإرساء العدالة، وحماية
مكتسبات الأفراد، وحفظ حقوقهم ويمثل في الوقت ذاته، الأرضية
الطبيعية لأي حراك جدي نحو الانفتاح على المستقبل، سواءً
كان على الصعيد الاقتصادي، أو الاجتماعي أو الحقوقي، فلا
يمكن الحديث عن مشاريع تنموية واعدة، تستقطب رؤوس الأموال
الأجنبية، وتخلق بيئة استثمارية مثالية، دون وجود مؤسسات
قضائية فاعلة، قادرة على التعاطي الإيجابي مع المتغيرات
الكونية، بآفاق منفتحة، ومؤسسات معاصرة وبيئة قانونية
حديثة). ولكن الشرح المتفاءل للزميل اللاحم لا يعدو حيزه
التجاري. الجزء الآخر من مقالة اللاحم عن التعديلات القضائية
يندرج في سياق التطلعات الإصلاحية من قبيل الفصل بين سلطات
الدولة، واستقلالية القضاء.
لاشك أن الخبرة القانونية لدى اللاحم ستمنحه في وقت
لاحق قدرة على فحص جديّة تطبيق النظام القضائي بكل بنوده
ومبادئه. وقد أشار اللاحم للحاجة الى (حزمة تشريعية تكمل
تلك الأنظمة، وذلك في تشريع أنظمة تحكم الخصومات القضائية
من حيث الموضوع، مثل مدونة للأحوال الشخصية، وتحديث القانون
التجاري، وتشريع نظام جزائي من خلال تقنين العقوبات ترسيخاً
لمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
عبد الله بن بجاد في (الإتحاد) في الثامن من أكتوبر
تمنى أن (ألا تضيع هذه المبادرات في معاملاتٍ بيروقراطية
أو أولويات لا تخدم الهدف السامي لها). ويلفت بحذر الى
(إن انتشار ثقافة القانون والنظام تمنح المجتمع استقراراً
وعدالةً يمثلان الدعامة الأساس لأي خطةٍ عملية للإصلاح
والتقدّم والنهوض).
أحد المواطنين كتب في موقع حواري سعودي أن التعديلات
القضائية هي (مجرد تحسين صورة القضاء لبلادنا خارجياً،
ومزيد من الاجراءت الروتنية سوف تطيل بصدور الأحكام القضائية،
ولازال الدوران بحلقة مفرغة).
|